نشرت فى جريدة الوطن
3/3/2001
بين الرفض والنقد والانتظار المبدع
أصوات كثيرة ترتفع فى مواجهة المسيرة الغربية، أو بتحديد أدق: الأمريكية. لاينبغى أن نفرح بعلو الصوت دون تحليل المحتوى. هيا نحاول أن نصنف بعض هذه الأصوات:
(1) فريق الوصم والمعايرة (والفخر والهجاء): وهو الذى ينبرى يعدد ما عندهم من أنواع الجريمة، ونسب الانتحار، وسيطرة المافيا، وقصص الفساد، وانتشار المخدرات، وكأن هذا كله يصف المجتمع الغربى دون سواه، وكأن هذه المثالب هى أهم ما يميز المجتمع الغربى دون الإنجازات العلمية والفنية والإبداعية..إلخ. هذا الفريق يمكن أن يمثل “الرفض الجزافى”.
(2) فريق التحذير والتبصرة، وهو فريق يتخذ موقف الحذر المترقب، فهو لا يستسلم لغضبه أو غيظه أو شعوره بالنقص، ولكنه يفند ما يرى عندنا وعندهم قبل أن يحكم عليه، وهو فريق يغلب عليه الشك، وأحيانا سوء التأويل، وكثيرا ما يتهم هذا الفريق بما يسمى بـ “التفكير التآمرى”، إذا تمادى فى تفسير كل ما يصيبنا، حتى لو كان ذلك بسبب تقاعسنا نحن، يفسره بأن هذه القوى الإمبريالية المسيطرة هى التى تحيك لنا المؤامرة تلو المؤامرة، حتى نظل فى ضعفنا وتخلفنا إلخ…
هذا الفريق يصيب حين يحسن التحذير، ويخطئ حين يبالغ فى التبرير والتأويل.
(3) فريق النقد والمواجهة وهو الفريق الذى يرى نقصهم بقدر ما يرى تفوقهم وإنجازاتهم، وفى نفس الوقت هو يرصد النقص المقابل عندنا، كما يعترف بالقصور الوارد فى تقييم أدائنا فى مواجهة تفوقهم وتقاعسنا، وهو إذ يفعل ذلك يتفهم جيدا معنى النقد المسئول، وينجح كثيرا فى تعرية المواقف الملتبسة، وتحديد نقط الضعف ونقط القوة على حد سواء. وكثير من أفراد هذا الفريق هو ممن شدوا الرحال – مؤقتا أو هجرة- إلى بلاد هذه الحضارة، التى يعيبونها فلاحت لهم فرص المعايشة المباشرة لنبض الإيقاع اليومى لهؤلاء القوم الذين ينقدونهم، واستفادوا من رحابة مساحة الحوار لديهم.
هذا الفريق يقوم بما يمكن أن يسمى “البلاغ الأمين”، أو “النقد الموضوعى”. هذا أحوج ما نحتاجه هذه الأيام ونحن نحاول ليس فقط أن نلحق بهم، ولكن أن نضيف إليهم.
إن التفرقة بين الفريق الأول (فريق الرفض والشجب)، مضافا إليه بعض الفريق الثانى (فريق التحذير الذى يصل إلى التبرير التآمرى) وبين فريق النقد الموضوعى هى أول خطوة للاستفادة من آلام المواجهة فمسئولية السعى إلى ما نصلح به، ونتميز فيه.
إن كلا من الرفض والشجب وحتى النقد الموضوعى ليست أهدافا فى ذاتها، لن نكسب شيئا إذا عددنا عيوبهم بالحق والباطل، ولن ينفعنا الزعم بأننا أفضل أخلاقا، وأمتن أصلا، إن المطلوب هو مواجهة حضارية ببدائل واقعية، قابلة للتطبيق هنا والآن، فالنجاح فالاختبار، فالتصدير إذا أمكن. هذا أمر يحتاج إلى نهضة ووعى وعمل متصل، كما يحتاج إلى إبداع وزمن قد يطول حتى نثق فى قدرة عطائنا، وحقيقة قدراتنا، فما العمل ؟
أقر وأعترف أن هذا الموقف هو من أصعب المواقف التى يمكن أن يمر بها فرد أو شعب. وخاصة إذا كان من أهل النقد الموضوعى والبصيرة الواعية. خذ مثلا قيمة الديمقراطية الغربية :كلنا يعرف عيوبها، حتى د. نبيل على فى رائعته الأخيرة عن الثقافة العربية وعصر المعلومات (عالم المعرفة يناير 2001) ينبهنا “ص 196″ قائلا” … نحن نحتاج إلى فكر سياسى جديد، يكشف عن وهم الديمقراطية الزائف، ويحرر”سجناء الهواء الطلق” على تعبير أدورنو- الذين يعتقدون أنهم أحرار، وما هم بأحرار، يساقون إلى صناديق الانتخابات كالقطيع، وتحصد آراءهم ومواقفهم إحصاءات قياس الرأى العام.. إلخ” لكن ماذا بعد أن نرى ديمقراطيتهم على حقيقتها؟ ماذا بعد أن نشكك فى قياسات الرأى العام؟ هل عند د. نبيل على (وأمثاله من المخلصين) بديل محدد أفضل من الديمقراطية وأصدق من قياسات الرأى العام ؟ الإجابة الحاضرة الأمينة هى “النفى”، لا يوجد بديل الآن. لكن ليس معنى ذلك أن نستسلم لما نراه غير صالح لنا (ولا لهم !!)، الأخطر من ذلك هو أن نمارس نفس ما ننقده عندهم هو هو ولكن تحت اسم آخر، نستلهمه من تراثنا تعسفا، ونحشره حشرا فى عمق منظومتهم دون تغيير جوهرى.
إن من حقنا أن نعترض، وأن نعدد المثالب، وأن نرى النقص حتى لو لم نملك البديل الجاهز. لكن هذا الحق لا يكون شريفا ولا مسئولا إلا إذا أصبح دافعا متجددا متحديا للبحث عن بديل حقيقى قادر فعلا. مادام الموجود بهذا السوء والزيف، فلابد أن هناك بدائل أفضل حتى لو لم نعرفها، حتى لو لم تكن جاهزة الآن.
قد تحل التكنولوجيا الحديثة التى تسمح بالتواصل والحوار المباشر محل تلك الديمقراطية الزائفة، أو قياس الرأى العام من خلال عينات ملتبسة.
قد يحل تشريح المجتمع إلى فئات متميزة (ليست بالضرورة طبقات) تستطيع أن تمارس حرية أخرى، كل فى مجال تخصصه، بدلا من هذا الزعم المطلق بالسماح بفتوى كل الناس، فى كل شئ، أو إنابة من لا نعرف فيما لا يستطيع (الديمقراطية بالإنابة).
لا مانع أن نقبل المرحلة، لكن لتكن مرحلة لها نهايتها فى انتظار تراكم المحاولات التى لا بد أن تتمخض عن البديل الأقدر والأنفع.
هذا هو ما أسميته “الانتظار المبدع”، وشرطه ألا تتوقف المحاولات مهما طال الزمن.