نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 1-10-2014
السنة الثامنة
العدد: 2588
الورطة والمسألة
-1-
تحسس جيبه بمحض الصدفة، فوجده منتفخاً بحكم العادة، وبدون مناسبة، حدد بوضوح ما كان اعتاد أن يبقيه بعيدا عن ثورة وعيه، فهذا الانتفاخ هو مجرد عائد هذا اليوم، وهو أقل قليلاً من كل الأيام، لكنه انتفاخ منبعج لا يخفى على عين.
تسربت جحافل الفئران، فانشرخ الجدار، فتدفقت الحبوب فى تلاحق غير متوقع وغير مناسب حتى رأى الأيام كومة تتجمع تعلن رقما بعد الخمسين دون أن يتوقف العد، أو تتأكد الدلالة، استقبل المنظر فى يقين ودهشة وحياد منذر، ولم يحاول أن يتلهى عنه بالبحث فى الأسباب أو الهرب فى التفاصيل، فقال وشفتيه مضمومتان “لا جدوى من التأجيل .. الليلة، أو أبداً”.
-2-
نظر إلى ساعته الذهبية، فوجدها قد تعدت التاسعة والنصف، وهو لم يتناول غذاء بعد، فقد اعتاد مؤخرا أن يكتفى بكوب الزبادى و”باكو البسكويت” فى زحمة العمل، قال “فرصة، ولتكن البداية مثل البدايات القديمة”.
فتذكر فندقاً فخماً فى أقصى الشمال، مصر الجديدة، كان قد عرفه فى إطار المهنة والمؤتمرات، فاعتاد عليه سراً، خوفاً من المغامرات المجهولة فى أى مكان فخم آخر، هو يريده باهظاً هذه الليلة، ولابد أنه كذلك، فعلاقته به لم تتعد شراباً خطفاً فى ركن قصى.
-3-
نظر فى قائمة الطعام ووجدها مقسمة إلى ثلاثة أقسام، وبها ملحق يشير الى أنواع الشراب، وهو لا يعرف أغلب الأسماء، فقد اعتاد أن تطلب له زوجته ما يشتهى أو ما تشتهى له، لكن لليلة وضع خاص، لابد أن تختلف الأمور كما لابد أن تتضح الأمور، ثمة أمل فى اكتشاف جديد لتخطيط جديد، (جدّا!!).
أشار بإصبعه إلى ما يقابل أعلى الأثمان فى كل مجموعة دون أن يهتم بالاسم، وأجل طلب الحلوى بداهة، وان كان قد تخير شرابا كان قد تمنى أن يذوقه من قديم، ودون أن يقصد وجد نفسه قد جمع الأرقام (بدون الآلة الحاسبة فى جيبه) فوجد المجموع لم يتخط العشرة الثامنة مما لن يخفف من ضغط الانتفاخ المنبعج، وبدا أنه أبعد ما يكون عن نجاح التجربة، ليكن، فهو جائع، وهى بداية.
-4-
أكل بشهية جيدة، وبتمتع قليل، فانقبض دون حزن واضح، فالطبق الأول كان حساء مائلا الى الحمرة الخضراء، وبه أشياء صغيرة كاد يتصور لأول وهلة أنها دودٌ قد أحسن تسمينه، ولو كانت زوجته معه لاكتشفت الحقيقة، إذن لسُدت نفسه لأنه لا يعتقد أنه يحب الجمبرى، ولم يجد أبدا ما يبرر أن يحبه لمجرد ندرته أو ارتفاع ثمنه أو لأن الناس الذين يفهمون يحبونه، أما هى فهى لاتطيق رؤيتة أصلا أو حتى شم رائحته، فى هذا يتفقان، جاء دور الطبق الرئيسى غريب الاسم أيضا، فوجده لحما مشويا عاديا فتساءل عن حكاية الأسماء الكثيرة المختلفة التى تنتهى كلها، إلى نفس نوع اللحوم والبطاطس المقلية، أما الشراب فكان لاذعا رائعا طمأنه على القدرة على إكمال تجربة الليلة بنشاط كاف ونشوة معتدلة.
