الاهرام: 7 / 11 / 1982
بل … من هناك نبدأ
كان الكاتب الاسلامى التقى النقي، الصادق مع نفسه ومع الناس، المرهف الحس، اليقظان الضمير، الاستاذ خالد محمد خالد الى ثورة يوليو 1952، ونستطيع أن نضيف اليه استكمالا لموقف واحد، كتابه الثانى قبل الثورة “مواطنون لا رعايا”، فكانت نقطة البدء كما رأها الكاتب، هى – قبل أى شئ آخر – أن يرتفع فى حياتنا العامة لواء الحرية والعدالة ليشعر كل مواطن بأنه ابن لهذا الوطن، وليس “رعية” لذى سلطان
ومضت بعد ذلك عشر سنوات أو أكثر قليلا، وانعقدت “اللجنة التحضيرية” التى كان من شأنها أن تمهد للمؤتمر القومى الذى أصدر “ميثاق” العمل الوطنى، وكان من أهم الجوانب فى ذلك التمهيد، أن تنظر “اللجنة التحضيرية” فى تحديد الجماعات التى منها تتألف قوى الشعب العاملة، وذلك يقتضى تحديد الفئات التى يجب عزلها وحرمانها من الحقوق السياسية، ومعظم هؤلاء – بالطبع – من قادة العمالد عضوا فى اللجنة التحضيرية، وكنت
ولم تكد اللجنة تبدأ جلستها الأولي، وتطرح مسألة “العزل السياسى”، حتى نهض خالد محمد خالد ليرفع صوته جهيرا بأنه لا عقاب ولا عتاب، على من كانت حياته قد جرت وفق القوانين القائمة إذ ذاك، إذ كيف يحاسب صاحب أرض أو مال، جمع ثراءه فى اطار قانون قائم؟
فلما عقدت اللجنة التحضير جلستها الثانية فى اليوم التالى حضر اجتماعها الزعيم جمال عبد الناصر، وفتح باب الحوار مع خالد محمد خالد فيما كان خالد قد آثاره فى الجلسة الأولى عن فكرة العزل السياسى ومدى مشروعيتها، ولم يكن خافيا على احد من الحاضرين، ما انطوى عليه الحوار من تقدير عبد الناصر لخالد، تقديرا لم يكن ليتعارض مع رفضه لفكرته بالنسبة لمن كان يطلب حرمانهم من حقوق سائر المواطنين
ثم جاءت الجلسة الثالثة فى اليوم الثالث، فرأى كل ذى بصر أن خالد محمد خالد يجلس وحده على صف طويل من المقاعد، فقد حرص جيران الأمس على البعد قليلا أو كثيرا، اتقاء للشبهات خشية أن يقال عنهم أنهم يشاركونه الرأي، ولم يطمئنهم كل ما أبداه عبد الناصر نحو خالد من تقدير وتكريم! فأبى على خالد حسه المرهف الا أن يزيد المسافة بعدا بينه وبين هؤلاء عسى أن تطمئن قلوبهم بين ضلوعها؟ كل ذلك أذكره فى وضوح، وكأننى أروى عما شهدته وسمعته صباح هذا النهار، وحتى اذا خانتنى الذاكرة فى تفصيله هنا أو تفصيله هناك – والذاكرة تخون – فالذى لا أشك فيه هو أننى عندئذ قد همست لنفسى قائلا : كلا، يا آستاذ خالد، فليس “من هنا نبدأ” بل كان ينبغى أن تجعلها “من هنالك نبدأ”، والذى قصدت اليه من هذه التفرقة، هو أننا قبل البدء بقيم الحرية والعدالة وما اليهما مما نطالب به من حقوق للانسان لابد أولا نعد نفوس
