الوفد: 25/7/2002
بعد نصف قرن:
قليل من الخيال يصحح التاريخ
…ما هذا الذى يجرى بالضبط؟ ما المقصود الآن بكل هذه الاحتفاليات مهما كانت المبررات؟ ما هذه الأوامر التى صدرت لتكرس عاما بأكمله “للكلام عن”، و”الاحتفال بـ”، و”الوقوف على أطلال” ثورة يوليو 1952؟ هل مجرد مرور خمسين عاما، ونحن فيما نحن فيه من ظروف شديدة الصعوبة شديدة التحدي، هو مبرر لكل هذا؟ هل هذا هو الوفاء الذى يمكن أن نقدمه لبعض أبناء هذا الوطن المخلصين والمتورطين معا؟ أولئك الشباب المصرى حسنى النية، قليلى الخبرة، الذين قاموا بهذه الحركة التى تثورت لاحقا ، ثم أجهضت، ثم تشوهت، ثم سقطت فى الامتحان تلو الامتحان؟ هل استطاعت هذه الحركة، حتى بعد أن تثورت لاحقا، أن تستوعب النبض الثورى الذى كان يتراكم منذ سنة 1936 فى انتظار القفزة التطورية الحضارية المصرية الأصيلة؟ هل وجد الناس – فى نهاية النهاية – غير لعبة الكراسى الفوقية، وهيكل الديمقراطية الشكلية، فى حين راح العالم كله يقفز من حولنا فى الاتجاه الصحيح؟ هل استوعبت حركة الجيش وعى الشعب الثورى الذى كان يتكون بزخم حقيقى ووعد متحفز؟ أم أنها حلت محله فأجهضته؟
بغض النظر عن الإجابات المختلفة عن هذه الأسئلة، تلك الإجابات التى تتراوح بين التقديس والتشويه، ثم تنتهى إلى تلك التسويات المائعة التى ترسم التاريخ وكأنه تصحيح ورقة إجابة لطالب فى سنة ثانية إعدادي، فإنه أولى بنا أن يتركز اهتمامنا وأن نكرس وقتنا فى تحمل مسئولية “الآن” دون تأجيل أو تبرير. كل هذه التسويات باعتبارها “ثورة جدا”، أو “ثورة نصف كم”، أو ثورة بيضاء (52) ثم رمادية (54)، ثم زرقاء مخططة (58) ثم حمراء (61) ثم بلون النيلة (67) ثم بنفسجى (80) ..إلخ، كل هذه التسويات تنتهى بنا – مدحا أو قدحا- إلى متتالية تتمثل فى مزيد من أوهام ما يشبه الثورة، وتماد فى تخدير الوعي، ثم سكون فى محطة التلويح بالوعود، والتأجيل إلى ما لا نهاية.
”كمال خليفة” والتفاح الفاسد
لا يفارقنى منظره ونحن نجلس أمام حجرته على السطح فى شارع منصور باب اللوق، كما لا أمل تكرار تشكيله التمثيلى لحركة 23 يوليو فى صورة لا تفترق عن تشكيله لوحات رسمه أو نحت تماثيل حمائمه الخشبية، هو الفنان التشكيلى الراحل كمال خليفة ، كانت ليلة من ليالى صيف 1968 والجرح ما زال ينزف، رغم مرور عام وبعض عام، وكنا نتحوط الشيخ إمام قبل أن يصبح هو “الشيخ إمام الذى عرفه الناس فيما بعد”، لا أذكر من كل الحضور إلا الفنان التشكيلى أحمد نور الدين الذى كان يقوم بخدمة كمال خليفة فى مرضه الصعف كأم رؤوم.