-5-
أخذ يتحسس جيبه، ثم بطنه، بالتتالى، وهو يسير فى البهو متجها إلى الخارج، ولم يسترح لبقاء انتفاخ جيبه على ما كان عليه قبل هذا الافتتاح، لمح قبل أن يبلغ باب الفندق الخارجى أنه يوجد فى الطرف الآخر من البهو مطعم آخر، وقد وضع بيانا بقائمة الليلة خلف زجاج مرصع، اقترب فإذا بالثمن يقارب ضعف ما دفع غير الشراب والبقشيش، تململ حتى زحف إليه ندم على الفرصة التى ضاعت، هذا هو ثمن القائمة المعروضة الجاهزة (المينىو)؛ فما بالك بالذى هو “على الكارت”! لو أنه كان قد لمح هذا المطعم قبل أن يذهب إلى ما اعتاد لكانت مهمة هذه الليلة أسهل، حمد ربه أنه لم يملؤها حتى التخمة، ولكن ذلك لم يبرر بأى صورة أن يتناول عشاءه مرتين فى نفس المكان لمجرد أن يتخلص من بعض الانبعاج كالورم الحميد فى جيبه، وقال لنفسه “مرة ثانية”، فانزعج حين تذكر شرط الليلة:
لا تأجيل.
-6-
نظر فى الساعة فوجدها لم تصل إلى الحادية عشرة بعد، أدار مفتاح العربة ونقد المنادى خمسة جنيهات بأكملها ضد كل تحفظاته ضد هذه الفئة الطفيلية، وقبل أن يغلق المنادى باب السيارة بعد أن أصر على فتح النافذة رغم شدة البرودة، اكتشف وجهَ شبهٍ حاول أن يطمسه، فزاد من سرعة السيارة دون عجلة.
-7-
قرر أن ينتقل من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب، شارع الهرم، الرأى الليلة لوقود السيارة وليس لحسابات الأحسن، ليكن، منذ عشرين عاما دعاه أحد أقاربه من محدودى الدخل إلى الأوبرج وتعجب لمقدرته المالية المفاجئة، ثم عرف أن المسألة أنه حصل على بطاقة دعوة بالمجان من ضابط مباحث معروف، فعمل بها أبا على، وكانت الدعوة إلى أوبرج الهرم. هو لم يحب ذلك التلوى أبدا، اللهم إلا سامية جمال وتحية كاريوكا قديما وهو لا يطيق كل هذه الأشياء الموسيقية القارعة، لكن الليلة ليست ككل ليلة، الليلة ليلة كل ما هو جديد، فمن أين له أن يدرى ماذا حدث من تطور خلال عشرين سنة؟ ثم لابد أن الفاتورة هنا سوف تقترب من سقف الورقة أم مائة التى ألغوها منعا للتهريب ثم أعادوها تسهيلا ، أو استسلاما له، هذه الأوراق تخفف من ضغط هذا الورم المتحدى، ما علينا، للجديد ـ رغم الذكريات الفاترة ـ جـِدّته.
-8-
توقف أمام باب الملهى الأكثر أضواء فتقدم إليه شخص لا هو بالمنادى ولا هو صاحب الملهى، لكنه “بين البينين”، همّ الشخص بفتح باب السيارة بترحيب محسوب وأدب ظاهر، كاد يضطر صاحبنا أن ينزل من السيارة ـ إحراجا ـ لكنه لم يكن قد استقر بعد على الخطوة التالية، قاوم، ثم سارع بوضع يده فى جيبه وتحسس أول ورقة وصلت إليها أصابعه ونقدها للشخص “بين البينين”، كل هذا لم يعتده، تأكد أن هذا الكرم الزائف هو ضد مبادئه التى لا يعرف من أين جاءته! ومن الذى فرضها عليه؟ لماذا غيروا حجم الأوراق هكذا؟ أشار “للشخص إياه” أن يدعه الآن لأنه ينتظر صديقا فى السيارة، فابتسم الشخص ابتسامة خاصة مليئة بالفهم والغمز والموافقة، حتى قفاه بدا مبتسما فى تقرير طيب.
