نشرت فى مجلة سطور
عدد يناير 2003
نبذة: تعرية للأوهام الشائعة، الضرورية منها والمعطلة، وتوصية بقبول أوهام نافعة، حتى لو أدركت أنها أوهام مع التنبيه أن كل ذلك يحدث أغلبه فى اللاوعى، وأن تعرية الأوهام جميعا مرة واحدة هو مستحيل، وفى منتهى الخطورة فى نفس الوقت.
الوهم الأكبر: وهم اللاوهم
”….. فلو أن لدينا أدنى فرصة أن نجد منقذا من ذلك المستنقع البشع الذى هو مستنقعنا، فعلينا، قبل كل شى، أن نتحاشى خطأ الاعتقاد أننا أحرار…”
(جاك إيلول . خدعة التكنولوجيا)
كنت مستغرقا فى قراءة هذا الكتاب ” وهو مترجم بأناقة ودقة بالغتين “د. فاطمة نصر” ضمن سلسلة إصدارات “سطور“. وفى نفس الوقت كنت أقوم بمهام ثلاث ارتبطت – بالصدفة – بهذا الملف الذى بين أيدينا فى هذا العدد. المهمة الأولى عن “مفهوم أحدث للصحة النفسية” مما دعنى إلى إعادة مواجهة الأوهام التى يروجها المخدوعون من العلماء من ضحايا شركات الدواء عن علم اسمه السعادة، والتى تسوقها مراكز أبحاث لترويج البلادة تحت عنوان الصحة، الأمر الذى يستلزم أن تبرمج عقول الأطباء لتكون مهمتهم الأولى هى ملء خزانة تلك (الشركات الثانية بعد شركات السلاح فى تسيير السياسة فى العالم).
- بين العمى المشروع والرؤية المؤلمة نقف مترددين!
- الأوهام المعولمة الحالية أساطير مصنوعة تخدم السلطة التى أصدرتها فقط!
أما المهمة الثانية فكانت دعوة لتطبيق “المنهج العلمى فى الحياة اليومية” حيث أعدت اكتشاف الأوهام المحيطة بتقديس كثير مما يسمى المنهج العلمى، أما المهمة الثالثة فقد استلزمت مراجعة التاريخ الأحدث لما يسمى “العلم المعرفي” الذى أعلن هرطقتين متتاليتن اعتبرتا تجديفا فى “دين التفكير المنطقى الخطى الرمزي”، وكذلك فى : “دين العقل الوصى الظاهر (الهرطقة الأولى : التفكير ليس بالرموز فحسب. والهرطقة الثانية : المعرفة ليست فقط فى الدماغ. – تعبير هرطقة ليس من عندى).
هكذا وجدتنى محاصرا بعدد من الأوهام الحديثة لم أعرف من أيها أبدأ. غير أننى فجأة نظرت فى أوهامى الشخصية، فانتبهت إلى حقى فى التمسك بها رغم كل شيء!! ما الحكاية؟ من هنا جاءت فكرة المقال.
الوهم، والحلم، والخيال، والإبداع
لا بد أن نفرق ابتداء بين الاستعمال الشائع للفظ ما، والاستعمال الموضوعى والاستعمال المغرض، لنفس اللفظ.
الاستعمال الشائع لكلمة “الوهم” يشير إلى المعتقد أو المدرك الذى يفيد ما هو غير حقيقى، وكأننا نعرف بوضوح تعريفا جامعا مانعا لما هو “حقيقي” بما يسمح لنا أن نعد وهما ما هو “ليس كذلك”.
والاستعمال الشائع للفظ الخيال يشير إلى أنه النشاط الفكرى الذى يتجاوز التفكير الذى يعرف عادة بأنه “حل المشاكل”، فالخيال -بصفة عامة- هو نشاط أشبه باللعب العقلى المتحرر من التزامات الواقع، وأيضا هو نشاط غير ملتزم بالتوجه إلى استكمال لعبه بالتجمع فى تركيب جديد (الخيال بما هو كذلك، ليس ملزما بإكمال المسيرة إلى ما هو : إبداع).