وكأنى أسمع بين القراء قراء تأخذهم الدهشة الغاضبة، فيصيحون: ما هذا الذى يقوله كاتب الماقل؟ هل رأيتم- يا خلق الله – بين الناس انسانا لايريد لنفسه حرية وعدالة؟ لكن هؤلاء القراء الذين أخذتهم الدهشة الغاضبة المغيظة، لايفرقون بين معان يرددها الانسان بلسانه مع من يرددونها، ومعان أخرى يؤمن بها ذلك الانسان لأنها انبثقت من صميم فؤاده، ففى الحالة الأولى قد يهتف بحياة الحرية والعدالة هتافا تنشق له الحنجرة، حتى اذا ما لاحت فى الأفق نذر الخطر لاذ بالفرار، وأما فى الحالة الثانية فهو هو الذى يحيا فتحيا بحياته الحرية والعدالة، لأنهما يجريان فى عروقه مع الدماء، وأذا ما تجهمت له سحائب الخطر، تصدى لها ليقشعها من سمائه، أو أن يلفظ الروح دون مسعاه
ليس حقوق الانسان مجرد قائمة بأسماء، وعلينا حفظها كما يحفظ التلميذ “محفوظاته” عن ظهر قلب، حتى وان لم يفهم لها معني، وانما هى اسلوب حياة وطريقة عيش، فاما أن نراها مجسدة فى التعامل الحى مع الناس، واما هى لاتعدو أن تكون أشباحا صوتية لاينفخ فيها الروح أن تنشق لها الحناجر بالهتاف، ولقد جاء فى حديث شريف ان الدين المعاملة (أو كما قال) ومعناه أن القيم العليا قد خلقت لتكون أسسا تقام عليها الحياة الفعلية التى يحياها الناس فى البيت والدكان والمصنع وديوان الحكومة، ولم تخلق لتكون زخارف نعلقها على الجدران، أو نقوشا نزركش بها صفحات الكتب والمعاجم، فاذا قلنا “حرية” فقد وضعنا خريطة للطريقة العملية التى يسلك بها الناس بعضهم تجاه بعض، فيكون لكل منهم الحق – أستغفر الله بل يكون على كل منهم الواجب المحتوم فى أن يعبر عن نفسه فيفصح عن فكره فى وجه الدنيا بأسرها، شجاعا كريما واثقا بنفسه فى غير غرور، دون أن يغضب منا الحد لما يقوله ذلك الانسان الحر تعبيرا عن ذات نفسه بالقول أو بالسلوك، واذا قلنا “عدالة” فكأننا – هنا أيضا – قد وضعنا خطة سلوكية لأبناء المجتمع كيف يتفاعلون دون أن يطغى منهم أحد على أحد، وتفصيلات تلك الخطة تضعها القوانين والتقاليد والعرف بين الناس
لا، لا تصدق انسانا يدعى لك أنه مؤمن بحق “الحرية” لنفسه وللناس، ثم تنظر اليه فى سلوكه الفعلى فاذا هو يبتلع فى جوفه كل من عداه لكى لايبقى حيا على ظهر الأرض أحد سواه، فهو فى سعيه كالتنين الجبار الذى تحكى عنه الأساطير بأنه لا يحيا “مع” الآخرين، بل يحيا “بالآخرين” طعاما، وبالله لاتقل لكن ذلك أقوال فى الأساطير لاتعرفها حياتنا التى نحياها معا فى تعاون ووئام، فانظر حولك متأنيا، وستجد المتحدث الذى لايريد لأحد أن يتحدث سواه، وستجد التاجر الذى لايريد لأحد أن يطعم وينعم سواه، وستجد صنوفا أخرى من البشر، يخيل للواحد منهم أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق بشرا آخر ما عداه، لا، لا تصدق انسانا يملأ شدقيه بلفظ “العدالة” يطالب بها لنفسه وللناس، ثم تنظر الى سلوكه فترى العدالة التى يعنيها عجبا من عجب، إذ هى عنده خطف الغنائم لنفسه ولأبنائه دون سائر الناس، ولا يضيره فى سبيل ماربه أن يدوس على رقاب الآخرين اذا راهم عقبات على الطريق، وهل هو من القليل النادر فى حياتنا أن نقول فى العلن كلاما ليسمعه الناس، حتى اذا ما أوينا الى ديارنا بحنا لخلصائنا بكلام آخر؟ هل هو من القليل النادر فى حياتنا أن نحرم زيدا من حقه لنعطيه لعمرو، ذلك اذا كان زيد خافت الصوت، وكان عمرو من السلاطين وأبناء السلاطين، وقد يذهب عن هؤلاء سلطانهم غدا، فعندئذ فقط تسمع من زيد المغلوب على أمره شكواه
ما جدوى أن نبدأ من “هنا” – كما آراد خالد محمد خالد بكتابه المعروف، أى أن نبدأ بالدعوة الى الحرية والعدالة، اذا لم تكن نفوسنا قد تهيأت حقا لأن نجعل من الحرية والعدالة دستورا لحياتنا العملية كما نحياها؟ أليس الأجدى أن نبدأ من هنالك”؟ أى أن نبدأ من نقطة تقع فيما قبل الحرية والعدالة؟ واعنى بها “ارادة;” الحرية و “ارادة” العدالة، وارادة غيرهما من القيم الرفيعة التى نستهدف اقامتها فى حياتنا، واذا لم نستطع تحقيق ذلك فى جيلنا الراهن، فلنمد الأمل الى جيل أبنائنا
روى لى صديق حميم، يؤنسنى بطلاوة حديثه كلما امتد بيننا حبل الحديث، ولقد عهدت فيه الصدق والاخلاص، روى لى عن حادثتين، وقعتا له فى حياته الفكرية منذ عهد ليس ببعيد، والحادثتان شبيهتان فى طريقة البدء وطريقة النهاية، وان كانتا مختلفتين فى الموضوع ففى كل منهما كان رئيس الدولة قد طرح على رجال الفكر والثقافة ريا ما فى موضوع ما، لكنه برغم اعلانه لرأيه الذى يراه، طالب أصحاب الرأى بأن يعرضوا ما عندهم، وفى كلتا الحالتين تقدم صديقى برأيه، في
فى الحالة الأولى تقدم به إلى احدى الصحف مكتوبا فى مقال مشروح، وفى الحالة الثانية تقدم به إلى احدى اللجان الرسمية منطوقا فى معرض الحوارحول الموضوع الذى طلب فيه ابداء الآراء، ووأعجباه كيف تشابهت النهاية فى الحالتين، اذ كانت اجابة رئيس التحرير فى الحالة الأولي، واجابة رئيس اللجنة الرسمية فى الحالقة الثانية اجابة واحدة كأنها “منقوشة ” على ختم من المطاط، وهى بألفاظها وحروفها كما يلى : عندما يعرض رئيس الدولة رأيا فى موضوع معين ويطلب من رجال الفكر آراءهم، فانما يكون المطلوب هو ان يدلى رجال الفكر بوجهات نظرهم فى طريقة التنفيذ .. فماذا كان يصنع رئيس الدولة حرصا على الشوري، أكثر من أن يطلب الرأى من أصحاب الرأى فى حرية ونزاهة؟ لكن ماذا يصنع قوم لا تصلح “الحرية” عندهم أن تكون نقطة ابتداء اذ سبقتها فى صدورهم قيود تغل الارادة التى تريد الحرية، فيا ليتنا نواجه حقيقة الأمر الواقع بشجاعة، لكى نغيره من جذوره، لا من فروعه الشاهرة تاركين الجذور الدفينة تفعل تحت الأرض فعلها، وأذن فليس “من هنا نبدأ ” بل نبدأ من هنالك، من بعيد، من الأعماق، من دخائل النفوس، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما لأنفسهم .