-9-
قرر أن يفكر أهدأ، ضد رغبته فى عدم التخطيط هذه الليلة أصلا، ولكن ما باليد حيلة، ما دامت القرارات تتزاحم والملاهى تتجاور، علما بأن المسألة ليست: ما هو الملهى الأفضل؟ لكنها: ما هو الملهى الأغلى؟ فقفز السؤال السابق إلى وعيه يقول: لا مفر من اختيار، لن يؤثر تفضيله اختياراً عن آخر مادام الهدف واضحا والسؤال محددا، كان السؤال الذى دفعه إلى جولة الليلة يقول: لمن يكسب ما يكسب؟ وعلى من ينفق ما يملك،؟ ثم لحقه سؤال أكثر تحديدا يقول”إلى متى؟” فثار وأجاب فى حسم “الليلة .. وليس بعد”، فانشرخ الجدار ـ فهو إذا استطاع الليلة، ولو مجرد الليلة، أن ينفق مكسب هذا اليوم بالذات على نفسه شخصياً، فسوف يستطيع أن يتحسس طريقه للإجابة على بقية الأسئلة، فاستضاف نفسه هذه الليلة بكل كرم أسطورى سمع عنه، ولا يكون الكرم كرما إلا لو لم يبق فائض أصلا، كل واحد يدلع نفسه، والفائض لو فاض سوف يظل يلعب تحت جلده مثل ذيل عقرب رفض أن يموت مع باقى الجسد، فانفصل يتحدى، لقد سمع هذا اللفظ قبل ذلك ذات مناقشة بين اثنين من الذين يتناقشون حول أسعار الفائدة، فتصور أن أحدهم يعاير الآخر بمثل هذه الكلمة “الفائض”، وكانا يتكلمان أيضاً عن الاستقلال والاستغلال والسياسة والحرب والنظام والعولمة والجات، وهو عادة لا يحشر نفسه كثيراً فى هذه المسائل، ذلك أنه اكتسب بعد التخرج نوعا خاصاً من الذكاء الانتقائى يحميه من تشتيت جهده إلى غيرما يتقن، لكنه كلما أتقن أكثر تراكم فائض أكثر، فوجب العمى أو التحدى، وهذه هى المسألة.
-10-
المطلوب الآن أن ينجح هذه الليلة، لقد قبل التحدى والذى كان قد كان، الليلة وبعدها يحلها ألف حلال، لكن لكى ينجح لابد أن يغامر.
نظر ـ غصباً وبالصدفة معاً ـ إلى الفخذ المطل من حلة الرقص فى الإعلان المتسع على حائط الملهى، وانتقل من الفخذ إلى البطن الى اسم الملهى فصدحت فى رأسه أغنية عن الحرب والبطولة والاستشهاد ومصر، فتداخل الثكل فى الجنس فى النشوة فى الألم، فحاول أن يوقف هذا التلاحق المتكثف أو أن يسلسله أو أن ينقيه، فنجح نسبيا، إلا أن ما تحرّك مما هو جنس تباطأ فى التراجع مضطرداً، لم يذهب مع الكتلة المتداخلة، بل تصاعد وانتشر حتى احتل الساحة، هل يكون هذا هو الحل؟ إنه يسمع عن أوراق البنكنوت التى تحرق تحت أقدامهن فى المناسبات، وبدون مناسبات فى هذه الأماكن، ترى كم تساوى الليلة؟ مائة؟ مائتين؟ ألف؟ ولو !!!، ثم ماذا لو لم يجد عنده رغبة أو مزاجا، والألعن لو تأكد أن قدرته لا تنطلق الا إذا توفر الظلام والإغماء، وهو الآن فى أشد حالات اليقظة إثر تصاعد هذا التحدى الملح، ربما تنتظره فضيحة وهو ليس حملها الآن، ولا فى أى آن، عاود النظر الى الفخذ النافر فشعر أنه قد انحشر فى عينيه فطمس وجهه وساح زنِخاً حتى كتم أنفاسه، فأدار مفتاح العربة وهو يتجنب نظرات الشخص الـ ” بين البينين”، وحين سمع صوت الموتور أحس بخلاص مؤقت.