كنا فى يوليو، مثل هذه الأيام، ولكننا كنا لا نذكر إلا يونيو، والفرق بين يوليو (23) وبين يونيو (67) هو الفرق بين وعد الحلم وصدمة الواقع. راح الشيخ إمام، بعد عدد من الأنفاس الطيبة، يدندن على عوده، ثم بدأ يغنى مطلع الأغنية التى أكرهها كراهية التحريم، “الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا، يا محلى جرية ظباطنا من خط النار” رفضت الأغنية حتى كدت أستأذن، ضباطنا لم يعدوا أمام العدو من خط النار، القائد الأعلي، والقائد الأدنى لم يسمحوا لهم أصلا بأى اختبار على أى خط نار ليظهروا بطولاتهم التى فاقت كل خيال سنة 1973، لكن حين وصل الشيخ إمام إلى مقطع ” ما تقولشى سينا ولا فسينا، إيه يا أخينا، ما دام جنابه أفندينا بيقول ثوار”، هدأت قليلا، وعادت لى التساؤلات القديمة عن “من هم الثوار الحقيقيون؟” أليسو هم الذين نسجوا الثورة قبل قيامها وحملوا بها قبل إجهاضها؟ وما علاقتهم بالذين أسماهم أفندينا “ثوارا” بأثر رجعى (حسب الأغنية)؟ سألت كمال بعد أن توقف الشيخ إمام بعد أغنية أخرى تصلح لهذه الأيام أكثر، تلك الأغنية التى تصف مصر باعتبارها بالبقرة السودا النطاحة، “”تحلب قنطار، لكن مسلوب، من أهل الدار”، سألته عن رؤيته لثورة يوليو.
التفاح الفاسد يقع معا
”قال كمال: (ما لا أمل من إعادته) كانوا مثل جماعة جلسوا تحت شجرة تفاح ، فأخذت تتساقط عليهم بعض نقاط حامضة حسبوها تنزل من تفاحة واحدة فاسدة، فضجروا منها، وقرر بعضهم أن يسقطها حتى يكملوا جلستهم، فهزوا الشجرة بقصدالتخلص مما يتساقط عليهم بإسقاط تلك التفاحة الواحدة (رئيس نادى الضباط)، فإذا بكل تفاح الشجرة يسقط مرة واحدة لأنه كان كله تالفا فعلا. فزعموا أن هذا ما كانوا يقصدونه.
القياس الخاطئ والخيال الغائب
منهجيا: لا يصح أن نقارن ما قبل الثورة بما بعدها ، إلا إذا أخذنا بلدا موازيا لنا (الأردن أو كوريا الجنوبية أو اليابان) لم تقم فيها ثورة أصلا منذ حوالى 1952!!، ثم إننى أتصور أننا يمكن أن نرى الأمور أفضل إذا نحن أعملنا الخيال بدرجة متوسطة، حتى لو لم نخرج من ذلك إلا بفروض محتلمة. أو أسئلة حائرة كما يلي:
ماذا لو ؟ ماذا لو لم ؟
فيما يلى سوف أطرح صيغتين لتحريك الخيال فى شكل تساؤلات لا تطلب إجابة حاسمة بصيغة: “ماذا لو…؟” ” ماذا لو لم …..”
أولا : ماذا لو لم تقم ثورة يوليو ؟
هل كان يمكن أن تقوم بدلا منها ثورة شعبية صرف تعفى رجال الجيش الأفاضل مما اضطروا إليه؟ أم أن الدكتاتورية الملكية كانت ستتمادى معتمدة على أحزاب الأقلية مع الاستمرار فى تهميش حزب الأغلبية (الوفد) لأجل غير مسمي؟ أم هل كانت الأمور سوف تتعدل بالتصحيح المتواصل بالتعلم من الخطأ واستثمار الصواب؟
ثانيا: ماذا لو بقى محمد نجيب؟
هل كان سيسلـم مقاليد الحكم للأحزاب، فتستمر المسيرة الديمقراطية بخطئها وصوابها حتى نحصل على نمو تلقائى مضطرد؟ أم أن رجال الأحزاب كانوا سينقضون على مكاسب الشعب من الثورة ؟ هل كان يمكن أن يتخلص محمد نجيب من مجلس قيادة الثورة مع احتمال إنشاء “حزب ثورة يوليو” جنبا إلى جنب مع الأحزاب القائمة، وهو وشطارته؟
ثالثا: ماذا لو لم تعقد معاهدة الجلاء؟
هل كان تراجع الاستعمار العسكرى بصفة عامة سوف يزحف ليشمل مصر تلقائيا كما حدث فى الهند ودول الخليج وكل المستعمرات بعد أن أصبح الاستعمار العسكرى أكثر تكلفة وأقل سحقا وفائدة للمستعمر من الاستعمارالاقتصادى والثقافي؟
رابعا: ماذا لو لم تؤمم قناة السويس؟
هل كان عقد الشركة سينتهى بعد سنوات معدودة وبالتالى كان يمكن تجنب حرب 1956 وما ترتب عليها من تمرير إسرائيل بقرار سرى منفرد فى مضايق تيران، ثم التراجع عن ذلك فجأة مما أدى إلى كارثة 1967؟
خامسا: ماذا لو لم تصدر قوانين 1961
هل كان رأس المال سوف يتمادى ويتعملق على حساب حق الملايين حتى يصبح العمل أكثر سخرة واغترابا؟ أم أن رأس المال كان سيطمئن وينمو، يخطئ ويصيب، ليساهم مع تطور قوانين التأمينات فى محاولة عدل مضطرد؟
سادسا: ماذا لو لم يبن السد العالي؟
هل كان نمو الرقعة الزراعية سيتوقف لحساب أن تتمادى الأرض فى الخصوبة النوعية، أم كانت مصر ستغرق فى الفيضان تلو الفيضان مع فاقد متزايد من المياه المهدرة فى البحر ؟
سابعا: حول كارثة 1967
ماذا لو لم تسحب القوات الدولية سنة 1967، تصحيحا لخطأ سابق لم يعلم الناس عنه شيئا إلا عند محاولة إصلاحه؟ ثم ماذا لو لم يصدر أمر انسحاب الجيش بعد البداية مباشرة سنة 1967؟
هل كانت حرب 1967 ستقوم أصلا ؟ فإذا لم يصدر أمر الانسحاب هل كان يمكن أن تستمر الحرب بدعم شعبى متزايد لسنوات تعيد بناء الشعب والجيش معا، رغم الخسارة فى المال والرجال.
