الوفد:3/1/2002
الواقع المر، والأمل المجنون
السيّدة المصرية تستجير ببوش من “الملا”ّ زوجها !!!
لم أكن أعرف أن حالتى وصلت إلى هذا الحد !!! أنا لا أخجل حين أجدُ وجه شبه بينى وبين مرضاى، إننى أشعر أننى أقرب إليهم، وبالتالى أقدر على مساعدتهم، لكننى أيضا لا أفخر بذلك ، هى خطوة أسمح لنفسى بها حتى أزداد وعيا بمأساة من يلجأون إلىّ، ثم ألـملم نفسى لأكون قادرا على تحمل مسئولية تناثرهم وألمى معا. إن مِن أهم ما يعيننى، ويعين مرضاى على ذلك هو أن أحرص طول الوقت على أن أتمتع ببصيرة كافية ، ترشدنى إلى حقيقة الواقع الجارى، وبالتالى أستطيع أن أساعد مريضى أن يحافظ على ثورته دون تناثره، وأن يتبصّر مثلى فى دلالات ما يمر به ليتحمل آلامه بدلا من أن يهرب منها إلى المرض أو التخدير.
خلال ثلاثين ساعة، من مساء الخميس 27 حتى صباح السبت 29 ديسمبر 2001 واجهتُ ما عرّفنى ما كنتُ أعرف. قلت لنفسى : إذا كنت أعرف كل ذلك فعلا فما الجديد ؟ ربما لهذا اعتبرتُ أن حالتى خطيرة .
رحت أقارن ما وصلنى خلال هذه الثلاثين ساعة ، بما أكتب عموما، وبما أكتبه للوفد خصوصا. رحت أسأل نفسى: تُرى هل يعرف رئيس التحريرحقيقة تلك المسافة بين ما أنهى به مقالاتى وبين ما يجرى على أرض الواقع؟ أليس معنى سماحهم بمواصلة نشر ما أكتب أنهم يتفهّمون موقفى وموقعى؟ رغم أنهم – بحكم موقعهم – قد يعرفون عن الواقع أمرُّ مما أعرف ؟ شعرت بامتنان شديد لهؤلاء الناس، ولهذه الفرصة، وإن خالط هذا الامتنان نوع من العتاب لعدم منعى من الكتابة حتى وصلت حالتى إلى ما آلت إليه هكذا. لكن ماذا تقول فى أمل الحرية، والإصرار على انتصار الحياة ؟
إعادة اكتشاف ما سبق معرفته !!
هذه حقيقة غريبة فى النفس الإنسانية ، المفروض أنك تُدهش، ربما لحد الانزعاج، إذا ما بلغك “ضد” ما تعرف، إذا وصلك أمر لم يكن فى حسبانك أصلا أنه يمكن أن يكون. لكن أن تفيقَ لأنك عرفت ما تعرف فهذا أمر غير مألوف. لكننى شخصيا اعتدتُ ذلك، ربما علّمنى مرضاى هذه القدرة ، فأنا أعاود معرفة ما أعرف باستمرار، وكثيرا ما أكتشف أننى لم أكن أعرفه كما ينبغى، بمعنى أننى كنت أعرفه بطريقة ناقصة، أو بجرعة مخففة، وحين يحدث لى ذلك، أفيق مرّتين: مرة وأنا أتحسس ما وصلنى تجديدا لمعرفتى فأتعرف عليه طازجا بفرحة مؤلمة أحيانا، ومِن بُعد جديد، ومرة أخرى لاكتشافى مدى جهلى السابق وغفلة حماسى لما كنت أعتقد أنه الحقيقة كلها، وهكذا تختلط فرحة الاكتشاف، بآلام الرؤية، بالخجل من الجهل، طول الوقت.