-11-
وصلت السيارة إلى نهاية الشارع، وقبل المينا هاوس انحرفت الى بداية الطريق الصحراوى، وعند مفترق الطرق تذكر قصة قرأها عن هذا المكان ـ أو مثله ـ تحكى مثل هذا، لكنه لم يستطع أن يسترجع اسمها تحديداً، ولا اسم مؤلفها مع أنه مشهور جداً وهو يحبه، ومع ذلك فقد تذكر تماما أن اسم البطل كان عُمَراً، ساورته فكرة لكنه عدل عنها بسرعة ورفض أن يتقمص بطل الرواية بوعى مشوش، أدار السيارة حول المفترق وأفل راجعاً وقد شعر أكثر فأكثر بثقل ذلك الانتفاخ بالقرب من تحت الإبط، وفوق أيسر الصدر، فتثاقلت أنفاسه وزاد الضغط تدريجيا على بدال الوقود.
-12-
تحركت أمعاؤه حركة مبشِّرة فمال وارتاح، ثم ابتسم يتمنى أن يترتب على ذلك جوع يسمح له بمعاودة العشاء، متعة نسبية يعرف بعض معالمها خيراً من المجهول، فوردت على عقله فكرة أسخف وهى أن يضع إصبعه فى حلقه يفرغ ما فى بطنه ليبدأ من جديد، وجاءت النتيجة عكسية، إذ تملكه قرف كاد يجهض التجربة برمتها، فتراجع محاولاً أن ينسى خجلاً.
زادت سرعة السيارة زيادة متوسطة وتذكر فيلما قديما جيدا عن مقامر خسر حتى أفلس، وفرح هذه المرة أنه تذكر اسم الممثل بسهولة، جريجورى بيك، فاكتشف فائدة القمار ومعنى أن يواصل المرء الخسارة حتى تفش أورامه، لكنه نشاط ممنوع على المصريين فيما سمع.
ثم ماذا لو لعب فكسب؟؟
يا ذى المصيبة السوداء.
-13-
حين بلغ ميدان الجيزة، انحرف بشكل معاند الى شارع سعد زغلول الذى لم يدخله راكباً أو راجلاً منذ عشرين عاماً، فرح بالزحمة التى جعلت السيارة تسير بسرعة المارة، فأخذ يتأمل الوجوه بائتناس ودعة، قاوم جذب فكره إلى ما يجرى داخل البيوت المتوارية فى أى زقاق جانبى، ونجح كما يبدو، انحرفت السيارة إلى شارع المحطة حتى توقفت ـ وحدها ـ أمام محل تفوح منه رائحة الشواء المميزة، كباب مِنَ الذى يعرفه، هذه الرائحة تفتح شهيته فى أى وقت تحت أى ظرف، اطمأن أنه مازال يستطيع أن يجد طريقه فى أى وقت خلال أى تجمعات سابقة، نزل لتوه ودخل إلى المحل فى تصميم واضح.
