نشرت فى جريدة الأخبار
10/12/1979
اليأس.. والحل
نحن أهل حضارة.. والحضارة امتداد بالطول نحو الخلود وبالعرض نحو الناس وبالتالى فهى ضد اليأس والتوقف.
ولكن الذى يجرى حولنا الآن يعلن موجة من اليأس المدمر ينبغى أن ننتبه اليها وندرس مبعثها ولا نكتفى بالبيانات الرسمية تفسيرا لها، ولا بالأمانى الطيبة تهوينا من شأنها.
ومن أسف أن كل فريق يحاول انتهاز الفرصة ليؤكد من خلال ماساتها وجهة نظره وسلامة معتقده دون ادراك واع بشمول المصيبة اذ لانصيب الذين ظلموا خاصة، وقد سبق أن اعلنتها صرخة نذير من فوق هذه الصفحة يوم الثلالثاء الماضى ولكنى أحسست أن الأمرقد يحتاج الى مزيد من الإيضاح حتى لاتسبغل صيحتى لترجيح مالا يفيد.
والفاحص المتأمل لابد أن يلاحظ أن هذه الموجة من اليأس المدمر لم تقتصر على دين ذو جنس أو شعب متخلف أو متقدم، فقد أعلنتها مذبحة جوانا بنبيهم المنقذ جيم جونز كما أعلنتها مؤخرا مذبحة الحرم الشريف بمهديهم المنتظر محمد عبد الله (ان كان هناك أحد بهذا الإسم أصلا) وعلى أرضنا الطيبة هذه لم تخل حياتنا من بعض مضاعفات من هذا النوع اليائس المدمر، ومازال أنين شيخنا الراحل الجليل يطن فى أذن كل من لم يفقد الإحساس منا، وحتى ولو أنه حادث فردى الا أنه ينبغى اعتباره جزءا من الإنذارات المتلاحقة الى لايصح إغفالها.
ويبدو أن انسان العصر قد يئس فعلا من الحل الغرب الرأسمالى بما يمثله من قوة وثراء وسيطرة ورفاهية وزعم بالحرية، وقد كان مايصبر الواحد منا (أو منهم) على الحياة ويؤجل يأسه من المحاولة أنه كان يتصور البديل ولو نظريا – فى الحل الإشتراكى أو الشيوعى بسا يلوح له به من قيم العدل والتطوا، ولكم يبدو أن أمله قد خاب فى هذا البديل حين طال الإنتظار دون انطلاق. واستبدلت رشاوى اللقمة والمأوى ودغدغة غرائزه البدائية بطموح الإنسان التكاملى وسعيه الحضارى ! أقول أن خيبج زمله فى هذا الطريق قد جعلته يرفض الطريق الأول ولايسمك الهانى، فأين يذهب؟؟..
وهكذا ضاقت السبل بالإنسان المعاصر بلا أمل فى الخلاص بعد أن نكس اليمين أعلامه، وارتطم اليسار بصخرة الواقع فى أن واحد، وكان لابد لليأس أن يطل برأسه.
يأس.. وانتحارية !
وتختلف صورة اليأس من شعب لشعب ومن وقت لوقت، فهناك اليأس المستسلم، وفد ظهر على سسطح حياتنا فى كثير ن مراحلها، ورغم مايبدو على مظاهره من عجز وتوقف فأنه بالنسبة لنا كان كثيرا مايحمل استهتارا بالغزاه والطغاه على حد ساء، بل وقد خطر لى أنه يتضمن ثقة بالنفس بأننا الأبقى قبلهم وبعدهم ثم هناك اليأس الساخر، وهو من صفات شعبنا أيضا، ولعله مفسر الفكاهة العدوانية الساخرة (التى احتدت مع يأس الهزيمة فى 1967 لتزول بعد النصر).
ثميأتى اليأسالعدمى، وهو ترف غمر مثقفى الغرب فترة من زمان ولكننا والحمد لله لم نتحرف فى ترفه الى الحد المعوق بعد.
وأخيرا فنحن أمام أخطر أنواع اليأس وهو اليأس المدمر للنفس وللعالم، ورغم أنههه ليس من طبيعتنا، ربما لتعارضه مع جذور حضارتنا النابعة من فكرة الخلود بما يستتبع ذلك من أمل بلا حدود الا أن ذلك لاينبغى أن يدفعنا للتمادى فى الإطمئنان خشية أن ننتهى الى الغفلة لأننا بطبيعة العصر يستحيل أن ننفصل عن واقع ماحولنا، وكذلك لاينبغى أن نكتف بالهرب فى الأخبار الرسمية أ التفسيرات التبريرية بوصف المرحوم جيم جونس بأنه مجنون، ووصف المسكين محمد عبدالله بأنه المهدى المنتظر، بل علينا أن نتتبع جذور هذا النوع الخطر من اليأس، لنبحث عما أوصله الى هذا الحد القاسى على أصحابه قبل أهداف عدوانهم.
