وميا” الإنسان والتطور
30-7-2008
العدد: 334
وقفة
الوجدان واللغة والترجمة (2008!!)
ثورة ضرورية
لم تعد المسألة اختيارا
مضطر أنا أن أعترف أننى أضع للخبرة المباشرة التى يتيحها تخصصى- كمصدر للمعرفة- قيمة أكثر مما تستحق، أو على الأقل أكثر مما شاع عنه .
يواجهنا المريض الفصامى مثلا، (راجع بعض حالة د. أميمة يوم الأحد الماضى مثلا) باقتحام تحطيمى للغة، وعلينا أن نصبر على استعمالاته حتى نتواصل معه ونتعلم منه
على الجانب الآخر يواجهنا الشعر الأحدث فالأحدث بإعادة تشكيل اللغة إذ يقوم بتفكيكها حتى خشية التناثر، لكنه لابد أن يقدر – ليكون شعرا- على احتواء وحداتها فى “صورة” جديدة ليست مجرد تجاوز للألفاظ التى تنشطت بالسياق الجديد.
ماذا نفعل بالله عليكم ونحن نتاول ظاهرة الوجدان سنة 2008 هكذا؟
رجعت إلى ما نزل فى النشرة بهذا الشأن (يومية 14-11-2007 “ماهية الوجدان وتطوره”)،(ماهية الوجدان وتطوره عدد إبريل 1984 الإنسان والتطور)، (يومية 17-11-2007 “كيف لا نحبس الظاهرة فى لفظها؟”)،(يومية 18-11-2007عن الوجدان والحزن)، (يومية 3-6-2008 تجارب تحريك الوجدان)، هذا فضلا عن أصل القضية وهو موجود فى الموقع باسم “مسئولية الترجمة بين تسطيح الوعى واختزال المعرفة”،
وأيضا بالإضافة إلى كل النشرات التى نزلت عن الحب والكراهية ونعيد الإشارة إليها كما يلى:
من خلال كل ذلك، وجدت أن الاستمرار فى مناقشة قضية الحب والكره دون الرجوع ولو إلى هذه اليوميات السابقة قد يعرضنا إلى تكرار غير مقصود، وأيضا يمكن أن يقلل من فرص التربيط الأدق.
وقفة
من هنا جاءت هذه الوقفة لكى ننصح من خلالها الزوار الأصدقاء الجادين – وكلهم كذلك- بالرجوع إلى الأسئلة المطروحة والقضايا المفتوحة، والتى لم تنل حقها فى المناقشة أو التعقيبات أو الاستجابات أو التساؤل على التساؤل. خذ مثلا نشرة 8-7-2008 وبها 25 تساؤلا. أنا لا أنكر أنه قد وصلنى فى بريد الجمعة بعض الاستجابات الجادة والمفيدة والمبدعة أحيانا، لكنها غير كافية لتحفيز الاستمرار، ومع ذلك سوف نستمر.
خذ الإشارة إلى الموقف من المعاجم حين أشرت أننى فى عام 1974 قمت باستشارة المعاجم – كبداية – المعاجم العربية أولا ثم الأنجليزية وإذا بى أفاجأ بما أثنانى عن الإكمال،
هل هما لغتان: العامية والفصحى؟
فوجئت أخيرا كما فوجئ غيرى أثناء القيام بالألعاب الكاشفة أن الترجمة من العامية إلى الفصحى هو أمر يفقد اللعبة حركيتها التى تغوص إلى داخلنا لتسرقنا إلى حيث لم نكن نعرف، أو إلى حيث لم نكن نعتقد أننا هكذا.
حين قدمت فى ساقية الصاوى ندوة شعرية منذ سنوات، ألقيت فيها بعض أشعارى ومنها اعتذارى للفصحى أعلنت – شعرا بالعامية المصرية- أن الفصحى ستظل حبيبتى ” حتى لو “ضرتها غازية بتدق صاجات” كان يحضر هذه الندوة الصديق سعد هجرس الذى التقط إقرارى بأن العلاقة بين العامية والفصحى تحتاج إلى ترجمة مثل أى لغة مختلفة، مستشهدا بقولى:
أصل الحدودتة المرّادى كان كلها حسً
والحس طلع لى بالعامى بالبلدى الحو
والقلم استعجلْ
مالحقش يترجمْ، لتفوتُهْ أيها
همسة أو لمسة أو فتفوته حسّ
قال لى “سعد” بعد “الندوة”، يا خبر!! لقد كشفَت بذلك حقيقة خطيرة وهى أننا نترجم أحاسيسنا حين نتكلم أو نعبر عنها بالفصحى.
أعيد قراءة هذا المقتطع فأكتشف أننى منذ كتابتى له سنة 1974 (قبل نشره بسنوات) كنت أشعر أن الاستعجال الذى أطالب به المشاركين فى الاستجابة للعبات هذه الأيام هو الذى يخرج “الحس التلقائى = الوجدان الأصل” وإلا فسوف تفوتنا أيها همسه، أو لمسة، أو “فتفوتة حس”.
