الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / بدلاً من إبداعى الخاص:ملاحظات على الأحلام والتقاسيم الخلق، الوجود، الموت

بدلاً من إبداعى الخاص:ملاحظات على الأحلام والتقاسيم الخلق، الوجود، الموت

“نشرة” الإنسان والتطور

20-4-2009

السنة الثانية

العدد: 598

 بدلاً من إبداعى الخاص:

مقدمة:

يستضيف هذا الباب اليوم بعض لمحات من نقد الدكتورة أميمة رفعت لأحلام فترة النقاهة لمحفوظ، مع إشارة للتقاسيم،

ونكرر أملنا فى أن تُواصل، ثم تُراجع، بعد ما يكتمل نشر التقاسيم، فيكون التجوال بين مفردات العمل كله ممكناً، ومثريا، وربما يرد على تساؤلها فى نهاية نقدها اليوم عن ما إذا كانت ثمة تيمة واحدة عن الخلق والحياة والموت تجمع كل هذا العمل معا.

ملاحظات على الأحلام والتقاسيم

الخلق، الوجود، الموت

د. أميمة رفعت

الحلم (20)

هذا الحلم يتناغم ويندمج فيه الشكل والإسلوب مع الموضوع والمحتوى لدرجة تصل إلى ذوبان أحدهما فى الآخر. وعند التعليق عليه يجد المعلق صعوبة كبيرة فى التقاط طرف الخيط الذى يبدأ منه، ولذلك فقد قررت أن أبدأ بإنطباعاتى الأولية عنه وإنطباعاتى أيضا عن قراءة الرخاوى النقدية له لعلها تقودنى تلقائيا إلى ما رأيت فيه دون اللجوء إلى تقسيمه إلى شكل ومضمون.

فى كل مرة اقرا الأحلام أنجذب إلى هذا الحلم وكان به مغناطيسا. أقرأه ثم أتخطاه برغم أو بسبب التأثير الغامض الذى يتركه فى نفسى. وأخيرا قررت الوقوف أمامه بدلا من الهروب من غموضه المثير. وعند رجوعى إلى قراءة الرخاوى له ثم قراءتى الأولى، لفتت إنتباهى مفردات بعينها وصلت لنا معا وربما تكون قد وصلت إلى كل قارىء لهذا الحلم، وتتلخلص هذه المفردات فى: (البداية الجديدة) والتى وصلتنى أيضا بمعنى الولادة، الحوار والتفاعل بين الأرض والسماء، تغير حالة الهلال، تبادل الحال بين النور والظلام وأخيرا عرىٌ الراوى وصاحبته فى الماء وقد رآه الرخاوى أقرب إلى تعرية الحقيقة ورأيته ولادة للإنسان عار وعلى حقيقته وكأنه يتحدث عن آدم وحواء…

وكنت كلما قرأت الحلم أجد نفسى أبحث عن الفتاة التى ترافق الراوى فلا أجدها ومع ذلك اطمئن وأثق فى وجودها، حتى صممت أن أعرف من أين يأتينى هذا الشعور الغريب فحللت أسلوب النص ووجدت كما ذكرت فى ملاحظاتى السابقة أنها ربما تكون ذات محفوظ الأنثوية!!!

ولكن برغم إعجابى الشديد وتعجبى من قدرة محفوظ على التجول بين مستويات وعيه وبين ذواته كما قال الرخاوى، إلا أنه يزداد عجبى وتعظم دهشتى عند التفكير بانه يستطيع التقاط ذاته الأنثوية بالذات (هكذا بعيدا عن أى ذات أخرى) بهذه السهولة. جعلتنى هذه الفكرة أتساءل: هل نتحدث هنا عن ذات”محفوظ”أم عن ذات”الراوى”؟!