ثلاثون ساعة، وثلاثة مشاهد
أنا أعرف (أوكنت أتصوّر أننى أعرف) مدى ما وصلنا إليه من دفاعات تبرر انسحابنا إلى ظاهر التدين (دون إبداع الإيمان) حتى خيّل إلينا أننا نعود إلى ديننا، فى حين أننا لا نبذل الجهد الكافى لمعرفة حقيقة ما نعود إليه، أو للتعرف على مدى إمكانية تطبيقه، ثم إننى كنت وما زلت أعرف المغزى السياسى – لا الدينى – لانتشار ظاهرة الحجاب، وظاهرة المرحوم الشيخ الشعراوى، حتى ظاهرة الداعية الشاب عمرو خالد ، مرورا بظاهرة الصديق الكريم الدكتور مصطفى محمود، ثم إنى أعرف (أو أزعم أنى أعرف) معنى انتشار العمرة المصرية، وكأنها فرض أهم من الانتظام فى الصلاة، وكأن الله سبحانه وتعالى ليس أقرب إلى أىِّ معتمر، وأى مسلم، ،وأى إنسان من حبل الوريد. أقرب هنا فى مصر، وفى أى مكان، أقرب فى حجرة أى فردٍ يفكر أن يعتمر لا سيما إذا قام الليل إلا قليلا، نصفه أو نقص منه قليلا. كل هذاأعرفه، وأحترمه، وأفهم مغزاه ، ولا ألوم أحدا على ممارسته. ثم إن كل هذه الممارسات التعبدية (وإن بدت هروبية)، لها ما يقابلها بنفس الطريقة ونفس المغزى عند إخواننا أقباط مصر الكرام. وقد زادت مؤخرا بنفس الطريقة فى نفس الاتجاه الخاص بهم ، لنفس الأسباب. لا أحد يلوم أحدا إذا رجع إلى دينه، أو حتى إلى ظاهر دينه. يحتمى به من قسوة الواقع، وغـفلة الحكومة ، والاستهانة بوجوده، والتغاضى عن حقوق إنسانيته. إن الناس حين لا تجد فى الواقع الجارى أى سبيل لممارسة الكرامة التى كرم الله بها خلقه، ولا أى مساحة لتساهم بالرأى فيما يلحق بها، ولا أى فرصة لتحقيق الآمال التى تراودها، لا تملك إلا أن تحتمى بدينها، أو حتى بظاهر متطلبات دينها. هذا حق دفاعى طبيعى، لكنه ليس إبداع الإيمان ، ولا هو تخليق الجديد القادر على تجاوز واقعنا المر، ولا واقع العالم المغترب. رغم أننى أعرف كل هذا، إلا أن ما فاجأنى فى هذه الثلاثين ساعة جدّدَ معرفتى هكذا:
المشهد الأول : “رؤى” القناة الثالثة
الخميس 27 ديسمبر مساء: برنامج “رؤى”، الحلقة الثانية ، دعيت للمشاركة فيه دون أن أعرف أنه لتفسير الأحلام، كان الداعى قد أبلغنى أنه لقاء حول الطبيعة العلمية لظاهرة الأحلام، حاولت الاعتذار بعد وصولى ومعرفتى حقيقة الأمر لكن بدا ذلك مستحيلا، البرنامج يذاع على الهواء ، يشاركنى فيه عالم فاضل من رجال الأزهر الشريف أعلنت من بداية البرنامج ، وبصريح العبارة ، أننى أرفض فكرة تفسير الأحلام هكذا، قلت إنه لم تـعـد للحلم أهمية لما يحوى من رموز، وإنما ترجع أهميته الآن إلى حقيقة الظاهرة نفسها، الحلم صمام أمن ضد الجنون. الحلم هو واقعنا الآخر، الحلم هو حق “الداخل” أن يقول ، حتى لو لم نحسن الاستماع لما يقول، الحلم هو تعويض من الوعى الغائر لغلبة معلومات اليقظة على الوعى الظاهر، وتنظيم لهما معا. قلت كل هذا لأهرب من مأزق التفسير.
