نشرت فى الدستور
7/5/1997
الهرب فى المستقبل
فرق بين الهرب فى المستقبل والهرب إلى المستقبل وبين هذا وذاك وبين اقتحام المستقبل، وتحمل مسئوليته، وأحسب أن أغلب حديثنا عن المستقبل الذى زاد وفاض هذه الأيام يقع تحت التعبير الأول “الهرب فى المستقبل” دون الثانى والثالث.
كنا صغاراً – فى الابتدائى- نقرأ بالانجليزية قصة واحدة اسمها “أليس فى بلاد العجائب” كانت كلما طلبت حلوى (أو مربى) يعدونها: “بالمربى غداً، المربى غداً” وكلما جاء الغد أصبح له غد، فإذا سألت “أليس” عن المربى إذا ما حل اليوم التالى قالوا لها: لكن اليوم الذى نحن فيه الآن هو اليوم (النهاردة) وكل يوم له غد، فاطمئنى فالمربى آتية غداً نحن لا نكذب، وهكذا، لا تأتى المربى أبداً لأن الغد لا يأتى أبداً.
سألنى مريض، أكرمه الله على يدى، وكان قد قرر أن يهدينى لوحة رخامية بمناسبة شفائه (بعد سنين عدداً) وكان قد كتب اسمى على أحد وجهى اللوحة، سألنى ماذا يكتب على الوجه الآخر، فأجبته أنت حر، ونبته إلى أننى لا أحب الشعارات، حتى لو كانت حكما رصينة، ثم طلبت منه أن يكتب ناتج خبرته معى فى العلاج، فجاءنى بلوحة كتب عليها ثلاثة ألفاظ وهى “كنت”، “سوف”، “لو” وشطب على كل منها هكذا: X، وكان يعنى أنه تعلم من خبرة العلاج ألا يستعمل هذه الألفاظ لأنها معطلة، وكتب بجوارها ثلاثة ألفاظ أخرى وعلى منها علامة صح، والألفاظ هى “أنا”، “هنا”، “الآن”، وكان يعنى أن الموقف الإيجابى للحياة يتحدد بما أفعله “أنا” “الآن” لا بالتأجيل “سوف” ولا باجترار الماضى (كنت) ولا بالندم بافتراض ما لم يحدث (لو) وفرحت فرحاً شديداً أننا – هو وأنا- قد توصلنا إلى كل هذا.
ومنذ ذلك الحين كلما حضر مريض آخر، وقرأ هذه اللافتة على مكتبى، سألنى ماذا تعنى، فأطلب منه أن يجتهد، وعادة ما يوفق فى تفسير أغلب الألفاظ، ومعنى الشطب، ومعنى الصح ولكن الأغلبية كانت تتوقف عند “سوف” يقولون، فهمنا كيف لا نجتر الماضى فكيف تحرمنا من الأمل فى المستقبل، فأجيب أن المستقبل هو النتاج الطبيعى لما نفعله أنا وأنت الآن فالمستقبل لن يوجد أبداً إلا بما نفعله نحن الآن، فيقتنع الواحد منهم بعد لأى وتعتعة مناسبة، أو يسخر منى ويمضى.
ومن خبرة شخصية عبرت عن مثل ذلك شعراً عامياً حست كنت أتصور أننى أحمل الذين حولى طول الوقت، فإذا سألتهم متى يأتى دورى ليحملنى أحدهم، قالوا “بكره” لما نكبر نبقى قدك، فانتبهت شاعراً قائلا:
“بقى كده؟ بكره؟ بكره فين بكره؟ ونا مالى قد ومالى حد، خايف لتكون الحارة سد، والصبر مرار، وأنا مش رافض اشرب كأسه، على شرط يكون للكاس دا قرار، واستحمل طول الليل غلبى، على شرط الليل ييجى بعده نهار، والصحراء بنزرع فيها الصبر، تطرح حرمان، نسقيه من طولة البال، وبنحدى كلام ونقول موال: جمل المحامل برك شمتت لعادى فيه.
ومن الهرب فى المستقبل إلى تشويه المستقبل، فى “وداعاًَ يا بكوات” نلقاكم فى التعتعة القادمة.