ثم إنه حدث بعد ذلك مع بداية تقدمنا بالألعاب – أن اقترح د. جمال التركى كتابة الألعاب بالفصحى (أيضا) وحاولنا ذلك فعلا، ومن خلال هذه المحاولة وجدنا أننا، مع استعمالنا الفصحى إنما نحيل مشاعرنا إلى جوهر آخر قد لا يتطابق أبدا على نفس المشاعر إذا ما استعمالنا العامية فى نفس اللعبة(بدا لى ذلك صحيحا حتى وأنا أقرأ إستجابه د.جمال بالعامية التونسية فكان إيقاعها يصلنى جميلا عميقا قبل أن يترجمه إلى الفصحى)، هكذا أشار أيضا د. محمد يحيى الرخاوى وآخرين فى تعليق له، أظن أننا ألمحنا إليه فى بريد الجمعة وآخرين.
تعالوْا نقرأ رباعيات جاهين، أو تعالوا نقرأ الأبنودى كله ونحاول أن نترجم أى قصيدة من قصائده عبّر عنها بالعامية الصعيدية القناوية إلى عامية وجه بحرى (بورسعيد مثلا)، وسوف نعرف أن اللغة ملتحمة بالوجدان بشكل لم يخطر على بال، وأن ترجمة الوجدان من خلال مقابلة ألفاظة ببعضها هى استحالة عملية بشكل أو بآخر.
ترجمة العواطف من وإلى لغة أجنبية
إذا كان هذا هو الحال فى الترجمة من العامية إلى العربية وبالعكس، فكيف يكون الأمر إذا قمنا بالترجمة من أو إلى لغة أجنبية؟
فى أطروحة باكرة “مسئولية الترجمة بين تسطيح الوعى واختزال المعرفة”، عرضت مخاوفى على تشكيل وعينا بما يتعلق بالوجدان خاصة، أشرت إلى كيف أن أى واحد منا حين يتأثر بالأطباء النفسيين ولغتهم الأجنبية ذات الرطان الأحدث، ويصف حالته وهو يقول “أنا مكتئب” فهو قد يعبر عن مشاعر أخرى غير قوله “أنا حزين” أو “مهموم”.. إلخ ثم عدت فأوجزت هذه القضية فى هذه النشرة بعنوان “عن الوجدان والحزن 18-11-2007”.
سارتر وترجمة نظريته
ثم إننى وأنا أحاول الإعداد لمرحلة التنظير لأناقش التعقيبات والاستجابات التى وردتنا حول الحب والكره، بدأت بإعادة قراءة سارتر “نظرية فى الانفعالات ترجمة “د. سامى محمود على” (وهو محلل نفسى ممتاز ومترجم رائع”)، وقد فوجئت بالمترجم يستعمل كلمة “شعور” طول الوقت، ولم أفهم ماذا يعنى بذلك حتى مننتصف الكتاب، وإذا به (استنتاجا منى بعد أن قطعت كل هذا الشوط،) يعنى “الوعى”، (غالبا) – يا خبر!! كيف هذا، بهذه البساطة، وقد التمست له العذر طبعا حين راجعت تاريخ نظرية سارتر 1939 ثم تاريخ الترجمة 1965 ولم أحاول أن أحكم عليه وأنا مازلت محتاراً حتى الآن فى تحديد ماهية الوعى، بعد كل ما أضيف إلى مفهومه وما أحاط بطبيعته (2008) اكتشفت ما يعنيه المؤلف بكلمة “الشعور” حين تكرر استعماله لكلمه “اللاشعور” بمعنى عكس هذا الشعور الذى يعينه، وهكذا وصلت إلى فك شفرة ترجمة سامى على، التى جعلتنى أبعد أكثر فأكثر عن نظرية سارتر.
الوعى/ العقل/ الوجدان:
الآن، ونحن نتناول قضية الوجدان من جديد ونستعمل كلمة “الوعى” بمعنى العقل الآخر، أو نتكلم عن مستويات الوعى وتعدد مستويات الوجدان، أو حين نشير إلى وعى النوم ووعى اليقظة ووعى الحلم باعتبارها مستويات الإيقاع الحيوى، أو حين يتكلم “دانييل دينيت” عن أنواع العقول، وهو يعنى البرامج الهيراركية الغائية على سلم التطور، وهى التى تقابل “الوعى الخاص البقائى” الهادف، فى كل تلك الأحوال نجد أننا فى موقف يحذرنا كل التحذير من الاستسلام لأى ترجمة دون تمحيص (1)
ارتباط عاطفة ما بوعيها بلفظها العامى بتاريخها المعجمى بالمقابل بالفصحى هى أمور أساسية فى تناولنا لأى وجدان وعاطفة، ناهيك عن الترادف المستحيل بين كلمات مثل “العواطف” و”المشاعر” و”الأحاسيس” و”العاطفة” و”الانفعال” و”الوجدان“.