كنت قد تعلّمت الحذر من مثل هذه البرامج منذ ثلاثين عاما إثر مشاركتى فى برنامج إذاعى كان أقرب إلى الفكاهة ، كان بالمشاركة مع المرحوم محمد رضا، رحت أؤكد فى كل حلقة أنى لا أقدّم تفسيرا، وإنما أحاول أن أضيف معلومة محدودة من خلال محاولة قراءتنا” للوعى الآخر”، لكن يبدو أن المذيع كان يحذف هذه المقدمة دون أن أدرى، وحين اكتشفت هذه الحقيقة التى كانت بمثابة خيانة إعلامية لى، توقفتُ فورا. فى تلك الليلة (الخميس الماضى) وجدت نفسى متورطا إعلاميا وأنا مضطر لمواجهة أحلام الناس وهى معلنة على الملأ من خلال نافذة الإعلام هذه، لكننى استفدت معرفة أخرى: أغلب المكالمات الهاتفية ، بل والفاكسات، والبريد الإلكترونى محتواها دينى سطحى صرف، وردود زميلى العالم الجليل رجل الأزهر الشريف : حاسمة، وجاهزة، وواضحة، لم أجد فرصة بعد النفى الصريح المبدئى لعلمية مبدأ تفسير الأحلام ، أن أنبه كيف أننى وأنا الطبيب النفسى الذى يستمع كل يوم لعشرات الأحلام، لا أستطيع أن أفسر حلما واحدا ولو بعد شهور من معرفة صاحبه بهذا الحسم والسهولة، بل إننى لا أستطيع أن أفسر أحلامى شخصيا بأى درجة مقبولة. تساءلتُ عن هذاالذى يجرى هكذا بهذه السهولة ، بمجرد أن يحكى الحاكى حلمه، تصدر الفتوى والتفسير والاستشهاد بنصوص دينية جاهزة ويقينية ، لم ينفع تنبيهى على دور الحالم فى “إبداع” حلمه لا مجرد تلقّيه، ولا إشارتى إلى مسئولية الحالم عن كل مايصله فى وعيه ويقظته ونومه، ولا على أننا – للظروف التى نعيش فيها – استسلمنا لعالم الأحلام هربا من الواقع. لم ينفع أى من هذا أن يغفر لى – أمام نفسى – مشاركتى فى هذا البرنامج الذى خرجتُ منه مهموما أضرب كفا كفا ، وأتساءل : أهذا هو إسلامنا الذى أزعم أنه الإبداع المختلف الذى سيهديهم إلى حقيقة ما نعتقد؟ أهذه الأسئلة ، وهذه الإجابات، وهذه الطريقة فى التفكير، هى التى سوف ترد على هجومهم على إسلامنا؟ واستهانتهم بحضارتنا؟ أين يقع هذا التفكير المستسلم التابع من دعوتى فى مقال الأسبوع قبل الماضى أن: ” … نتحمّل، ونختلف، ونعمل طول الوقت، ونبدع، ونجرّب، ونخطئ، فنصحح، ونجرب، ونعبد، ونستلهم، حاملين مسئولية ضلالهم المفترِى..إلخ” من ذا الذى سيفعل ذلك ؟ هؤلاء السائلون أم هذه الإجابات ؟
خرجت من البرنامج وأنا فى حال، ومما زادنى جزعا أن الداعى الكريم (معد البرنامج) تفضل بتوصيلى حتى الباب وهو يشكرنى ويدعونى لأكون ضيفا دائما للبرنامج، تيقنت أنه بذلك لم يبلغه اعتراضى المطلق على التغييب والتسطيح الذى يروجهما هذا البرنامج وأمثاله. أبلغته اعتذارى، وزاد همّى. وانتبهت إلى شطح ما أكتب.
المشهد الثانى: “صرخة إبراهيم سعدة
أخبار اليوم، المقال الافتتاحى لرئيس التحرير، ثلاث صفحات كاملة بعنوان”حكاية سيدة مجهولة” لم يدهش منه زملاؤه الذين استشارهم بشأن خطاب هذه السيدة مثل دهشته، يبدو أنهم يعرفون الجارى أكثر منه ومنى، خلاصة الخطاب الذى ملأ ثلاث صفحات بالطول والعرض (صفحة 1. 14. 15 بدون إعلانات) أن سيدة مصرية ، شديدة الذكاء، نبيلة الحس، تحلَّـلَها رجل شديد الانغلاق، يتصوّر أنه شديد التدين، فحال دون عقلها أن ينطلق، ودون حسّها أن يتناغم مع أى رسالة فنية أو إنسانية أو إبداعية أو إيمانية، ودون عطائها أن يساهم فى بناء المجتمع عملا أو فكرا، وقد اضطرت هذه السيدة أن ترضخ لهذا القهر كله، فلم يكن أمامها بديل، وراحت تنجب له الطفل بعد الآخر ، ليبرمجهم بنفس الطريقة وأكثر، حتى أصبحوا يمثلونه ويدعون إلى ما يدعو إليه، وخلاص. تتساءل السيدة فى نهاية خطابها عن معنى أن نهلل لتحرير المرأة الأفغانية من جلادى أفغانستان “…فى الوقت الذى نتجاهل فيه ما يحدث للمصريات” ثم تطمع أن تنال المصريات بعض ما نالته ،أخيرا جدا ، بنات جنسها فى أفغانستان” ثلاث صفحات كاملة يسمح بها رئيس تحرير شجاع، حتى تعلن فيها هذه السيدة حال كثيرات من المصريات المقهورات الغائبات المغيبات ، لكى تصل بخطابها إلى استنتاج واستغاثة تتعارض مع كل اعتراضات أمثالى على حملة أمريكا على أفغانستان. ما بلغنى هو أنها تتمنى – ولو لا شعوريا – أن تغزونا أمريكا هكذا لترحمها من زوجها هذا.