-14-
جلس فى أبعد منضدة بحيث يشاهد الجميع دون تبادل ملزم، اختفت فكرة الأكل تماما لكن أوان الهرب كان قد فات، أقبل عليه الرجل الصبى هاشًا باشا ًمرحباً وكأنه يستقبل زائرا عزيزا ًفى بيته الخاص حتى تصور أنه أتى إلى هذا المحل من قبل رغم يقينه أنه لم يفعل، فى الدورة التالية مباشرة أحضر “الرجل الصبى” فى يده بضعة أرغفة وأطباق سلاطة متنوعة يعلو بعضها بعضاً، وأخذ الدورق من على المنضدة واستبدله بدورق آخر، وذهب كالنحلة. يزداد الرفض كلما زادت المشهيات، صحيح أن أربع ساعات مرت على وجبة الفندق لكن المسألة فيها متغيرات غير واضحة، ورغم ذلك فقد اضطر فى الدورة الثالثة أن يطلب نصفا ًمشكلاً، وتساءل ما الذى أدخله هنا وهو يعلم أنه لو أكل كل ما فى المحل مجتمعاً فهو لن يفش ورم جيبه كما خطط ودبر؟ أخذ يتأمل الوجوه من حوله، وركز دون قصد على دائرة الفم والشدقين، فتضخمت تلك الدوائر حتى كادت تحل محل سائر الوجوه والوجود، فخاف حتى غلبه دوار لم يحله إلا صداع محدد، خجل مما فعله حتى عرق، وكأنه دخل الحمام على محرم عارية دون استئذان، تحسس الكومة وأخرج بعضها دون عدد، وهم أن ينادى الرجل الصبى ويرشوه بها دون أكل، حتى يطلق سراحه دون سؤال، لكنه فى نفس اللحظة فوجىء بالطبق الرائع يهبط أمامه مصحوبا بدعوة شديدة الحرارة بالهناء والشفاء.
أخذ يواصل الجهد ليمنع نفسه من معاودة النظر إلى فوهات البشر الطاحنة، فركز بصره على الطبق اللامع أمامه وإذا به يرى انعكاس منظر فمه وشدقيه مثلهم تماماً، بل أكثر تنافراً، فانتابه حزن حتى كاد يبكى، أنقذه ملمس ناعم احتك بأسفل ساقه فراح يسرب محتويات الطبق قطعة قطعة إلى هذه القطة الضيفة الكريمة القابعة تحت المنضدة، ثم مزق الأرغفة، وبلع الدمعة، ونادى الرجل، ودفع الحساب، وقام، وانصرف.
-15-
ركن السيارة بعيداً حتى يواصل السير فى شارع الأزهر آملاً أن تخفف برودة الهواء آثار ما يجثم على قلبه فشلاً وخجلاً، كاد يتعثر فى كوم اللحم المتجمع على الرصيف تحت غطاء بال مشترك، رفض انحناءة التفكير ونجح كما نجح من قبل فى تجنب محتويات زقاق الجيزة.
ارتفع به المصعد إلى أعلى الفندق المطل على ميدان سيدنا الحسين، وطلب شايا أخضر. فرح بصغر الكوب الضيق من وسطه حتى كاد ينسى تماما خيبته البليغة، بل إنه كاد ينسى كل تجربة الليلة، جذورها وفروعها، حاول أن يرتشف الشاى بهدوء كأنه فى استراحة بين فصلين من مسرحية سخيفة، ثم قرر إنهاء كل شىء بإعلان بسيط ومؤكد، يرد به على كل التساؤلات المسئولة عن هذه الورطة، يرد بقولة مشهورة تعلن أنها “سُـنة الحياة”. من ذا الذى سنّها؟ وكيف؟ وتزاحمت عليه أفكار الجانبين المتضادين الكاذبين معا، فتمنى أن تقوم الحكومة عنه بكل شىء فتريحه وتريح أمثاله من هذه الأسئلة وأشباهها، فقفز إليه رجل الضرائب يساومه ويقسم له أن رئيسه باع له “هذه المنطقة” بالشىء الفلانى، فتراجع وتأكد أنه أولى من الحكومة وأنصح وأقدر على حمل الأمانة، ثم أخذه الحماس حتى كاد يقسم أنه لو استأمن الحكومة “هكذا” فان الله سوف يدخله النار، فازداد غماً، فتمنى أن يتولى الله شخصياً عنه هذه المهمة، فقفز إليه صديق فى وزارة الأوقاف يلعّب له حاجبيه، فتذكر أن الله لا يدير أملاكه بنفسه، وإنما خلق خلقاً وكلفهم بإدارتها، فاغتم غماً على غم، فدعا على نفسه، وعلى الحكومة، وعلى هذه الليلة بما تيسر، ثم راح يعاتب ربه بما لا يجوز.