والاستعمال الشائع للفظ “الحلم” يشير إلى ما يحدث أثناء النوم مما قد نلتقط بعضه عفوا قبيل اليقظة، فنصيغه ليعوضنا ما لا نجرؤ على صياغته أو مواجهته فى يقظتنا الكاملة، و هو (الحلم) يقوم بإعلان بقية مواقف وجودنا (ثم إنه إذا أضيفت إليه صفة اليقظة،”حلم اليقظة” فإنه يشير إلى ضرب من الخيال.)
كل ذلك يحتاج إلى مراجعة على الوجه التالي:
الوهم ليس كله ضد الواقع، ولا هو غير الحقيقى، فهو حقيقة نفسية مصنوعة، ومفيدة أحيانا، بل وضرورية فى كثير من الأحيان.
والخيال ليس لعبا حرا صرفا، بل هو تخطيط بديل، حتى لو لم ينته لتوه إلى حل لمشكل أو تخليق إبداع.
والحلم ليس هو ما نحكيه بعد يقظتنا، ولا هو حلم اليقظة الخيالى. الحلم وعى آخر. هو واقع ممتد إلى ما بعد اللحظة الراهنة المعروفة لوعى اليقظة، ليس بغرض التأجيل فى مزاعم مستقبلية، وإنما بمعنى معايشة إرهاصات استكمال مسيرة التطور والنمو. يحدث هذا فى النوم، واليقظة، والثورة، والإبداع على حد سواء.
حق التأجيل، وحق العمى :
لا يمكن بداهة أن أتناول كل هذه المراجعات بالتفصيل فى هذا الحيز المحدود، فأكتفى بأن أشير ابتداء إلى أننا يمكن أن ندافع عن الحق فى الحلم، والحق فى الخيال، باعتبار أن الأول “واقع آخر”، والثانى “تمهيد للإبداع”، ولكن هل يمكن أن يكون ثم حق فى الوهم ؟
الإجابة هى بالإيجاب. نعم : من حق الإنسان أن يعتقد، بل ويؤمن، بغير الحقيقة، بل إنه ليس حقا فقط، بل قد يكون هو السبيل الوحيد للتوجه الجاد المثابر نحو الحقيقة. لا أحد يصل إلى الحقيقة، ولا يمكن لأحد أن يقترب منها إلا إذا مر بسلسلة من الأوهام، يقشرها الواحد تلو الآخر، وهو يتعرى بشجاعة عشاق الحياة ممن قرروا خوض تجربتها، فيقترب أكثر، كلما قشر أوهامه المشروعة أكثر، لكنه لا يصل أبدا إليها.
شروط الوهم الإيجابى:
نحن نتكلم الآن عن مسيرة الأفراد على طريق النمو والتطور، وحقهم المشروع فى الأوهام، ولا نتكلم عن تشويه الجماعات بالإيهام المصدر من متاجر الاستغلال والاستعباد والاغتراب. الوهم ضرورة نمائية للفرد فى أى من مراحل نموه ، وهذا شيء آخر غير الأوهام المفروضة من خارجه لأغراض مشبوهة . يكون الوهم حقا دفاعيا للفرد إذا توفرت فيه الشروط التالية :
(1) أن يكون تلقائيا نابعا من احتياج الفرد فى مرحلة معينة من مراحل نضجه.
(2) أن يكون عائده لصالح استمرار الفرد (متكيفا مع من حوله، منتجا لاحتياجاته، مواصلا لمساره).
(3) أن يكون الفرد غير واع بحقيقته الأعمق (حيث جذوره هى راسخة فى اللاوعى أساسا )
(4) أن يكون الفرد مقتنعا هو شخصيا بحقيقة ظاهر هذا الوهم الغائر.
(5) أن يكون هذا الوهم احتمالا واردا عند كل، أو معظم، الناس الذين يمرون بمثل مرحلة النضج هذه.
