الاهرام: 16-7-1999
الوعى الشعبى، والطب البديل، والمنهج العلمى (2من2)
فى الجزء الأول من مقاله ذهب أ.د. يحيى الرخاوى إلى أن الوعى البشرى يمثل ماهية مركبة شديدة التعقيد، تساهم فى تشكيلها المعرفة العلمية، والمعلومات الهائلة المتاحة. والتطورات السائدة للطبيعة والقدرة على الحوار معها، إضافة إلى المعتقدات الدينية، والفنون التى يمارسها، غير إنه- أى الوعى البشرى- ليس حاصلا جميعا لها، بل هو تركيب انتقائى لدى كل إنسان مما يتصوره مفيدا لتطوره وتجدده من بينها.
وعلى هذه الأرضية يطرح للنقاش اليوم صعود ظاهرة الطب البديل كظاهرة معقدة هى الأخرة على نحو لا يجدى معه الرفض المباشر السهل، إذ إنها بشيوعها جغرافيا فى بيئات ثقافية عديدة وامتداداها زمنيا فى عصور متوالية إنما تعكس قدرة على تلبية بعض الحاجات التى لا يوفرها الطب الرسمى، مما يوجد ثغرة يتوجب البحث عمليا فى كيفية مواجهتها وإليكم باقى الحديث:
إن ما ينبغى علينا أن نتخذه إزاء مثل هذه الظواهر هو الانتباه ابتداءا إلى ما يلى:
أولا: إن تواتر ظهور ظاهرة ما عند عامة الناس لابد أن نتأملها أعمق، وألا نكتفى بقياسها بمقاييسنا المتاحة، دون بديل.
ثانيا: إن استمرار ظاهرة ما عبر قرون بلا حصر، لابد وأنه يعنى أيضا دلالة خاصة تحتاج إلى إمعان نظر أيضا.
ثالثا: إن انتشار نفس الظاهرة عبر العالم ـ مع اختلاف الأعراق، والثقافات، واللغات، والطبقات الاجتماعية ودرجة الثراء، لابد أن يستدعى مزيدا من التفكير والبحث.
رابعا: إن الاكتفاء بشجب مثل هذه الظواهر بالرفض، أو بالتفكير العلمى، أو العلمانى، أو بالترهيب الأصولى المادى، ليس هو الحل الأمثل ولا الأنجح ولا الأبقى، بل إنه قد يثير تكفيرا دينيا مضادا، ومقاومة عمياء بلا حدود.
وقبل أن أنتقل إلى وضع الفروض المتعلقة بهذه الظاهرة (الطب البديل) أود أن أشير إلى الاختلاف حول استعمال تعبير “العلم الزائف”، (أو “شبه العلم”)، فهذا التعبير له استعمالات مختلفة، منها على سبيل المثال:
(1) استعمال المنهج العلمى استعمالا ناقصا، حين يوحى بتقديس إحصائيات وأرقام تفتقر إلى فروض مناسبة،أو مصداقية كافية، أو تحل تماما محل حقيقة نوعية الظاهرة ودلالاتها.
(2) استعمال المنهج العلمى لنوع من العلوم يختلف جملة وتفصيلا عما وضع له هذا المنهج، مثل تعسف استعمال منهج التجريب فى العلوم الإنسانية، فنزيف طبيعة الظاهرة بزعم اللجوء إلى إحكام منهج لم يوضع لها أصلا.
أما أن نطلق اسم “العلوم الزائفة: على العلوم التى تتبع منهجا لا يروق لنا، أولا نعرفه، فهذا أمر يحتاج إلى وقفه ومراجعة.
ثم أنتقل أخيرا إلى محاولة قراءة حالة ودلالات ما يسمى الطب البديل هكذا:
أولا: إن هذه الظاهرة، منتشرة، عبر التاريخ من جهة، وعلى طول العالم وعرضه من جهة أخري.
ثانيا: إن هذه الظاهرة، إذن، تعنى شيئا للناس، قد يكون له عمق باطنى يغذى حاجة ما، نحن لا نعرفها تحديدا (حتى الدين نفسه يمكن أن يعتبر كذلك)، وبالتالى ينبغى أن تعنى شيئا لنا بالإضافة إلى إعلان ولع الناس بالخرافة .
ثالثا: إن تفسير استمرارية الظاهرة تاريخا وانتشارها جغرافيا (طولا وعرضا) لابد أن يرتبط بقدر من النفع، والاتساق، مع الطبيعة السوشيو ثقافية ـ البيولوجية التى أظهرتها وأبقت عليها هكذا.