ان حرص الانسان على حياته – مجرد حياة – أمر واجب ومشروع لكنه كذلك أمر واجب يتقاسمه الحيوان مع الانسان، حتى الحشرة الضئيلة خلقت ومعها الجهاز الفطرى الذى تصون به تلك الحياة من الخطر، ولعلها كانت قصيدة من أروع ما قرأت فى حياتى من قصائد الشعر، تلك القصيدة التى كتبها الشاعر الأمريكى “فروست” يصف فيها مناورته مع حشرة خضراء لا يزيد حجمها عن هباءة مما يكاد يخفى عن البصر، وذلك أن الشاعر وقد جلس إلى مكتبه، وأضاء مصباحه، ووضع أمامه ورقة ليسطر عليها ما أراد أن يسطره، وأى تلك “الهاموشة” قد نزلت على الطرف الأعلى من الورقة، وكان كلما حرك القلم فى أسفل الورقة أحست الهاموشة فى أعلاها بالحركة وفزعت، واذا سكن القلم فى يد الشاعر سكنت وأطمأنت، وسبحان من خلق الحياة مزودة بما يصونها ويحميها.
لا، ليس حرص الانسان على حياته عيبا يؤاخذ عليه، لكن يعلم أنه فى “ارادة الحياة” – مجرد الحياة – ليس وحيدا ولا فريدا، بل يشاركه الحيوان كله والنبات كله، وأما الذى يتميز به الانسان فهو أن يمتد بحرصه ذلك ليشمل الحياة فى درجاتها العليا، التى هى حياة مقرونة بمجموعة من القيم التى جعلت من الانسان انسانا، وفى مقدمتها “الحرية” و”العدل” . وانظر إلى الآية الكريمة التى تقول : “ولتجدنهم أحرص الناس على حياة …” انظر إلى كلمة “حياة” هنا وقد تجردت من اداة التعريف، لتعنى مجرد حياة نكرة خلت مما يكرم به الانسان، وهاهنا يأتى الواجب الصعب الذى ينقض الظهر بحمله الثقيل، وهو أن يتصدى الانسان للدفاع عن حياته “انسانا” بكل تكالفها، ولا يكتفى بمجرد “حياة” يحافظ فيها على قوته وقوت عياله مهما بهظ الثمن الذى يدفع من حريته وكرامته.
انه اذاكانت مصر قد امتحنت لبضع سنوات بمن يستخف بالحرية والعدالة والعزة والكرامة “من أجل قبضة ممن فضة، أو شريط يلصق بسترته” (كما قال شاعر انجليزى ف يالقرن الماضى معاتبا شاعرا تعلق بأذيال العرش) فليست هذه هى مصر، اذ المصرى الأصيل، اذ تعرضت كرامته لما قد يهددها بالضياع، ثم ضاقت به سبل المقاومة، انطوى على نفسه، مكتفيا بأسرته وداره معزيا نفسه بمبدأ وضعه لنفسه، وأجراه فى مثال من أمثلته السائرة، التى يستعد لها لمواجهة المواقف الطارئة، والمبدأ فى هذه الحالة متمثل فى قوله :”من ترك داره قل مقداره ” فأعتزاله بين جدران بيته حماية له من هوان يتعرض له ولا يرضاه، وانه فى انطوائه ذاك ليدعو الله أن يكون العبث بحقوق الناس لا يعدو أن يكون عرضا من مرض وشيك الزوال.
وانه لمرض كانت علته الأولى فى بضعة الأعوام الأخيرة من حياتنا، هى – فى ظنى – أن نسبة ملحوظة من مواقع القيادة فى مختلف الميادين، قد تركت لأصحاب القدرات المتوسطة أو المتواضعة، ممن لا يلمع لهم بريق الا على ضوء مصابيح المناصب، فلا يكون أمامهم ن بديل سوى التشبث بمواقعهم، مهما بلغ ثمن المدفوع من طغيان على حقوق الناس، وهى علة لا تلبث أن تزول اذا ما عولجت، وعلاجها يسير، يكمن فى أن نعطى الخبز لخبازه، والجواد لفارسه، ولو فعلنا لعاد إلى المصرى ايمانه بالحرية والعدالة، وعندئذ فقط يصح القول مع خالد محمد خالد “من هنا نبدأ.