(6) أن يكون مرحليا، بمعنى أن يرتبط عمره الافتراضى بأداء مهمته الدفاعية، فى تلك المرحلة فقط.
مقاومة مشروعة:
لا أحد منا يريد أو يستطيع أن يتصور أنه يمكن أن يبنى وجوده وتماسكه على أساس خاطئ مهما قدمنا تبريرات لذلك، خذا المثل العامى الذى يقول معناه “لو أعادوا توزيع عقول الناس فلن يقبل أحد إلا عقله، ولو أعادوا توزيع الأرزاق فلن يرضى أحد برزقه”. هذا المثل يفيد أن كل واحد يعتقد أنه على صواب مطلق، وبالتالى فحين نلوح له أنه من الممكن أن يكون قد أوهم نفسه، ولو بما يفيده، ولو بغير وعى، فإنه يرفض عادة ، وقد يحتج ويهاجم.
الحاجة إلى الوهم:
ألمحنا حالا إلى أن مواجهة الحقيقة مستحيلة، بقدر ما أن الحقيقة نفسها مقولة لا تعدو أن تكون فرضا واعدا لا أكثر. من هنا يمكن فهم لماذا يحتاج الإنسان إلى سلسلة من الأوهام يدبر بها حاله إلى أن يحين الحين الذى يستطيع فيه أن يتحمل أكثر فأكثر جرعات من الكشف أوضح وأقسى، أثناء سعيه فى اتجاه حقيقة محتملة. هذا هو قانون النمو الأزلى. إن تاريخ الحياة كلها ليس تاريخ الصدق أو العدل أو الفكر السليم، إنه تاريخ التأقلم مع المحيط. ومن هنا فإن أى وسيلة تساعد الكائن الحى على التأقلم مع محيط ما، فى زمن بذاته، هى وسيلة مقبولة وجيدة حتى لو كانت ضد الحقيقة، أو ما نتصوره حقيقة.
إن القبول بظلام مرحلى هو السبيل إلى الوصول إلى نور نسبى، ثم سرعان ما نكتشف عجزنا عن الاستمرار فى تحمل بهر الحقيقة، فنطفئ بعض أنوارها بأوهام جديدة، حتى نتمكن من مزيد من الرؤية لاحقا، وهكذا.
ولكن كيف يتطور الأمر من الوهم إلى التعرى إلى المواجهة إلى وهم أرقى، وهكذا ؟
”…هل يعرف أحدكمو كيف يضل الانسان؟ كيف يدافع عن نفسه، إذ يغلق عينيه وقلبه؟ إذ يقتل إحساسه؟ كيف يحاول بالحيلة تلو الأخرى، أن يهرب من ذاته، ومن المعرفة الأخرى، كيف يشوه وجه الفطرة، إذ يقتله الخوف؟ كيف يخادع أو يتراجع؟ وأخيرا يفشل أن يطمس وجه الحق..، إذ يظهر حتما خلف حطام الزيف؟.”
هذا بعض ماكتبته فى مقدمة محاولتى أن أرسم ما يمثل مراحل و أزمات تطور الفرد، وهو يتراوح بين العمى المشروع والرؤية المؤلمة التى قد تحتد إلى حد المرض. كان ذلك فى أطروحتى الأساسية عن “دراسة فى علم السيكوباثولوجي”. بالرجوع إلى نفس المتن، نجد إيضاحا أكثر لهذا الاضطرار المبدئى للجوء إلى الوهم قبل أن يستنفد أغراض المرحلة فتحدث التعرية، وياهول الرؤية، ثم من جديد . يقول نفس المتن:
”مذ كنت وكان الناس …، وأنا أحتال لكى أمضى مثل الناس، كان لزاما أن أتشكل، أن أصبح رقما ما، ورقة شجر صفراء، لا تصلح إلا لتساهم فى أن تلقى ظلا أغبر، فى إهمال فوق أديم الأرض، والورقة لا تتفتح مثل الزهرة، تنمو بقدر، لا تثمر، فقضاها أن تذبل، تسقط، تتحلل، تذروها الريح بلا ذكرى. كان على أن أضغط روحى حتى ينتظم الصف، فالصف المعوج خطيئة، حتى لو كانت قبلتنا هى جبل الذهب الأصفر، أو صنم اللفظ الأجوف، أو وهج الكرسى الأفخم، كان على أن أخمد روحى تحت تراب”الأمر الواقع”، أن أتعلم نفس الكلمات..، وبنفس المعنى، أو حتى من غير معان” (انتهي)
ثم تكون الأزمة حين يتعرى جزء من الوهم ليواجه الإنسان طبقة أعمق من جوهر حقيقته، لتصل الأزمة أحيانا إلى ما قد يسمى مرضا، وإن كان ليس بالضرورة كذلك :
”… ترتطم الأفلاك السبعة، يأتى الصوت الآخر همسا من بين قبور عفنة،…يتصاعد … يعلو … يعلو… كنفير النجدة.
وأمام بقايا الإنسان، أشلاء النفس ورائحة صديد الكذب وآثار العدوان، تغمرنى الأسئلة الحيرى :
لم ينشق الإنسان على نفسه؟ لم يحرم حق الخطأ وحق الضعف وحق الرحمه؟ لم يربط عقله،.. بخيوط القهر السحرية؟ يمضى يقفز يرقد يصحو .. بأصابعهم خلف المسرح، ويعيد الفصل الأول دون سواه، حسب الدور المنقوش، فى لوح حجر أملس، رسمته هوام منقرضه، فيضيع الجوهر، ويلف الثور بلا غاية، وصفيح الساقية الصدئة، يتردد فيه فراغ العقل، وذل القلب، وعدم الشيء …… ، ونضيع؟
لكن هواء مثلوجا يصفع وجهى، يوقظ عقلى الآخر، ويشل العقل المتحذلق، يلقى فى قلبى الوعى، بحقيقة أصل الأشياء. …. يا ويحى من هول الرؤية”
المفروض أن هذه الرحلة تتكرر أثناء النمو بانتظام، خلاصتها تقول :”إنه بقدر ما أن الوهم ضرورى، فهو مرحلى، إن كان لمسيرة النمو أن تستمر”.
كل هذا على مستوى الأفراد،بعيدا عن دائرة الوعى (فى اللاشعور). هذه الدفاعات التى تبعدنا عن الحقيقة هى أقرب ما يكون إلى ما يسمى “الحيل النفسية Mental Mechanism وميزتها(وعيبها أيضا) أنهاتحدث خلف دائرة الوعى.
لو أن أى واحد منا تعمق قليلا، بشجاعة متوسطة (لا سيما وهو نصف يقظ) فسوف يكتشف أنه يؤمن بعدد من الأوهام لا يمكن أن يتصور أنه فعلا يعتنقها، وهو عادة لا يستطيع أن يصرح بها ولا حتى لنفسه، فهى تحفظ له ماء وجهه أمام نفسه، وقد تبرر بعض فشله، أو تهدئ سره، حتى تمكنه من الاستمرار إلى أن تأتى فرصة أفضل للتعرى، والألم الإيجابى، فالاستيعاب.
سوف أعرض فيما يلى بعض الاحتمالات التى يمكن أن يكون داخـلـك – مثلى عزيزى القارئ – يعتنقها دون أن ندرى . كل ما أرجوه هو ألا تسارع بالإنكار الفورى، وحتى لو سارعت بهذا الإنكار الذى هو حقك، فأرجو أن تلاحظ أنك قد تتمادى إلى أن تقول ” يجوز، قد يكون كل الناس كذلك، إلا أنا”، لا مانع. إليك بعض المعتقدات المحتملة التى لا يبرئ الكاتب نفسه -طبعا – من الاعتقاد فيها، وقد تبين له ذلك وهو يضبط نفسه متلبسا ببعضها أو بأغلبها، بفضل مرضاه فى الأغلب:
(1) كل الناس يحبوننى (2) أنا أحب كل الناس (3) لا أحد يحبنى (4) لا أحد يرانى (5) أنا وحيد رغم كل هذا (6) أنا مظلوم لم آخد حقى كما ينبغى (7) لو أتيحت لى الفرصة لكنت أفضل من ذلك بكثير (8) “لا أحد يحبنى إلا لغرض (9) لا أحد يريدنى (10) لا أحد يرانى كما أنا (11) “لا يوجد من يعرفنى على حقيقتى (12) لا شيء يعين (13) لا يهمنى فى هذا العالم إلا ما ينفعنى (14) هذا العالم مخلوق لى (15) هذا العالم لا يصلح لى (16)”حتما .. سيتركوننى ولا يعودون ..”(17) لا أحد يتألم مثل ألمى (18) أنا وحدى الذى أعرف الحل (19) ليس صحيحا ما يظنونه فى (20) إن رسالتى فى الحياة هى إصلاح الكون ولو وحدى. (أكتفى بهذا القدر.)
[آسف عزيزى القارئ، هذا أنا ليس أنت،”جرب أنت بنفسك، واحدة واحدة، واكتشف من أوهامك ما تشاء، وارفضنى كما تشاء]
التفرقة واجبة :
إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للفرد، وكانت مثل هذه الأوهام أمر طبيعى بالشروط التى ذكرتها حالا، (أن تكون مفيدة، ولا شعورية، ومرحلية) فهل مثل ذلك يصلح للمجتمع عامة؟ بمعني: هل تحتاج مجاميع عامة الناس فى مراحل نموها المختلفة أن تعتقد فى معتقدات خاطئة، لكنها مفيدة، وربما مرحلية، وهل تمثل الأيديولوجيات عبر التاريخ ، وربما بعض الأديان (الأرضية خاصة) مثل ذلك أحيانا؟ وإذا كان الأمر كذلك فما خطورة الأوهام الجماعية بصفة عامة، ولماذا نصر على المبادرة بشجبها، ومحاولة نزع الأقنعة عنها، والاستغناء عن خدماتها؟ بالنسبة للمجموع دون الأفراد؟
يبدو أن الجماعات -مثل الأفراد- قد اخترعوا أوهامهم من واقع احتياجهم، ومن إفرازات ثقافاتهم المختلفة عبر التاريخ، فكانت الأساطير التى أدت وظيفتها كأروع ما يكون، حتى حلت محلها الأساطير الحديثة الألمع بريقا، برغم أنها أقصر قامة، وأكثر جفافا، وأكبر غرورا، بعض هذه الأساطير الحديثة هى الأوهام المعولمـة المطروحة حاليا، لكنها بعكس الأساطير القديمة، لم تنشأ من نسيج وعى ثقافة بذاتها، ولم تنضج على إيقاع زمن هادئ قادر على استيعاب احتياجات وعى الناس على مستوياته المتعددة. إنها أوهام جديدة مقحمة لا تتصف بأى صفة من الصفات التى تجعلها آليات دفاعية مثلما كانت الأساطير عند أجدادنا،أو مثل الحال عند الأفراد حتى الآن.
فيما يلى محاولة لتمييز بعض الأوهام الجماعية الأحدث (تمييزها عن الأوهام الفردية المشروعة) :
أولا : هى مصنوعة، وليست دفاعات تلقائية.
ثانيا: هى مفروضة من ثقافة مفتونة بذاتها، سجينة غرورها، ثقافة لا تتميز إلا بقوة أسلحتها، وعلو صوتها.
ثالثا:هى مدعمة بأساليب تقنية حديثة تحافظ على بقائها،بل على دوامها (فهى مغلقة النهاية!!).
رابعا:هى مغرضة تخدم السلطة التى أصدرتها فقط.
خامسا:هى صادرة عن جزء محدود من الوعى البشرى (العقل الظاهر المبرمج) دون سائر مستويات الوعى الممثلة لتاريخ التطور ونجاحات صراع البقاء.