أنا لا أناقش الآن دورالنقاب أو الحجاب دينيا، ثم إننى لا أزعم – مثلما يصور الخطاب – أن كل المحجبات أوالمنقبات مقهورات على ذلك، بل إن خبرتى وهى ليست قليلة (من واقع احتكاكى بالمرضى من كل الطبقات وبأهاليهم) أن كثيرات قد تحجبن ،وتخمّرن وتنقّبن بمحض إرادتهن. بل إنهن فرضن ذلك على أزواجهن بعكس هذه السيدة . إن دلالة هذا الخطاب عندى هى فيما آل إليه حال الزوج والأبناء والبنات، وليس فقط فى قهر هذه السيدة التى ظلت أكثرمن عشرين سنة ، ومازالت، كما يبدو من خطابها، محتفظة بقدرتها على التفكير لنفسها، وعلى الاحتجاج، وعلى الاستغاثة ، وعلى الصبر وهى ترسل هذا الخطاب. إن الدلالة الحقيقية لهذا الخطاب ليس فى آلام السحق الذى تعانىه هذه المرأة وأمثالها، وإنما هو يدل على ما آل إليه جمود تفكيرنا بالاستسلام إلى ظاهر التدين دون إبداع الحلول الإيمانية. إن الاكتفاء بهذا الظاهر هكذا هو ضد كل ما أتصوره ردا على أمريكا، وقهر أمريكا، وإجرام شارون، إن هذا المثال يضعنا أمام واقع شديد الدلالة يقول :إننا توقفنا عن التفكير، وبعُدنا عن الإيمان الحقيقى القادر على مواجهة القهر الغربى ، إننا بذلك نقهر عقولنا أكثر مما يقهرون هم واقعنا،
لم يفهم أغلب الناس ما سبق أن كتبتُه عن وجه الشبه بين قهرطالبان لناس أفغانستان (وليس فقط لنسائه) وبين قهر دبليو بوش هو وتحالفه لكل من يخالفه أو يهدد مصالحه. إن هذه السيدة تستجير من قهر أعمى بقهر أقـسى، إنها تكاد تتمنى أن يخلصها أمثال بوش، من أمثال الملا عمر.
عشت خطاب هذه السيدة وهى تقول لى ما أعرف، تحكى عن توقُّف التفكير لحساب تقديس تفسير محدود، يحل محل نبض الإيمان الخلاّق. تبلغنى مثل هذه الرسالة وأنا أشاهد كل تلميذات المدارس الإعدادية خاصة فى الأقاليم، وأنا أدخل إلى مصلحة التليفونات، أو إدارة الكهرباء وأشاهد كل الموظفات محجبات ومخمرات، وأنا أركب المصعد فى محل عمر أفندى وعامل المصعد يدمدم وهو يتلو المصحف طول الوقت وهو جالس دون النظر إلى عمله، وأنا أحاول أن أنصت للقرآن الكريم كما أمرنا الله حتى لا يكون قلبى مثلما وصف تعالى أنه “على قلوب أقفالها”، أتوقف عن التجوال فى السوبرماركت العملاق ولا أعرف كيف أحتج ، وجميع الرواد والعاملين فيه لا يتوقفون عن اللغو والمساومة . أنا لا أعترض على أى من ذلك لذاته، لكننى أحاول أن أنبّه إلى أن أيا من ذلك ليس غاية التدين المراد توجيهه سلاحا حضاريا يرد على الهجمة الصليبية التى نتعرّض لها. أنا أتصور أن كل ذلك ليس إلا نوع من إعلان “العصيان السياسى” . لكن أثره السلبى قد يمتد إلى أن يُختزل إسلامنا الذى أتصوّر أن به جوهر حضارى يختلف تماما عن المعروض على الإنسان المعاصر، جوهر حضارى يستطيع مواجهة، بل وإنقاذ “الدين الأحدث : المسمّى الحضارة الغربية” ، إننا نختزل إسلامنا إلى حجاب وعمرة مكررة، دون إبداع أو إضافة ، أو تكامل، أو امتداد، أو امتلاء ،إننى أتصور أنهم لن يحترموننا مهما كررنا الحديث عن أمجاد أجدادنا، لكننا يمكن أن نفرض عليهم احترامنا إذا قدمنا لهم بديلا ينفعهم مثلما ينفعنا. لكن برنامج القناة الثالثة ، وحكاية سيدة أخبار اليوم، يقولان شيئا آخر، ويسهلان مهمة أن نقضى على أنفسنا بأنفسنا دون حاجة إلى استعمال حق الفيتو.
