الاهرام: 1-11-2004
الوعد الوغد، وانتخابات الغد
غدا تمر قرابة مائة عام على إعلان وعد بلفور المشئوم، وهو نفس اليوم الذى تبدأ فيه انتخابات الرئاسة الأمريكية. ما علاقة هذا بذاك؟ نحن نردد عادة، كلما حل هذا التاريخ وقفز إلى ظاهر وعينا ذلك الوعد الوغد، أن “من لا يملك قد وعد من لا يستحق”، لكننا لا ننظر بالقدر الكافى فى كيفية خروج هذا الوعد إلى حيز التنفيذ، وكيف أنه مازال يتجدد كل يوم. ربطا بين هاتين المناسبتين: لا ينبغي أن نلوم أى رئيس أمريكى، حالى أو قادم، على ما يجرى فينا وعلينا، إن المسؤولية –ديموقراطيا!! – تقع على الناخب الذى أتى به ليقوم بالمهمة، أما عندنا فقد أعفى مسؤولونا ناخبينا من نفس القدر من اللوم على المشاركة فى تنفيذ وتحديث وعود القتل والطرد والإبادة، ومع ذلك فنحن عادة الذين ندفع الثمن دونهم.
إذا استثنينا هذه البطولات والاستشهادات الرائعة التى أصبحت علامة عادية للحياة اليومية، فعلينا أن نعترف أن كل ما يمارسه العرب هو تكرار الاحتجاج على كلمات وعد لا يمكن تنفيذه إلا بمؤامرة لا تأتى من خارجنا فقط. لا الوعود، ولا قرارات مجلس الأمن ولا تطابق وجهات نظر الرؤساء هى ما يسير العالم، إن وقوفنا متخلين عن أصحاب الأرض مكتفيين بالتوصيات والتصريحات واللقاءات والاحتجاجات إلخ هو مشاركة فعلية فى تحقيق مثل هذا الوعد وتجديده باستمرار.
الصدفة السخيفة هو أن تاريخ هذا الوعد يوافق اليوم التالى لمثل اليوم الذى قررت أمى أن تطلق سراحى من سجن رحمها الحانى. طيب، وأنا مالى؟ ما هو ذنبى أنا حتى أتمادى فيما لم أختره، وسط كل هذا الذى يلاحقنى ويحيط بى وكأنى مسؤول عنه وحدى؟ لم أجد أمامى إلا أن أقبل التحدى لأقرر متى وكيف أولد من جديد حين أريد، (واللى عاجبه). نحن نولد وقتما نقرر أن نعيش، ونعيش حين نعرف كيف نملأ وقتنا بما هو إنتاج وإبداع لنا: للناس، لا يمكن أن يحرمنى أحد أن أولد متجددا متحديا كلا من هذا البوش وذاك الكيرى معا، بما أفعل وأبدع، وفى نفس الوقت لا يحق لواحد مثلى أن يحتفل بيوم مولده إلا إذا كان بمقدوره أن يتحمل قرار حياته كل صباح ، مشاركا مسؤولا فاعلا حاملا لأمانة الحياة التى تذكرنا بها يوميا دماء هؤلاء الشهداء الذين يتنازلون عن حيواتهم من أجل كرامتنا.
لا تكفى كلمات الشعر لتعلن محاولة البعث المتجدد بالميلاد الاختياري، قلت ذات مرة فى مثل هذا اليوم: ” ألملمنى من شظايا المرايا، وأقنع بالهمس وسط الزحام، بقايا الحديث، وطيف اللقاء، زوايا النظر. تمر الرياح محملة باللقاح، أدفئ بيضى، أرتب عشى، أميل مع الميل أجرى لها، أعلق روحى بمنقارها…إلخ”، حين قلت ذلك، لم أكن متأكدا من جدوى قوله، فلم أنشره. إن الشعر يعلِـن ولا يُلزم، يصرخ ولا يغير “: “…. لكننى برئ، قسما برب الناس إننى برئ: جريمتى هويتى، فقدت مقودى، فقادني ذاك الذى قد ألبسوه صورتي، فرحت عنه أنسلخ، لم تنم بعدُ حول جذعىَ الزعانف، و ريشى الزغب: يطير فى غير اتجاه”.
إذا كان الإنسان الفرد يولد من جديد كلما قرر أن يعيش، وأن هذا هو عيد ميلاده الحقيقى، فهل يمكن للشعوب أن تكون كذلك؟ نعم. الشعوب تولد من جديد باستمرار حين تقرر أن تعيش فعلا إبداعيا مسؤولا متجددا فى مواجهة الشر والغدر والإبادة . هذا ما قاله التاريخ دائما، وهذا ما سوف يقوله حتما، ما لم ينجح هؤلاء المتوحشون فى إبادة الجنس البشرى برمته.