-16-
ما دام الأمر كذلك، فماذا لو لم يذهب إلى حيث يجمع ما ينتفخ به جيبه هكذا كل ليلة، هل يجرّب؟ هذا حل طيب، البتر عند المنبع، فلا يصبح مسئولاً: لا عن المجرى، ولا عن المصب، لا عن الانتفاخ ولا عن التخلص منه، سوف يفعلها غدا، ويشوف، فرح لمدة نصف دقيقة، زادت بغير توقع حتى صارت دقيقتين، وما إن بدأ فى الاطمئنان إلى القرار حتى حدث ما توقعه ـ من خبرات سابقة ـ إذ قفز سؤال يتحدى يقول :
“وماذا عن بعد غد؟”
-17-
نزل من أعلى الفندق وقرر أن يدخل المسجد ليصلى ركعتين (غير تحية المسجد ) سنة لوجه الله رغم أنه لا يذكر أنه صلى الفروض نفسها، منذ شهور، فيما عدا النشاط الصباحى بالصدفة، وهل تصح السنة دون فرض، لكنه شعر أن هذه الصلاة السنة الآن أبرك من مائة فرض، وأن الله حرّ فى حساباته، وهو يديرها بطريقة سرية غير ما يشيعه الأوصياء، وجد باب المسجد القريب مقفولاً، لم يحاول أن يجرب باباً آخر، وخطر بباله ـ خائفا ـ أنه قد يواجه نفس المشكلة فى الجنة نفسها.
-18-
وهو عائد إلى موقف السيارات البعيد، مر على نفس كوم اللحم فتوقف على رأسه ومال ينصت إلى الأصوات الكورالية المتداخلة، قرر أن يتخلص من الرزمة فى جيبه بأن يمنحها لكوم اللحم هذا، انحنى بتصميم مفاجىء وهز جانباً من الكوم داعياً الله أن يتصادف أن يكون ذكراً وإلا …، جاءت سليمة إذ استيقظ النائم ساخطاً لاعناً بصوت خشن لا شبهة حوله، توالت الأحداث بسرعة لم تمكّن النائم المستيقظ من المتابعة، فخاف، ورفض، وتحسس الكومة الملقاة فى حجره، وشك لحظـات فى أن تكون لفة مخدرات، وأن تتبلى عليه الحكومة، ثم تراجَعَ واحتضنها بنصف وعى، وقبـِلَ الرزق أو النذر أو المعجزة أو الحلم، وتظاهر بالنوم حتى نام فعلاً واللفة فى حضنه.
-19-
زاد انقباض صدره رغم تخلصه من الرزمة بأكملها، انزاح الورم عن صدره، وكان يتصور أن كل شىء سينزاح بانزياحه، وخاصة أن الرزمة ذهبت إلى أولئك المساكين النائمين بلاغطاء كاف على قارعة الطريق فى هذا الثلج المجمد، لكن المسألة لم تمض هكذا بالساهل، فلعن الحلول الفردية المؤقتة.
-20-
وصل إلى “الجراج” بالقرب من المنزل وترك العربة للسايس الذى كان منهمكاً فى غسيل السيارات الفارهة وغير الفارهة، فقال لنفسه: الآن فهمت جدوى أن يغير أصحاب الجيوب المنتفخة سياراتهم عاماً بعد عام.
-21-
فتح الباب بمفتاحه الخاص فى صمت هادىء وقبل أن يتوجه الى مخدعه مر على أسِرّة الأولاد الواحد تلو الآخر، ثم تسحب إلى مخدع زوجته وهو يقسم أنهم جميعا ـ دون استثناء ـ أخْوَنُ من الحكومة، والأمم المتحدة، ومصلحة الضرائب، ووزارة الأوقاف.