كيف بالله عليكم نتناقش معا إذن والمسألة أصبحت بكل هذا التشتت والتداخل والغموض؟ خاصة وأن المعاجم قد تمثل عبئا آخر، وليس وسيلة توضيح، كما أن بعض الاستشهادات بتفسيرات التنزيل المقدس قد تمثل وصاية فوقية أخرى غير مقصودة طبعا- على حركية الجدل الذى نحن بصدده.
سجن المعاجم واحترام المقدس
لا غنى عن المعاجم، ولابد من احترام المقدس، إلا أنه لا المعاجم وصية على حركية اللغة، ولا المقدس تمتد قداسته خارج سياقه، وهو يستعمل لفظاً بذاته فى سياق بذاته،
هذه قضية مبدئية أخرى لابد من الانتباه إليها.
المعاجم ليست إلا إثبات ما اتفق عليه فى مرحلة تاريخية ماضية فهى، ليست نهاية المطاف ولا ينبغى أن تمثل سقفاً يمثل وصاية السلطة، أية سلطة.
وقد اخترت معجمين صغيرين أحبها جدا، لأبين – كمثال – كيف أشار كل منهما إلى الكره، فى حين أننى تعمدت ألا أستشير المعاجم الموسوعية الأكبر (لسان العرب، وتاج العروس والمحيط) مع أن بها جميعا ما يؤيد توجهى هنا
****
الكره فى أساس البلاغة (الزمخشرى)
ك ر هـ – أمر كَرِيهُ. ووجه كريه، وقد كَرُه كَرَاهةَ
وتكَّره الشىءَ: تسخَّطه، وفعله على تكُّرٍه وتكارُهٍ، ومتكِّرهَّا ومتكارِهَّا.
ومن المجاز: شهدتُ الكريهةَ: الحرب
****
الكره فى الوسيط (مجمع اللغة)
(كَرِهَ) الشىء – كًرْهاَ وكَرَاهة وكَرَاهية: خلاف أَحَبَّه. فهو كَرِيهٌ ومكروه.
(كَرُهَ) الأمرُ والمنظرُ – كَرَاهة وكَرَاهية: قبح. فهو كريه.
(أَكْرَهَهُ) على الأمر: قهره عليه.
(كَرَّهَ) إليه الأمرَ: صيَّرَه كريهاً إليه.
(تكاره) الشىء: كَرِهه. ويقال: فعل كذا متكارهاً: فَعَله وهو لا يريده ولا يرضاه.
(الكَرِيهة) الحرب أو الشِّدَّة فى الحرب
يقال: شهدتُ الكريهة و- النازلة
****
…فنلاحظ كيف أن كلا المعجمين، خصوصا الزمخشرى، لم يفعلا إلا أن استعملا الكلمة، مع إضافة أن الوسيطَ زاد أن الكره يعرف بعكسه “خلاف الحب”.
فكيف بالله عليكم نبدأ بالمعاجم وهى نفسها توصى – ضمناً – بالبدء بالتجربة المتحررة من سجن لفظ مغلق.
****
تكرار حاسم:
- إن التصالح على الكره ليس دعوة إلى ممارسته جزئيا منفصلا
- إن القول بأن الكره طبيعة بشرية، وأن الإقرار به هو أدعى للتعامل معه لينطلق فى أفضل تجلياته البقائية، بما يجعله لا ينفصل عن موضوعية العلاقة بالآخر التى نفرح بتسميتها “الحب” دون الكره.
- ما وصلنى هو أن كل ما ورد فى القرآن الكريم كان متعلقا بالكره والاكراه ليس له علاقة مباشرة بالكره الأصيل فى طريق التكامل الذى هو جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، وإنما هو يشير إلى الكره المنفصل المباعد النافر القاهر.
- إن الحب بهذا المعنى ليس ضد الكره، ولكن الحب، منفصلا عن الكره يمكن أن يكون أكثر تسطيحا وأسهل مما لو كان فى جدل معه.
وبعد
فلتكن هذه اليومية دعوة لمراجعة المنهج واللغة وعلاقتها بدراسة الظاهرة اللاحق، حتى لا نكتفى بالتوقف عن لفظ فى كتاب، أو تعريف فى معجم، أو تنزيل مقدس له سياقه الخاص، فيبعدنا عن غايتنا الخبراتية اليقظة الناقدة.
وفيما سبق تناولنا ظاهرة الكره كمثال، أما عن الحب فالمسألة أكثر أشكالا فننصح بمراجعة نشرات (يومية 7-10-2007 الخوف من الحب “1”)، (يومية 8-10-2007 الخوف من الحب “2”)، (يومية 1-7-2008 نحن نخاف من الحب وننكر الكراهية!! إذن ماذا؟).
[1] – انتبهت إلى دلالة كل ذلك حتى كدت أتراجع عن الإصرار على كتابة الحوار فى قصصى بالفصحى، وبصراحة لم أستطع حتى الآن.. إلا قليلا، (أنظر آخر قصة كتبتها من يومين وهى التى ستظهر يوم السبت القادم هنا بعد أن ظهرت فى تعتعة الدستور اليوم “فرسكا”).