وهنا برز لدىَ تساؤل آخر؛ فدائما ما يصلنى الراوى فى”الأحلام”بلا ملامح واضحة. فعلُه فى الغالب ناقص أو غائب، وردود أفعاله ضعيفة وبعيدة وغير مكتملة. وبرغم وجوده كراوى فى كل أحداث الأحلام إلا أن الأحداث والشخصيات الأخرى تطغى على وجوده، اللهم إلا ما يصلنا من مشاعره وهى عادة قوية ولولاها ما تواصلنا مع وجوده فى الحلم. وكنت أصف فى كل مرة هذا الوجود الضبابى بأنه”سلبية”أو”تلقى سلبى”والحقيقة أننى لم أكن مرتاحة تماما لهذا الوصف… فهناك ما هو أعمق من ذلك، ما هو إذن؟ السبب فى هذه الضاببية فى إعتقادى هو طبيعة الحلم. فالحالم يرى فى الحلم نفسه ويشعر بها جيدا ولكنه لا يرى تفاصيل هذه النفس، فهى ليست بالتحديد نفسه التى يشعر بها فى مستويات وعيه أثناء اليقظة، ولكنها تلك النفس التى تبرز له من داخله من مستويات أعمق كثيرا بذواتها المختلفة والتى ربما يستحيل عليه الوصول إليها فى يقظته وأثناء وعيه العادى. ولأوضح وجهة نظرى دعونا نلقى نظرة سريعة على عمل آخر من أعمال محفوظ وهو”رأيت فيما يرى النائم”، فى هذا العمل يبدأ محفوظ دائما بهذه الجملة (العنوان) قبل أن يدخل فى الحلم دلالة على أنه يروى الحلم بعد يقظته بعكس”أحلام فترة النقاهة”التى يدخل فيها مباشرة فى الحلم ولا أريد الإسترسال فى المقارنة، ولكن الراوى فى العمل الأول أقرب للشخص الحقيقى، ملامحه أوضح وحواره أصرح وتساؤلاته وأحيانا تحليله لما رآه فى الحلم يتخلل الحلم المروى فى أكثر من موقع. فالراوى هنا مع القارىء فى نفس المستوى من وعى اليقظة ولا يوجد أى غموض أو ضبابية.

ينقلنا هذا بالتالى إلى التقاسيم.

فراوى التقاسيم واضح حاضر فاعل، وصفته أيضا بأنه أكثر إيجابية من راوى الأحلام ثم لم يعجبنى هذا الوصف. أشعر براوى التقاسيم وكأنه يتحرك أمامى، يبرزه ويجسده الحوار طال او قصر، أراه طاغيا على بقية الصورة التى تصلنى وكأنها بالألوان من شدة وضوحها.

ملامحه لا تكمن فى ملامح وجهه ولكن فى شخصيته التى تبدو لى أحيانا خفيفة الظل أو رومانسية حالمة أو ساخرة رافضة. راوى التقاسيم شخص حاضر حتى ولو أتى بإحدى ذواته منفصلة عنه. فالتقاسيم لحن يقَسِم على اللحن الأساسى”بعد”إخراجه وتلحينه، وبلغة الأحلام: أحلام محفوظ نعيشها أثناء عملية الحلم ذاتها، بينما التقاسيم هى صدى التأثير الذى تركه الحلم فى نفس الرخاوى بعد روايته.

وهذا يعنى أننى كنت مخطئة فى تناول قراءه الأحلام والتقاسيم سويا وكأن الأرضية والخلفية واحدة، مما يفسر الصعوبة التى واجهتها فى قراءتها آخر مرة على ضوء ما رأيته فى الأحلام. فمفاتيح دراسة الأحلام مستقلة تماما – فى رأيى– عن مفاتيح دراسة التقاسيم، وإن تشابهت معها أحيانا.

نرجع مرة ثانية إلى الأنثى التى صاحبت الراوى فى الحلم (20) وأجد الآن أنه من الأفضل أن أحذف كلمة الراوى تمشيا مع الفرض بأنه (ذات) تأتى من اعماق الحالم، فيكون الجزء الأنثوى معها تركيبة ذاتية هى: ذكر/ أنثى.

هذه التركيبة لا تعنى على الإطلاق نوع الجنس ذكر أو أنثى بدليل عدم وجود أى تفاعل جنسى بينهما فى الحلم على أى مستوى كما ذكرنا فى القراءة الأخيرة. وإنما هى تعنى على الأرجح النفس البشرية كرمز كونى يرمز فيه الذكر إلى قوة الحياة والأنثى إلى روحانيتها وحيويتها، أى أن هذا المركب الحيوى ذكر/ أنثى يشير إلى الوجود ذاته فى الكون…

والحلم لوحة رائعة مليئة بمفردات الكون ورموزه. وهى مرسومة عل محورين أساسيين أحدهما رأسى (عمود من النور لا مثيل له) يصل الأرض بالسماء (الهلال) والآخر أفقى وهو (سطح مياه ممتد). والمحوران يمثلان أطراف الكون الأربعة أو الجهات الأربعة.

ويرسل عمود النور ويتحكم به (رجل عملاق لم تر العين مثله) وهو يرمز غالبا إلى بطل أسطورى او إله ينشر النور فى الكون كله. فى بداية الحلم لم يكن فى الكون نور بل كانت الرؤية على ضوء(مصباح) ولكن يظهر الهلال!!! والهلال فى الثقافات القديمة والأساطير له دلالة فى غاية الأهمية. فهو رمز للتحول والتغير ودورة الحياة، فمع ظهوره إذن يظهر الفرحة والدهشة والتفاؤل. وتمثل الهلال فى الأساطير الإلهة الإغريقية أرتميس (هى نفسها ديانا الرومانية) الإلهة الليلية ورمز الطهارة والولادة… ولذلك نجد الأنثى فى الحلم هى التى تهتف ليلة قمرية).