رابعا: إن عجزنا عن التفسير لكل من طبيعة الظاهرة، وحقيقة احتياج الناس لها، وأسباب انتشارها واستمرارها، عجزنا عن تفسير كل ذلك بالوسائل والمناهج العلمية المتاحة قد يبرر إنكار الظاهرة أو شجبها، أو تكفير من يمارسها، لكنه لابد أن يدفعنا أيضا إلى المبادرة بإعادة فحصها سعيا – إلى الحد من تماديها، وفى نفس الوقت سعيا إلى شحذ أدواتنا للاستجابة الأصلح للحاجة التى أظهرتها، مؤكدين طول الوقت أن عمق البحث فيها، أو الاعتراف بالقصور تجاهها لا يعنى السماح لها، أو التغاضى عن مضاعفاتها.
خلاصة القول:
(1) إن الطب الرسمى به قصور ما، لعله قصور ضرورى أو مرحلى أو من طبيعة مسيرة العلم، لكنه قاصر عن الوفاء بحاجة الناس مما ألجأهم إلى هذا البديل وعرضهم لهذه المضاعفات.
(2) إن الممارسة الأحدث فى مهنة الطب قد باعدت بين الطبيب إنسانا والمريض إنسانا، لتحل محل ذلك التحاليل والآلات، وحتى الطب النفسى الذى كان المفروض أن يقوم بسد هذه الفجوة هو يتراجع الآن تحت زعم ما يسمى “النموذج الطبي”، وهو ليس كذلك، لأنه ليس إلا “النموذج الكيميائى المختزل” المغترب.
(3) إن الممارسة الإكلينيكية ليست علما خالصا، لكنها فن يستعمل معطيات العلم، وحين فقدت، هذه الممارسة جانبها الفنى، لتكتفى بتصوراتها العلمية، تزايد لجوء الناس إلى فن التداوى العشوائي.
(4) إن الفجوة بين نتائج الأبحاث العلمية وبين طبيعة الممارسة الإكلينيكية تتسع باستمرار كلما أصبحت الممارسة الإكلينيكية آلية ونمطية، يحكمها القانون المكتوب، والأرقام الجافة، أكثر مما تحكمها العلاقة الانسانية والنتائج العملية.
(5) إن شركات الدواء، وشركات الأجهزة، بالغت فى الاندماج والإثراء على حساب المرضى، والعلم، وقدرات الناس على التداوى، حتى راح الناس يبحثون بمعرفتهم عن بديل أرخص سواء كان ذلك البديل من الأعشاب، أو من قطرات فارماكودا “المعالجة المثلية” Homeopathy أم من تلاوة الرقى، وتحريك البندول (مع العلم بأن تكلفة بعض ممارسات الطب البديل قد تبلغ أحيانا أضعاف تكلفة الطب الرسمى).
وعلى ذلك:
أولا: إنه لابد أن تتخذ الدولة والنقابة موقفا حاسما ومطلقا من هذه الممارسات البديلة، علما بأن كثيرا من التجاوزات فى تطبيق القانون هى نتيجة لاقتناع المنفذين بجدوى وفاعلية هذا الطب العشوائى البديل رغم أنف نصوص القانون.
ثانيا: إنه لابد أن يعمل الطب الرسمى على الوفاء بحاجة الناس، وأن يبحث فى نقائصه، وأن يستكملها، حتى تعود الممارسة الإكلينيكية عملا فنيا إنسانيا راقيا، ليكون الطب مداواة ومواساة، لا مجرد كيمياء مختزلة، أو معمل منضبط، مما يفتح الباب لألعاب الحواة.
ثالثا: لابد أن يعاد النظر فى محاولات وصاية ما يسمى المنهج العلمى التجريبى على وعى الناس، وممارسة الطب، ذلك أن المنهج العلمى الأشمل فى تطور مستمر، وهو قد تجاوز التجريب دون إهماله، وبالتالى تجاوز المقارنة المحدودة، وخاصة فى مجالات فحص الممارسة الإنسانية، وأصبح من المسلم به أنه يكاد يستحيل عمل مايسمى التجارب المعماه، ناهيك عن التجارب المزدوجة التعمية أو القابلة للاستعادة بالمعنى المقارن الصحيح، وذلك نتيجة لعمق الاختلافات، الفردية، والجماعية، والثقافية، وتداخل المتغيرات غير المحدود.
وقد أعلت من قيمة هذا المنهج التجريبى المعملى دون غيره شركات التأمين، وشركات الدواء ومنظمات الرقابة، على حساب فن وحكمة التداوى، وعلى حساب منهج وصف الحالة، والمنهج الوقائى، والتقيم الكلى النوعى.
ونختتم اجتهادنا بالتنبيه على ضرورة استمرار الحوار بين الواقع والمنهج، بين المعلومات والوعى المتلقى، بين ما نتصوره الأنفع وما نراه الأكثر شيوعا، بين جهلنا الرائع المثير للمراجعة والاستزادة من العلم، وبين أخطاء العشوائية المثيرة للتحدى.