الوفد: 27/9/2001
الناس مرعوبة وعندها حق
الخوف له ما يبرره، كذلك الأمل…!!
ليكن..
ليكن يوم 11 سبتمبر هو الحد الفاصل بين ما قبله وما بعده. هو لم يأت بجديد، هو كشف عن فساد المعادلة التي كانت تدّعي أنها تحكم توازن العالم، لا أكثر. كل من قرأ إرهاصات الأدباء، وتوقعات المحللين قبل هذا الحدث، كان ينتظر شيئا كهذا، ولكن هل نستسلم للتغيير المتوقع باعتبار أنه قضاء وقدر، يأتي من نفس المصدر الفوقي الذي انتهي بنا إلي هذا الثلاثاء الأسود، أم أننا – الناس- شركاء في صنعه؟
أسبابٌ لـلخوف.
صباح الخميس الماضي، جاءني صوتها عبر الهاتف بعد أكثر من سنة، كانت تنشج نشيجا جعلني لا أتبين لأول وهلة من هي، ولا ماذا تقول، عرّفتني بنفسها فخجلتُ. هي صديقة من قديم، أستاذ مساعد بكلية الزراعة قالت لي إنها قرأت مقالي في الوفد، وذكرت كلاما طيبا لا داعي لذِكـِْره، ثم أردفت “أنا خايفة “. وعاد نشيجها حتي انقطعت المكالمة.
في مساء نفس اليوم، قرأت المقال لشيخي الجليل نجيب محفوظ، بعد أن تناولنا عشاءنا من الفول والطعمية في فلفلة المنيل بجوار كوبري الجامعة، لم يكن الحاج صبري قد قرأه له هذا الصباح، قال شيخي الجليل معلّقا “إنه بالرغم من التعاطف الإنساني البادي في المقال في البداية والنهاية إلا أنّك شرّحت أمريكا حتي يكرهها الناس بما لا يقاس، قلت له ربما، لعلّك تخفف من غلوائك في تقدير إنجازاتها، وما تمثله.
أثناء انصرافنا توقف شيخنا في الممر، والتفت إلي وأنا ممسك بذراعه قائلا : هل رأيتَ أعجب من ذلك؟ هذا أمر لم يحدث في التاريخ، رئيسُ دولة يوقع قرار الحرب دون أن يحدد ضد من !!! قلت له : بل دون أن يعرف هو شخصيا من سيحارب.
في نفس الليلة كنت علي موعد مع مفيد فوزي في برنامجه “مباشر”، في محطة أوربت، وكان يدور حول نفس الموضوع وقد أسمي الحلقة” الأيام المشحونة”. ذكر لي مفيد في بداية الحوار – علي الهواء- كيف أنه التقي أستاذا جليلا مثقفا وتعجّب حين بادره الأستاذ الصديق: “أنا خائف، ثم أردف الصديق: لست أدري من ماذا؟ تذكرت مكالمة الصديقة أستاذة الزراعة صباحا، وتعليق شيخي الجليل.
أجبت مفيدا أن الخوف -في مثل هذه الأحوال- هو الأصل. وأن العجيب أن تجد واحدا ليس خائفا من الخسائر المحتملة علي كل الجبهات، أو من عشوائية الخبطة القادمة. ما دامت اللغة قد فقدت مصداقيتها، وما دامت أخطر الأمور تسير بهذا الشكل المنفلت غير المسئول، ومادام رئيس العالم لا يتردد اثنان في الحكم علي تواضع مستوي ذكائه استنتاجا من بلاهة تصريحاته، وتردده، وثقل دمه. هل في هذا الشخص الرخم”، ونظامه المدّعي الظالم، ، ما يدعو للطمأنينة أصلا؟
حين رجعت إلي بيتي قفزتْ إلي بقية الأسباب التي تبرر هذا الخوف العام الزاحف أذكر منها :
(1) الشعور بأن الدولة (حتي أكبر دولة) أصبحت أعجز من أن تحمي الناس (حتي أغني الناس).