ولنرجع إلى هذا الحدث ونتناوله بالترتيب: (وانساب النور على الكون رفعنى على سطح الماء فهتفت “ليلة قمرية” فقلت “القارب يدعوننا” وركبنا ونحن فى غاية السرور) إنتشر النور على الكون فرفع هذه الذات على سطح الماء… تكاد لا تخلو أسطورة مهما كان مصدرها من ولادة إله جديد فى المياه (بحر او محيط) يصعد من أعماق المياه على درفيل، او فى قارب، أو على لوح من معدن، أو تحمله/ها قوقعة (أفروديت أو فينوس) ثم تحملهم الأمواج العاتية أو ريم البحر سالمين إلى الشاطىء. ويقول “شارل كرينييه” فى كتابه المشترك مع يونج “مقدمة إلى جوهر الأسطورة introduction à l ‘essence de la mythologie:

 (إنه ليس بالتعميم الظالم وصف الأسطورة بكشف “مصدر”أو على الأقل “جوهر”الأشياء، فعندما تتناول قصص أجيال إلهية شابة فهى تتحدث عن بداية العالم، فهذه الآلهة هى “الجوهر”. كل إله جديد يعنى عالم جديد يتكون). وفى الأساطير المصرية يولد الكون من الخواء والعدم، ويمثل هذا العدم سائل أو مياه فوضوية تدعى (نون) يخرج منها (رع) أولا فيخلق نفسه ثم يستكمل باقى الخلق..

 فالمياة هى رمز الخلق، هى مصدر الحياة ووسيلة للتطهر ومركز التجدد، هى الرحم التى يتكون فيه المخلوق الجديد ذكر/ أنثى، ومع المخلوق الجديد عالم جديد يتخلق. ترحب انثاه بالقمر ويقترح الذكر الصعود إلى القارب. مصاحبة القارب للهلال فى لوحة الخلق هذه لهى من الصور الشائعة فى الأدب القصصى والشعر والأسطورة، من ناحية لتشابه الشكل الهندسى للهلال مع نظيره القارب فيؤكد فكرة تقابل السماء والأرض ومن ناحية أخرى لتشابه وظائف الإثنين فى الأسطورة، فعند السوماريين مثلا إله القمر هو ملاح يعبر السماء بالهلال وإله المياه ملاح أيضا ينظم الكون وهو يعبره بقاربه.

يفرح الجميع بالخلق الجديد ويناديه/هما الملاح -ربما إله المياه- (رايداك والنبى رايداك) وهما عاريان فى الماء. كيف نرى هذا العرى؟ المولود الجديد يولد بلا ملابس، يولد بحقيقته العارية دون أقنعة تغطيه وتغيره، يولد فى تلامس مباشر مع الكون ياخذ منه طاقته ويعطيه هو الآخر من طاقته. ولكن ينحسر القمر إلى هلال ثم يختفى الهلال نفسه، فيجزعا… تقول إيزابيل فرانكو فى كتابها )أساطير وآلهةmythes et dieux (: (فى الميثولوجيا المصرية إنزواء القمر تدريجيا كان مثيرا لقلق البشر إذ كانوا يرون فى ذلك علامة محق متناقضة لحرصهم على ضمان كمال الكون وإستقراره، وعليه كان يتعين دائما تعويض الدور السلبى لدورة القمر بآمال تجدد إكتماله).. وهكذا وجد المخلوق الجديد نفسه فى الظلام، فى فوضى الواقع تتقاذفه الأسئلة والإحتمالات وعليه أن يبحث –الذكر والأنثى – عن إجابات وحلول…

إنها قصة الخلق صاغها محفوظ فى أسطر قليلة… قصة الخلق القابعة فى أعماق أعماقنا، فى ظلام اللاوعى الجمعى collective unconscious كما يقول يونج. لا يمكننا التواصل معها ولا رؤيتها سوى من خلال الأحلام أو الإبداع أو الجنون كما يقول الرخاوى. وهى فى كل الأحوال لا تظهر أبدا إلا على شكل رموز، وما الأساطير والطقوس الدينية والتراث والفولكلور إلا (إعادة صياغة) لما فى ظلمات أعماقنا على شكل صور أو رموز علها تربطنا – بتذكرها وممارساتنا لها- بجذورنا العميقة ونواة وجودنا…

يثير هذا الحلم سؤالا هاما، هل الأحلام هنا ذات تيمات مختلفة دمجها محفوظ ببراعة كما كنت اظن، أم هى تيمة واحدة عن الخلق والحياة والموت (الذى هو جزء من الحياة) ولكن برموز مختلفة تتكرر طوال الأحلام؟ يحتاج الرد إلى نظرة جديدة أكثر عمقا..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *