الأهرام: 9-7-1999
الوعى الشعبى، والطب البديل، والمنهج العلمى (1من 2)
يقول المثل الشعبى إيش رماك على المر؟ قال: الأمر منه، وقياسا يمكن القول إيش رماك على الخرافة؟ قال: قصور المنهج العلمى السائد، وقياسا ثالثا يمكن ـ أيضا ـ القو ل: “إيش رماك على الطب البديل”؟ قال: ضيق أفق الطب الرسمى (ناهيك عن تكلفته واغتراب كثير منه).
قبل أن ندخل فى الموضوع أود أن أنوه إلى حقائق أساسية لازمة لحسن قراءة هذا المقال.
أولا: إن الممارسات الطبية ينظمها قانون رسمى محكم، وملزم .
ثانيا: إن تطبيق هذا القانون ليس مهمة وزارة الصحة وحدها، فتطبيق أى قانون يحتاج إلى جهاز ضبط، وأحكام قضائية، وإمكانية تنفيذه على أرض الواقع.
ثالثا: إنه إذا فشل تطبيق قانون ما حتى أصبحت مخالفته هى الأصل، فلابد من إعادة النظر فى مسئولية السلطة التنفيذية، وأيضا فى معنى إصرار الغالبية على تجاوزه واختراقه.
رابعا: إن احتمال سوء فهم ما أكتبه الآن فى هذا المجال أكبر من احتمال سوء فهم ما جاء فى مقال الصديق – الزميل أ.د. سمير حنا صادق بعنوان “المنهج العلمى والاكتشافات الطبية”، وهو المقال الذى أحاول الرد عليه.
وأبدأ بالإشارة إلى مسئولية مخاطبة الشخص العادى، وهى مسئولية يستشعرها حتما من يتصدى للكتابة العلمية فى صحيفة يومية، وقد تساءلت عن كيف يكون موقف القاريء العادى حين يقرأ “إن المعرفة الأساسية تتضاعف كل ثمان سنوات”؟ هل يصبح هذا دافعا له كى يلاحقها؟ وهل يستطيع ذلك عالم متفرغ؟ لا أن يلاحق المعرفة الأساسية عامة، وإنما أن يلاحق المعرفة التى تتضاعف فى مجال تخصصه بهذه السرعة بعد هذه الصدمة المفيدة؟
ثم ألا يشير ذلك إلى احتمال أننا فى خلال سنوات قليلة سوف تتسارع المعرفة بمتوالية هندسية حتى تتضاعف كل سنة مثلا؟ فماذا يكون العمل؟
ثم إنى حين تقمصت القاريء العادى وجدتنى أمام هذه المعلومة الرائعة (المرعبة) أمر من الدهشة، إلى الانبهار، إلى التسليم إلى العجز، إلى انتظار من ينتقى لى من محيط المعرفة المتدفقه ما يلزمني!!! من هذا؟ كيف يمكن ذلك؟ وعن طريق ماذا؟ ولأى هدف؟ لى، أم له، أم لنا، (نحن: من؟).
إن كثيرا مما جاء فى المقال المذكور هو حقائق هامة وصحيحة فى حدود منهجها، وأيضا فى حدود التعريف الذى حددها، وأخيرا فى حدود التاريخ الذى ظهرت فيه هذه المعلومات، لا أكثر، يستوى فى ذلك الكلام عن الذبذبات أو عن الطاقة أو غيرها مما ورد فى المقال، وسوف أمنع نفسى من الدخول فى مناقشة المشاكل اللغوية والعلمية والتعريفات الإجرائية التى تدور طول الوقت حول ماهية ومضمون ومنهج دراسة هذه الكلمات، لكننى سأكتفى بالإشارة إلى إشكالة دراسة “الوعى البشري”، وهو الأمر الذى اختزل (حتى باستقطاب سيجموند فرويد له إلى ما هو “وعى” و”لا وعى”) أو أهمل أو استبعد، أو تشوه، ذلك أن ماهية الوعى البشرى مرتبطة أشد الأرتباط بإعادة تعريف مفهوم الطاقة، وكلية المنظومات، “وفعلنه المعلومات” والرياضة الكمومية والطبيعة الكمومية، ولا تزال المحاولات مستمرة للتعرف على ماهية الوعى البشرى طول الوقت دون ظهور بشائر حل فى المدى القريب.
وأكتفى فى هذا الصدد بالإشارة إلى مقال شديد الإيجاز، شديد الدلالة ظهر فى نشرة المجلة البريطانية للطب النفسى النشرة الملحقة العدد 17 (سنة 1993)، وعلى الرغم مما بالمقال من معلومات تفصيلية معقدة إلا أن عنوانه كان طريفا متحديا إذ يقول الفلسفة والطب النفسى: تساؤلات طفل ـ ذهنية: عن لماذا أنا هو أنا؟ وقد حاول كاتب المقال أن يبين أن عملية الوعى، وخاصة ارتباطها بعملية تحديد الوعى الذاتى فى مواجهة الوعى بالآخر، يمكن إعادة فهمها من خلال الإنجازات الأحدث لعملية فعلنة المعلومات Information Processing قائلا مثلا: إن الوعى، وهذا هو الأمر الجوهرى بالنسبة للشخص، هو ناتج عملية فعلنة المعلومات داخل أجهزة.. فى الدماغ.. الخ، ثم يضيف فروضا جديدة حول فكرة الوعى الكمىQuantum Consciousness، والمقال ينتهى كما بدأ بتعقيب طريف يقول: إن أما ستجيب طفلها إذا ما سألها ماذا تقومين به فى عملك طول النهار؟ ستجيبه: إنى أحقق إمراضية تكثيفات بوز أينشتاين!!
والمغزى من هذا الاستطراد والمقتطف هو:
أولا: نلاحـظ أن تساؤلات الطفل البريئة، لماذا أنا هو أنا؟ هى قضايا مثيرة لفروض علم فلسفية شديدة العمق .
ثانيا: نلاحظ كذلك إن الاستجابات العادية لأسئلة عابرة مثل ماذا تعملين يا أمى، لو ترجمت إلى لغة علمية رصينة للمست أعقد مستحدثات العلوم، فهذه الأسئلة البسيطة والردود العابرة تتم بأعقد ما يمكن تصوره من فروض ونظريات وعمليات تحتاج الإحاطة بها إلى جهد فريق من العلماء، دون حسم كاف.
أخلص من هذا إلى أن علاقة الوعى البشرى الانتقائية بالمعلومات المتاحة، هى علاقة شديدة التعقيد، وهى تتجاوز الفهم، كما تتخطى مفاهيم وظيفة التفكير بشكلها التقليدى، إلى عمق المعلومات، إلى تكثيفات الكمومية، إلى ما لا ندرى، وليس معنى هذا أن المعرفة أصبحت مستحيلة، بل إنها -المعرفة- فى مراجعات واستيضاحات وإعادة رؤية، وطرح فروض جديدة واستخدامات أدوات جديدة، دائما أبدا، فماذا يفعل الشخص العادى إزاء كل ذلك؟
دعونا ننظر بإجمال متواضع إلى إشارات إلى بعض طبيعة ما نمارسه يوميا فى كل لحظة دون أن ندرى:
أولا: إن الذى يجرى عبر التاريخ، وحالا، هو أن الوعى البشرى فى أطواره الإيجابية ـ ينتقى ـ دون أن يعرف كيف ـ من محيط المعلومات المتاحة ما يحتاج إليه.
ثانيا: إنه فى الظروف الطبيعية يتفق ما يحتاج إليه الإنسان مع ما يمكن أن ينتفع به، مما يضيف إلى إنسانيته ليحقق به بشريته، ويواصل تطوره .
ثالثا: إنه إذا أعطته العلوم هذا الاحتياج فبها ونعمت، وإذا أعطته الأديان هذا الاحتياج فيا فرحة المؤمنين والمبشرين، وإذا أعطته الفنون هذا الاحتياج فالمسيرة إلى صعود، وإن أعطاه حواره مع الطبيعة ما يحتاجه فيا لتوافق هارمونية الوجود، وعادة فى الأحوال الإيجابية – يتحصل كل منا على كل ذلك معا- من كل هذه المصادر معا.
رابعا: إنه إن لم تعطه لا العلوم ولا الأديان ولا الحوار مع الطبيعة ولا الفن احتياجاته الأساسية، فإن أبواب العشوائية تفتح على مصراعيها فى محاولة أن يحصل على ما يحتاج إليه بأى طريقة، لكن دون أية ضمانات تعد بنفعه، أو بتعميق إنسانيته، أو باضطراد تطوره.