(2) الشعور بأن القانون في تلك الدولة تقوم عليه مجموعة من المغرضين المميكنين، يتهمون من يقول “توكلت علي الله (البطوطي) بالانتحار ليحمو شركة عملاقة أو اغتيالا رسميا، وهم الآن يجمعون أسماء العرب دون الخواجات من شركات تدريب الطيران. (راجع مقال “أليس غريبا أن يكونوا كلهم عربا- منير الجبان الأهرام 21 الجاري، عن صحيفة تشرين السورية). جهات التحقيق هذه، في أكبر دولة في العالم، لم تعرف حتي الآن من الذي قتل رئيسهم جون فوستر كنيدي من عشرات السنين، لكن الذي عرفته في خلال سنتين هو أن البطوطي “توكل علي الله ” وانتحر، فقتل ركاب طائرة حمّلوه أمانة أرواحهم !! لسنا نحن يا سادة مهما اتهمتمونا بالتخلف. لسنا جيم جونز في الغابة الحمراء، ولسنا ديفيد قورش الذي أحرق مجمع الديفيديين 1993 فأحرق نفسه مع 76 من أتباعه بينهم زوجاته وأبناؤه (لم ينج منهم سوي ثلاثة). ثم إن نفس جهات التحقيق هذه، يحل عليها فجأة مهارة معجزة فتصل خلال بضع ساعات أو بضعة أيام إلي أن بن لادن هو المجرم الأول والأخير في حادث الثلاثاء الأسود!!! هل يوجد ما يطمئننا بعد ذلك إلي أن ثم تحقيقا يجري، أو ثمة عدالة ممكنة؟
(3) الشعور بأن الإنجاز البشري الأحدث (المعلومات، والمعلوماتية، والتكنولوجيا الأحدث إلخ) أصبحت في متناول مَـن عنده ثمنها ويعرف الطريق إليها، والتدريب عليها، دون رادع قانوني قادر، أو أخلاقي مسئول. (من أروع التفسيرات للحادث، أن الذي قاد الطائرات هو برنامج (أو جهاز تحكم) مزروع – أشبه بالطيار الآلي- يوجهها إلي هدفها بعد إقلاعها بعد أن يوقف تدخل الطيار الأصلي. ( د. ممدوح حمزة.الأهرام 21 سبتمبر )
(4) الشعور أن أدوات الدمار الساحق، والشامل (بما في ذلك القنبلة الذرية) أصبحت، ويمكن أن تصبح، في يد من لا يعرف حقيقة تداعيات استعمالها، أو حتي آثار التهديد بها (راجع كتاب محمد حسنين هيكل “الخليج العربي.. مكشوف”، دار الشروق، الطبعة الثانية 1999 فقد كتبه عن الخطر من قنبلة الهند وباكستان الذرية علينا، فما بالك لو تحصل عليها من لا نعرف. راجع أيضا مقال الأهرام: محمود إبراهيم منصور 20/9/2001 عن قدرة الأفراد في امتلاك السلاح النووي واحتمالات تمويلهم)
(5) الشعور أن المسئولين علي أعلي مستوي، لا يريدون أن يتعلموا مما حدث، وأن كل همّهم هو أن ينتقموا ممن لا يعرفون، ليستمروا كما كانوا، وربما أكثر مما كانوا، في نفس الاتجاه.
(6) الشعور بخطورة ما يخططون له من تصنيف العالم حسب مزاج الأقوي والأغبي، ما دام هو الذي يملك حق التصنيف والتوصيف دون أصحاب المصلحة، أليس بيده حق “الفيتو” إياه !!
(7) الخوف من أن يتمادي الانهيار الاقتصادي، ويدفع ثمن ذلك الأفقر فالأفقر.
أسبابٌ للأمل
أتوقف عند هذا الحد وأنا أحترم الخوف، لكنني لا أستسلم له، أتوقف لأعترف بكل فخر أن عدد الأصوات العاقلة والواعية والمسئولة التي تابعتها في مصر والعالم العربي أساسا، وفي كافة أنحاء العالم علي ما قُـسم، كانت أكبر من تصوراتي، من أول هذا المواطن المصري جدًّا الذي اسمه محمد حسني مبارك، وهو ينبه، بتلقائية ومسئولية ومبادرة، إلي خطورة تقسيم العالم إلي “إرهابي” و”ضد إرهابي”، وهو يرفض استدراجنا إلي هذا التقسيم العبثي المتشنج ويأبي أن ننضم إليه، وهو يبين كيف أن حرب الصواريخ لا تصلح إلا مانشتات للصحف دون أن تكسب أرضا أو تنهي صراعا، حتي فريدمان-المتحيز ضدنا أبدا- وهو يشير إلي ضرورة البحث في الأسباب المحتملة، وأن تنتبه الولايات المتحدة إلي المخاوف الفلسطينية، ومظالم المسلمين الاقتصادية.