سادسا: ثم إنها تبدو لأول وهلة حسنة المظهر والسمعة (تتسمى بكلمات آسرة مثل الرفاهية، والوفرة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والسعادة !!).
سابعا: هى نتاج عقول فردية مسخرة لغيرها، وليست نتيجة شبكة وعى جماعى، ثقافى، حيوى، متداخل، متفاعل، حريص على بقاء النوع وتطوره.
ثامنا: هى سريعة الإيقاع منقضـة الإغارة.
تاسعا: هى تتغذى من نفسها لنفسهابنفسها، فهى تتضاعف بالقصور الذاتى والنمو الأسى المتمادى.
عاشرا :هى تـغذى بعضها بعضا، كما أن وسائل كل منها تدعم بعضها بعضا (أكاذيب الإعلام تغذى ألعاب التكنولوجيا، وعصف المخ بالإعلان يؤجج أوهام السوق، وتعصب العلم المؤدلج يغذى أوهام الرفاهية، وأموال شركات الدواء والسلاح، وفلسفات نهاية التاريخ، وأفكار صراعات الإبادة، تغذى إقفال دورات النمو كل يوم مع إقفال بورصات الأوراق المالية !!)
حادى عشر :إنها أوهام تتأبى أن، أو تراوغ حتى لا، توضع موضع الاختبار المناسب فى الوقت المناسب، وبالتالى فهى عصية على التعديل بما يسمى “المردود”Feed-Back ، مما يثبت مضاعفاتها.
هذه التفرقة الحاسمة بين مشروعية وضرورة الوهم الفردى الدفاعى المرحلى، فى مقابل خطورة الأوهام الجماعية (الكوكبية الـمؤمركة خاصة) المصنوعة المغرضة، هى شديدة الأهمية فى الوقت الحاضر إذا كان لنا أن نأمل فى أى خلاص من ورطة تعملق جزء من الوجود البشرى، ومن الدماغ البشرى ، ومن التاريخ البشرى، على حساب الكل الحيوى طولا وعرضا.
إذا كان ثم أمل فلا بد أن تكون لدينا الشجاعة أن نـراجع كل ما نحن فيه، وما هم فيه، وخصوصا ما يتمادى منه ذاتيا بالرغم من انتباه أغلب الناس إلى مخاطره. (التكنولوجياالعمياء، والعلم المقدس، والإعلام المغرض، والإغراق بالمعلومات دون تمييز..إلخ)
فضل لا شكر عليه:
أشعر بالامتنان الشديد لاثنين معاصرين- خيبهما الله – حين أتصور أنهما قدما لنا، على الرغم منهما -أهم ما ينبغى أن نلتفت إليه، الأول هو “فوكوياما” الذى أعلن بالأصالة عن نفسه، والنيابة عن سادته أن التاريخ قد انتهى بفوز الأقوى والأثرى. هذا الوهم اليقينى تم تفعيله بشكل عار حين أتيحت الفرصة للسيد دبليو أن يمارسه بفجاجة ذكائه المتواضع، فقام بتفعيل وتعميم غطرسة القوة تمارس بأقسى وأغبى أساليب أحاديى النظرة. هذا وذاك- عندي- من إنذارات الانقراض.
وهل يصح أن ننكر فضل من أطلق صفارة الإنذار حتى لو لم يقصد ؟
العلم وهم مشروع، إلا إذا…
على النقيض من أوهام السياسة العاتية خاصة المرتبطة بضحايا الحروب الغبية والاستغلال البشع، يمكن أن ننظر إلى العلم نظرتنا إلى الأوهام الفردية باعتباره وهما مشروعا مادام قابلا للتفنيد فالمراجعة فالتجديد. لا يكون وهم العلم خطرا إلا حين تنقلب المعطيات العلمية إلى مقدسات لتصبح دينا متجمدا ليس أقل جمودا من تقديس أوهام التسلح مع اليقين بعدم جدوى استعمال السلاح، أو أوهام الديقراطية مع تسليم مفاتيح اتخاذ القرار للقوى السرية، أو أوهام حقوق الإنسان المكتوبة دون الممارسة، أو أوهام الحل التكنولوجى المتضاعف أسيا فى ذاته بذاته .