أن اليأس يصبح خطرا مدمرا:
(1) حين تتوقف الرؤية عن الوعيى بالغد، وتبتعد حركة التاريخ عن أفق البصيرة.
(2) وحين يلغى التعصب وجود الآخر بما يحمل من روعة وووضرورة الاختلاف.
والفاحص المتامل لابد زن يدرك أن المسألة تخطت حماس الشباب الدينى، وفدائية الشباب الثورى، حتى بدت التصرفات الرسمية لبعض الدول تتصف بنفس الصفات الدالة على اليأس والإنتحارية، وكأن ساسة هذه الدول وقادتها قد يئسوا بدواهم من نمط الحياة السائد، أو فقسوا كذب مبادئ التعامل الظالمة بين البلاد الأقوى والأضعف، حتى أصطبغت استجاباتهم بنعس درجة اليأس الفردى والشللى، ومثال ذلك تصرفات حكام ايران – ان كان لها حكام – التى توجه أساسا لتلهب وجدان رجل الشارع وترشو التيار الدينى المتدفق وتنفسس عن الغيظ الطفلى المخزون ولكن بأسلوب اليأس المنادى على وعلى أبنائى وهو يتصور أنها على وعلى أعدايى وليأت الطوفان.
حلول.. لا تكفى
وتظهر الحلول والإقتراحات الواحده تلو الأخرى، ولكنها تحتاج الى نقاش ومراجعة متأنية
(1) فالحلول الرسمية لاتكفى لأن وجدان الناس، ومنطق الوعى فى حاجة الى الهدف الواضح والتغذية الوجدانية الأعمق من خلال المباشرة والقدوة، فهى لا تقنع باجتماعات القمة والتحريك من أعلى، وعلى كل من يهمه الأمر أن ينزل الى الشارع، ليرشو احتياجات الناس ونتاجر بمعاناتهم، ولكن ليمارس مواجهتهم بما هو، محترما اصرارهم على الحياة، وعلى المعنى وعلى الصبر دون اليأس.
(2) والحلول الدينية الشكلية لاتكفى لان الذى ينصح بالرجوع الى الدين انما يلجأ الى تسكين مضروب بحكم حركة التاريخ لان شكل الدين المنصوح بالرجوع اليه 0لاحظ كلمة الرجوع) لايغنى احتياجات الانسان المعاصر (وخاصة انسان مصر الذى يحذق لعبة الخلود) ولان الوعى البشرى الإيمانى الأعمق يفقس الإدعاءات هذه الأيام بأسرع مما يتصور الهاربون فى المظهر بعيدا عن شرف وعيهم بأنفسهم والطريق الى ربهم والحقيقة، بهذا الصدد فإن التاريخ لايمكن أن يغفر لاسرائيل جريمتها فى احياء التعصب الدينى دون الإيمان الحضارى.
(3) الحل المثالى الثورى: وهو حل يغرى الشباب ويضحك على المحرومين ويبشر الذين لا يتحملون الإنتظار بجنة الأرض يدخلونها بمرسوم شعبى مباشر، وقد بدا حلا مقدسا ورائعا قبل محاولات تطبيقه، الا أنه فشل بعد أن دخل بوتقة الواقع هنا وهناك وانتهى بالقهر والتعويق اذ ولى الأمر غير أهله وتصادم قصورا الانسان المنقذ مع مثالية الحلم المكتوب.
شئ.. آخر
اذن لم يبق أمامنا الاالحل الحضارى الإيمانى وهو شئ اخر غير هذين وذاك، وان كان يشلها جميعا.. هو شئ غير البيانات الرسمية ولوأن الرسميين أقدر على الدفع تعجلته لو لم ينسوا شجاعتهم الرائعة فى غمرة فرحتهم تنتاجها، ولو لم يصدقوا أنفسهم أكثر مما تسمح به أفعالهم.
ثم أن الحل الحضارى الإيمانى هو جوهر الحل الدينى ولكن دونهرب أوصياح أو تشتج أو تقصب فالدين الحق هو الطريق الى الإيمان الحق، وأخيرا فان هذا الحل الإيمانى الحضارى هو الحل المثالى الثورى، ولكن مع اختلاف وحدة الزمن، فهو ليس تسكينا وتلويحا بعدل مستحيل أو تطورا متعجلا تحت نار حارقة، ولكنه نضوج مثابر لايستبعد المثالى ولا يتخطى الواقع ولايقبل مادون الخلود فى نفس الوقت. فإذا كان الأمر كذلك، الا يشعر كل مصرى أن اليأس المحيط بالعالم يناديه: أن ياصاحب الحضارة القديمة نحن فى انتظار حضارتك الجديدة.
فهل تسمع.؟ وهل تستجيب.؟.