نشرت فى الدستور
29 – 3 – 2006
“الوحدة الوطنية” بين الفطرة والأحضان!
فى مشاركة فى برنامج “العاشرة مساء” بمناسبة عيد الأم، تلقينا هاتفا فهمت مجمله من مقدمة البرنامج الرقيقة منى الشاذلى وهى تناقش صاحبه بعد ما حكى كيف أن أمه لها ستة أبناء وبنات: ثلاثة مسيحيين، وثلاثة مسلمين، وأن ذلك قد تم لظروف أتاحها القدر والقانون فى مساحة من السماح الرسمى، أهل الأم تبرؤوا منها، فواصلت الأم رعاية أولادها الستة، وهى تسمح لكل فريق بممارسة شعائرهم المختلفة، لم أشك فى صدق الحاكى، ولم تقتصر فرحة المقدمة النابهة على احترام الأم وتكريمها، بل امتد النقاش إلى أن هذا هو المثل الذى ينبغى أن يحتذى لتأكيد عمق الوحدة الوطنية. امتدت الفرحة وصاحبها الاحترام إلى المستشارة الفاضلة تهانى الجبالى ضيفة الحلقة معى. حاولت بقدر ما أمكننى أن أنبه إلى ندرة الحادث، وإلى مخاطر التعميم، وإلى أنه ثمّ فرق بين أن نسمع عن قصة هنا، أو حادث هناك يدل على سعة أفق هذه الأم، أو رحابة صدر ذلك المدير، وبين ما يجرى غالبا كل يوم فى كل بيت وفى كل دار عبادة، لم أتمكن من أن أنبه إلى أن دلالة مقاطعة كل أفراد أسرة هذه الأم لها هى من السلبية بحيث ينبغى وضعها جنبا إلى جنب مع احتواء الأم لأولادها من الدينين، كل ما أمكننى قوله هو أن المسألة أصعب من كل هذه المسكنات الظاهرة، وأنها لا تُحل بالتصفيق لهذه النماذج النادرة، ولا بمؤتمرات الحوار، ولا بلقاءات الأحضان والقبلات والنوايا الحسنة. إن كل الذى يقال فى هذه الندوات واللقاءات والإعلانات والتصريحات شىء، وفتاوى أغلب رجال الدين على الجانبين وفتاوى رجال الدين فى السر والعلن شىء آخر.
خذ هذا المثل البسيط: فى التعتعة التى نشرت هنا منذ ثلاثة أسابيع كنت قد طرحت أسئلة من بينها: أين يقع قصر دبليو بوش فى الجنة؟ وهل سيدخل برتراند رسل، أو جارثيا ماركيز، أو ديستوفسكى النار؟ وماذا عن طاغور؟…إلخ وجدت فى بريدى الإلكترونى رسالة من شاب طيب، (ليس له ذنب لأنه لابد يردد ما وصله من فتاوى) . بعد أن أكرمنى هذا الشاب بما تيسر من صفات (وصف نظرتى قائلا: نظرة العالم الكذوبه اللى بتطل من وجهك اللى اشبه بوجه ذئب فرغ لتوه من التهام فريسته) مع أننى لم أجب على سؤال واحد من كل تلك الأسئلة !!!. سيادته هو الذى تطوع بالإجابة فجاء من بين ما قال: “… بوش ملوش قصر فى الجنه، إنما أكيد له مكان فى جهنم باذن الله”، قلت فى نفسى “بركة”، لكنه أضاف “.. برتراند راسل وماركيز ومش عارف إيه فى النار،… ببساطة لأنهم مش مسلمين، ربما كانوا عباقرة لكن يوم القيامة لا يُكرم فيه العباقرة….”، احترمت صدقه، وتصورت أنه أشجع ممن تحاشى الإجابة، وأوضح ممن يحملون نفس إجابته ثم لا يتورعون عن ممارسة السماح بالأحضان والقبلات فى ندوات الحوار ومؤتمرات قبول الآخر!!! وخلاص.
رددت عليه بخمس كلمات قائلا: أشكرك، وغفر الله لى ولك”. لكننى لست متأكدا إن كان هذا الإبن سوف يقبل أن يغمرنى الله بغفرانه معه، أم أنه قد احتكر أيضا الغفران لمن يرى – هو شخصيا – أنه أهل له.
عدل الله سبحانه وتعالى أكبر من أى تصور بشرى، أفرح حين أذكّـر نفسى أن اسمه جل شأنه هو “العدل”، وليس العادل. ما لم نعلم أولادنا فى بيوتنا، وفى دور العبادة بالذات أن الله خلقنا جميعا على فطرة نقية، تفرز منطقا سليما، لتمارس عدلا حقيقيا لأن اسمه تعالى العدل (“… وإن أفتوك، وإن أفتوك، وإن افتوك)، ما لم يكن هذا هو همنا الأول، فستظل الأحضان هى الحل، والقبلات هى التصريحات, والزيارات المتبادلة هى غاية المراد، وسوف يظل ما فى القلب فى القلب.
هذه ليست دعوة قاصرة علينا، فحين كنت فى الفاتيكان فى نوفمبر قبل الماضى ممثلا للإسلام فى قضية “الموت الرحيم”، قرأت فى وجوه آلاف الحضور تنويما مستسلما لفتاوى التفضيل والتميز السرية، أكثر مما بلغنى من زعم سماح كلمات المتحدثين.
إن القضية عالمية، وخطيرة، وغير قابلة للتأجيل بعد ان امتلك الإنسان كل أدوات التواصل، وفى نفس الوقت كل أسلحة الدمار مما يجعل التفاهم بين البشر ممكنا، وأيضا يجعل المخاطر أرعب من أن تقبل فيها الحلول الاستثنائية بالقبلات والندوات والأحضان.
الذى يجرى فى العراق، وفى إسرائيل، وفى أمريكا، وفى لبنان وعبر العالم هو فى عمق هذه المسألة.
يا بشر العالم: إنتبهو أو انقرضوا،
ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.