الشبح الغامض (العفريت)
رحت أراجع ما كتبت فى الوفد بهذا الشأن فوجدتنى منتبها إلى هذه الحقيقة ، حقيقة الفرق الشاسع بين ما صارت إليه عقولنا من كسل، وتقليد، وخوف، وقهر، وبين ما أحلم به من إمكانية التحدّى والإبداع لنطرح البديل الأرقى للعالم كله. كتبت فى الوفد (21 أكتوبر 2001) على لسان المعترضين على دعوتى وهم يلوموننى على حماسى للإسلام الحضارى قائلين: “…إن الإسلام الذى تتحدث عنه هو تصورك أنت عن الإسلام، أو عن الإيمان حين يتجلى فى الأديان بما فيها الإسلام، أماالإسلام المتاح فهو يترجّح بين مؤسسة مغلقة وبين متشنجين مبتسرين” تذكرت هذا الاعتراض الذى حاولت أن أرد عليه، فعرفت أنه أقرب للصواب من آمالى ، وشطحى وأحلامى، هذا ما بلغنى من برنامج “الرؤى” فى القناة الثالثة ، ومن حالة هذه السيدة فى أخبار اليوم؟
ذكّرنى خطاب هذه السيدة بخبرة مؤلمة مررت بها فى أول أيام عيد الفطر المبارك منذ أسابيع، كنت قد ذهبت أصل الرحم كما علمنى إسلامى، وأعيّد على أخى الأكبر وأقبل يده، قابلت ابنته الثانية ، وقد ناهزتْ الخمسين عاما، وما زلت أحبها كما كنت أحبها وهى فى الثالثة من عمرها، وأنا أقذف بها إلى أعلى وأتلقّاها. قبّلتها ، وفرحت بلقائها، وكنت سمعت -غير مصدّق – أنها تخمّرت، أوتنقّبت ، لكننى لم أكن متأكدا، فقد قابلتنى كما اعتدتُ أن أراها، واحتمتْ بحضنى كما اعتادت مذ كانت طفلة ، لكن ما إن لحقنا إبنى وابنتى وأولادهما ليعيّدوا على عمّهم وجدهم كما علّمهم إسلامهم، حتى اختفت ابنة أخى بسرعة لم أفهمها، ثم سرعان ما أطلّ علينا خيال أسود تبرز من أعلاه عينان زائغتان، فزع الأطفال خوفا من الخيال حتى بكى يوسف حفيدى (أقل من عامين)، رجّحت أنه ظن أنها عفريت. فهمتُ بسرعة أنها فعلت ذلك بعد حضور ابن عمها (إبنى). لم أمنع نفسى من إبداء رأىى قولا وفعلا، بما تيسّر لى من حسم فى حدود ما أعرف عن دينى، وبدافع من حبى الشديد لابنة أخى هذه حتى هدّدتها بالانصراف فورا إن لم ترجع إلى حجابها (وليس بالضرورة سفورها)، ففعلت ، وعادت تضحك طيبة قريبة كما أعرفها طول عمرى، يُـطل من وجهها إيمان سهل جميل، سألتها عن الحكاية فأخبرتى أن ابنتها (طالبة فى الجامعة أو حديثة التخرج) هى التى أقنعتها بذلك، وأنها(ابنتها) هى التى تمنع فتح التلفزيون فى المنزل ثم ذكرت لى نصا قرآنيا كريما كما فهمتْه من ابنتها، و لم أوافق على التفسير، وحسابى على الله.