شعار مختزل = وهم محتمل
حين يصل الإلحاح على تقديس النظريات السياسية والاقتصادية وحتى الفكرية إلى حد الإجماع (كما يريد المعولمون لحساب أمريكا) يتطلب الأمر مراجعات كثيرة، وقوى مضادة عليها أن تتجمع – دون كلل- لإنقاذ البشر من غوايات القوة والتبعية معا. إننا أحوج ما نكون إلى نقد لايتوقف عند تعرية الأوهام بل يطرح بدائل قابلة للتنفيذ. علينا أن ننتبه ألا نلقى السلة بالطفل الذى فيها. ليس معنى أن نعرى التكنولوجيا أننا نريد التخلص منها أو أننا نستطيع الاستغناء عنها.
تبدأ اليقظة من التوصية بأن نعتبر أن “أى شعار مختزل: هو وهم محتمل”. خذ عندك : “العلم هو الحل”، “التكنولوجيا هى الحل”، “الهندسة الوراثية هى الحل”، “الصحة النفسية هى الحل”، “الإسلام هو الحل”، “التراث هو الحل”،”الفطرة هى الحل”… إلخ. بمجرد أن تسمع مثل هذه المقولات، لا بد أن تمد يدك إلى سلاح وعيك الناقد، استعدادا لممارسة جهاد إبداعك قبل أن يفوت الأوان. أنا لا أعرف حلا، ولكننى أتسلم الرسالة مع تكرار مشاهدة السيد بوش على الشاشة، أو قراءة تصريحاتهم عن إرسال المدرسين الخصوصيين لتعليمنا مبادئ الديقراطية والسلوك السياسى المهذب. من ذا الذى يستطيع أن يتلقى هذه الرسائل دون أن ينفخ فى نفير التعبئة العامة لإنقاذ البشر؟
خاتمة:
إننا أحوج ما نكون لمعرفة أن خوض تجربة الحياة الذى يسمح للأفراد أن يحتموا بأواهمهم المرحلية، هو هو الذى يلزم الجماعات بالإسراع بهز أوهامهم قبل أن يفوت الأوان. إن تصارع أوهام الأفراد وجدلها مع بعضها البعض البعض هو الذى يقوم بتصنيع نسيج الثقافة الخاصة بكل جماعة فى مرحلة تاريخية بذاتها، هذا النسيج القادر على استيعاب أوهام الأفراد لتصبح واقعا متحركا فى حلم قابل للتحقيق فى صحوة ممتدة. لكننى أخشى أن نستبدل بالأوهام التى يفرضها علينا من لا ينتمى إلينا وإلى البشر، أوهاما أخرى أكثر تخلفا وأشد تصلبا. إننا إذا فعلنا ذلك فنحن – بقصد أو بغير قصد – نساهم فى تماديهم فى السيطرة والتفوق لحساب انقراض الجنس عامة، واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة.
لا ينبغى أن يقتصر دورنا على المطالبة بحقنا فى استعمال أدوات التقدم لنصنع بها ما نستطيع من وجهة نظرنا. المطلوب هو أن نـتخذ نحن وهم معا موقفا نقديا من كل هذه الأدوات، والفلسفات، والتقنيات جميعا ، نحن معهم فى خندق واحد، خندق التهديد بانقراض النوع البشرى، وقد بدآوا فعلا هذا النقد الجاد (مئات المخلصين المرعوبين من الجارى الواعين بالمأزق (من أمثال جاك إيلول “خدعة التكنولوجيا” و جوزيف كامبل “سلطان الأسطورة” وجورج لاكوف “الفلسفة فى اللحم الحي”) والدعوة عامة لكل البشر.
هذا هو الجهاد الأكبر.