بدلا من الاحتفالات والذكريات
إذا كنا جادين فى احترام تاريخنا، علينا أن نكف عن الكلام فيه وعنه، ثم الاكتفاء بلوم أبطاله أو التغنى بمآثرهم. إننا نواجه تحديا مصيريا يحتاج منا أن نتجرع جرعة الواقع الحاضر مهما كان مؤلما، ثم علينا أن نقوم بتصحيحه حالا، هذا وإلا سوف نجد أنفسنا مستغرقين طول الوقت فى مناظرات الهجوم والدفاع، والمدح والقدح ، على حساب الإنتاج والإبداع.
وعن السودان
بعد أن أنهيت كتابة مسودة هذه السياحة الخيالية إذا بى أفاجأ بالدكتور ميلاد حنا وهو يتبع نفس النهج، ويطلق لخياله العنان فى مقاله بعنوان الوحدة مع السودان وليست مع سوريا عام 1958،(الأهرام 16 يوليو) وهو يستعمل نفس الأسلوب، فيقول بالحرف الواحد:
“….. وأتصور بنوع من الخيال – أنه لو لم تقم أو تنجح ثورة يوليو 1952 – لكانت قد جرت مفاوضات مع قيادات مصر الوطنية، ولكان الاتفاق شاملا الجلاء، وكذلك نوعا من الوحدة مع السودان: فيدرالية أو غيرها ومن ثم ما كان قد جرى حماس رومانسى انتهى بنا إلى وحدة مع سوريا عام 1958، انتهت إلى انفصال مأساوى عام 1961، عطل مسار أيديولوجية، القومية العربية وأدى إلى تعقيدات ومسارات غير منطقية تم من خلالها اصطياد مصر والعرب فى هزيمة حزيران – يونيو – 1967 ومازلنا نعانى أثارها حتى الآن..”. (انتهى بحروفه)
آخر “لو”
مع الانتباه إلى أن “لو” تكون مدخلا للشيطان لو استعملت للندم أو للتبرير أو أدت إلى التوقف أو التراجع، فإننى أتصور أنها تفيد كثيرا لو استعملت لحفز الخيال ودفع الإبداع للإسهام فى التخطيط للمستقبل.
لا مفر من أن يغذى الخيال الواقع بأن يجسد له الاحتمالات، ويثير التأمل، ويحفز المراجعة، لا بأن يحل محله، أو يؤجل المسئولية.
وأنا أتابع صور أوائل الثانوية العامة ، والبنات المتفوقات يلبسن الحجاب الجميل، ومجدى مهنا يتسائل عن سر ذلك (الوفد 18 الجاري) “… بعيدا عن الخلاف ومناقشة مدى شرعية حجاب المرأة”، حضرتنى “لو”أخيرة تقول: ماذا لو لم تقم ثورة يوليو ، هل كانت بناتنا وإخوتنا وأمهاتنا سيضطرون للبس الحجاب بدافع لا شعورى لتأكيد الهوية، بعد أن حرم كل الناس من المشاركة السياسية؟
وهذا هو موضوع المقال التالي:
”التفسير السياسى لظاهرة الحجاب”