مسح عقول النشء بالتلقى السلبى
لم أفزع من تصرف ابنة أخى هذا بقدر ما فزعت من أن إغلاق حركية التفكيرتأتى من الأصغر إلى الأكبر، وليس العكس، (هذا ما ذكرته أيضاسيدة خطاب أخباراليوم) .رجحت أن ذلك إنما يرجع إلى أن هذاالجيل الأصغر محروم أصلا من فضيلة التفكير ،التى اعتبرها العقاد “فريضة إسلامية ” . إنه قد حرم أيضا حق الحوار، وحق ممارسة السياسة ، لم يعد متاحا أمامه إلا التسليم لآراء وفتاوى سلطة ما. إن حكامنا راحوا يدربونهم على أن يتنازلوا عن حق التفكير للسلطة الحاكمة التى سوف تقوم بكل العمل بما فى ذلك التفكير، ومن هنا راح شباب وشابات هذا الجيل يفضلون اختيار من يسلمونهم مفاتيح عقولهم. تسليمٌ بتسليم، فليسلموا عقولهم لتفسيرنص مقدس يتصورون أنه سوف يرحمهم من آلام الحرية ومن حيرة إعادة النظر، مع أن الله سبحانه لن يرضى أن نهمل أغلى نعمة منحنا إياها، وهى العقل ، وسوف يحاسبنا على إنكارها هكذا.
هل هذا النشء هو الذى أخاطبه فى مقالاتى وأنا أدعو إلى إبداع حل جديد من خلال إيماننا الخلاق. كتبت يوم 22 أكتوبر فى مقال “خدعة التلفيق، وضرورة الإبداع “ما يلى بالحرف الواحد” ..بالنسبة للمسلمين خاصة،..لاحت الفرصة الحقيقية ليكونوا مسلمين”، إلى أن قلت “إن على من تصادف أن وجد نفسه مسلما، ويريد أن يكون كذلك بحق،أن يرجع إلى إسلامه كما أنزله الله يستلهمه من جديد، لا أن يستسلم لتفسيرمن توقف عند ظاهر ألفاظه” .
عدت بعد هذه الثلاثين ساعة أتساءل الآن : كيف ترجع ابنة أخى ، وابنتها، إلى إسلامهما هذا الذى أروّج له، هل عندهما فرصة ؟ كيف ترجع سيدة أخباراليوم وأبناؤها إلى إسلامهم ووالدهم توقف عن كل شىء إلا سماع أشرطة مسجلة ، مرة يفرض ما فيها على أفراد أسرته، ومرة أخرى يلعن الشيخ الداعية بعد أن يبلغه – دون يقين- أنه فاسق أو فاسد. نفس التساؤل خطر لى بالنسبة لمعدّى برنامج القناة الثالثة ، كيف يرجعون لإسلامهم لنواجه التحدى ؟ هل هذا هو كل الواقع ، إن كان الأمر كذلك ، فما أشبهنى بمرضاى فعلا.
كيف وصلنا إلى هذا، هكذا؟
ما الحكاية ؟ من نحن ؟ إلى أين أوصلتنا هذه الخمسين سنة الأخيرة ؟ وربما ما قبلها ، وما بعدها، وما يجرى الآن طول الوقت ؟ ماذا جرى وماذا يجرى فى عقول وليس فقط فى اقتصادنا أو فى حربنا أو فى سلامنا ؟
هل يمكن أن أسمح لنفسى بأن أواصل الأمل والكتابة بعد أن بلغنى كل هذا الواقع هكذا؟ واقع ما وصلت إليه عقولنا أبنائنا وبناتنا ؟ . ألا يحق لى، ورغم هذه البصيرة، أن أصف نفسى بالبعد عن الواقع” أكثر من مرضاى؟
المشهد الثالث: فوكوياما، وحسن وجيه
فى نفس يوم السبت الذى ظهر فيه مقال السيدة صاحبة الخطاب فى أخبار اليوم (29 ديسمبر) ظهر فى الأهرام كلٌّ من مقال فوكوياما” إنهم يستهدفون العالم المعاصر”، وهو المقال الذى نشره كاتبه أساسا فى مجلة النيوزويك ديسمبر2001- فبراير 2002 ! (حسب ماورد فى الأهرام)، كما ظهر فى نفس الصفحة رد الدكتور حسن وجيه بعنون”من يستهدف من” . بدا لى من قراءة المقالين معا فى نفس الصفحة (شكرا للدكتور أحمد يوسف القرعى لإتاحة هذه الفرصة) أن الاثنين بعيدان عن هذا الواقع المر الذى تأكد لى وأنا أراجع المشهد الأول، فالثانى ، مقارنة بما أشطح به فى كتاباتى. فوكوياما يعلن بشكل محدد أن دينه الغربى الجديد هو المثل الأعلى للوجود البشرى، لا بما يتخلّق منه،ولكن بما هو هكذا (واللى عاجبه)، وهو يخاف على دينه من قوى التعصب الإسلامى الأعمى، وهو يطبطب – من بعيد لبعيد – مثل سادته على الإسلام ويدعى فصله عن المسلمين المتعصبين الإرهابين شريطة أن ” يوضع فى صندوق….وينسب إلى الحياة الخاصة بعيداعن السياسة” مع أنه يعترف فى نفس المقال : “أن الديمقراطية الحديثة هى نسخة علمانية للمبدأ المسيحى للمساواة الإنسانية عالميا” ..إلخ. وهو (فوكوياما) يثق فى قدرة دينه الغربى الجديد على القضاء على هذا الغباء الإسلامى الأعمى.
يرد عليه الدكتور حسن وجيه لينتهى إلى أن “..خلاصة ما نؤكدعليه هنا هو أن الدول العربية والإسلامية فى حالة من التقهقر والخلف الحضارى والضعف والجمود الذى ينبغى أن تخرج من دائرته بقيم العمل، والتعددية ، وعبور فجوة الإدارة، وتفعيل طاقات الأمة، وينبغى أن نعترف بالتقصيروالقصور الذاتى. وعلى الرغم من بلاغة الرد ، وسلامة الحجة إلا أننى لم ألمح ما لمحته فى مقال يوم أهرام الجمعة (29/12) بقلم الأستاذ د. شنج مونج ووكيل كلية اللغة العربية بجامعة الدراسات الأجنبية ببكين الذى كان أهم ما فيه إظهار الفروق الجوهرية بين دين فوكوياما وهنتنجتون وبوش ، وبين جوهر الوجود(فلسفيا ، وإبداعيا) إذا تجلّى من خلال فطرة الإيمان.
امتدادا لفرض سبق أن قدّمته يظهر وجه الشبه بين بن لادن و بوش، أضيف أن زوج سيدة أخبار اليوم، وما دعى ابنة أخى إلى ما فعلت، وبرنامج رؤى القناة الثالثة وما شابه كل ذلك ، لا يخدم إلا فوكوياما وبوش . إن هذه الحلول الجامدة ، والدفاعت المغلقة ، مهما بدت تدينا ، هى منتهية بطبيعتها لأنها ضد الإبداع والتطور، وهى بذلك تخدم قهر بوش وغطرسة بيلير وفكر فوكوياما.
لا أستطيع أن ألوم معدّ البرنامج، ولا الضيف الكريم صاحب الفضيلة من الأزهر، وهو جاهز لتفسيرالأحلام دون معرفة إلا ظاهر ما تحكى المتحدثة ، ولا مذيعة البرنامج، ولا سيدة أخبار اليوم التى تتمنى – لا شعوريا – أن يحررها بوش من قهر زوجها مثلما حرر أخواتها فى أفغانستان. بل إننى أىضا لا ألوم هذا الزوج الذى لم يجد أمامه أى آحتمال آخر غير هذاالاختباء من التهميش وقلة الحرية والاستهانة التى فرضت علينا منذ خمسين عاما. فراح يمارس اتخاذ القرار دون الرجوع إلى أصحابه ، والبركة فى القدوة الحسنة. أنا أنبه إلى أن ما نحن فيه ، لا يخرج منه إلا هذا، مهما كتبت الأقلام أو تجلّت الأفكار، وأبدعت.
حالة مستعصية
أحاول أن أمنع نفسى من أن أكرر ترديد أمل بعيد، صار أبعد فعلا بعد تجسّد واقع عقول شبابنا بالذات هكذا. الواقع هذه المرة بدا لى أكثر مرارة ، لأنه لا يتناول أخطاء السلطة فحسب، بل هو يعرّى آثار هذه الأخطاء على أغلى ما يملك الإنسان : حريته وعقله. ومع كل هذا، لا أخفى أننى على يقين من أن الإبداع هو الذى سينتصر. لا بوش، ولا بن لادن، ولا ديمقراطيتهم الزائفة، ولا نقاب سيدة أخبار اليوم، ولا زوجها ولا حكومتنا السنية !!!
يبدو أن حالتى الخاصة جدا، أصبحت مستعصية جدا.