أصوات وأصوات
ارتفعت الأصوات. من هنا وهناك، يحدد كل منها ما وصله من أن يكون هذا الثلاثاء هو يوم الفصل، بين ما قبله وما بعده. لكن قليلا منها هو الذي بدا أنه وعي الدرس. نقرأ معا :
أصوات مستقطبة
(1) بعد الحادث صرح السيد بلير، وقد نصب نفسه وآله ممثلا للحضارة والمدنية دون سواه أن ما حدث هو تصرف بربري يحاول القضاء علي الحضارة الحديثة التي يمثلها سيادته. وهو لم ينتبه إلي أن حضارته ومدنيته هذه هي التي أفرزت من يحاول تحطيمها بهذا العنف المتحدي. وهو لم ينتبه لا بعد الحادث ولا قبل الحادث، كيف قام بدور التابع “قفة” لصديقه كلينتون، ثم لهذا الدبليو (دون تفرقة !!).، يتبعهم بكل بجاحة وهم يقرون قتل الأطفال والكهول والمدنيين، ثم الرجال الذين يحددونهم – بالظن- الواحد تلو الآخر دون محاكمة. يا سيد بلير يا حليوة: مالذي يهدد الحضارة أكثر بالله عليك؟ فقدُ بضعة آلاف – رحمهم الله- بخبطة مجهولة، أم انهيار العدل رسميا، وعالميا وبمنتهي “الفيتو”، في أروقة مجلس الأمن شخصيا، بفضل إنسانيتك غير المسبوقة التي تحمي القتلة الرسميين، وبفضل إعلامكم المتحيز وهو يروج للقتل ويبرر الإبادة ويـَسـِمُ الذين يحررون أرضهم بالجبن والغدر؟
(2)،…كتب رضا هلال (مع أنه الأعلم بمواطن أمريكا : تفكيك أمريكا، أمريكا الحلم والسياسة، ، المسيح اليهودي ونهاية العالم..إلخ)، كتب في أهرام الخميس 20 الجاري تحت عنوان “البنْلادينية أو العولمة يقول ” … فهجوم بن لادن جاء في اللحظة التي انعقدت لأمريكا راية قيادة نظام العولمة…..، بل إن البنلادينية كحركة إرهاب دينية مسلحة استطاعت أن تصل بطائراتها الانتحارية إلي مركز التجارة العالمية…… ولذلك فإن الحرب بين البنلادينية والعولمة التي بدأت يوم 11 سبتمبر ستكون حربا طويلة وشرسة، بل حربا عالمية بين معسكر الإرهاب من جهة، وبقية العالم من جهة أخري….”
هكذا خبط لصق، قبل المحاكمة، وبدون أدلة، جعل الطائرة بنلادينية، والهجوم بنلاديني، فجاء تقسيمه للنظام العالمي الجديد استقطابا بين العولمة (التي هي بالتعريف لا يملكها أحد، وإنما خطفها الأقوي مؤقتا)، والبنلادينية.
(3) بنفس الطريقة يقسّم السيد دبليو العجيب العالم إلي قسمين ” من معه (100%) فهو من العالم الحر – فريق محاربة الإرهاب-، ومن ليس معه فهو إما إرهابي، وإما سلبي يؤوي الإرهاب، أو يباركه سرا.
أصوات إيجابية
علي الجانب الآخر، ارتفعت أصوات أعمق تنبه إلي أن ما كان يسمّي النظام العالمي الجديد ذو القطب الواحد (أمريكا) انتهي عمره بهذا الحادث، وأن علينا ألا نكتفي بالعودة إليه، وإلا فلننتظر تكرار ما حدث، تواتر هذا التوجه انطلاقا من رؤية فريدمان “أن ما يحدث في العالمم هو حرب عالمية لا تواجـِهُ فيها دولة عظمي أخري، بل هي…. في مواجهة رجال غاضبين ونساء غاضبات، كما يري د. وحيد عبد المجيد (الأهرام 21 سبتمبر)”أن الإرهاب.. يتجه الآن أن يكون القطب العالمي الثاني (في مواجهة أمريكا القطب الأول)، بما يعنيه ذلك من تغيير في هيكل النظام العالمي الذي يصير ثنائيا وليس أحاديا”، ثم يضيف أن “.. هذا نظام لا يمكن تحقيق النصر فيه بضربة قاضية..”.
ضرورة الاستقطاب كمرحلة، لا أكثر
في تصوّري أن مبدأ الاستقطاب نفسه أصبح غير ذي موضوع، هو اختزال للتحرك البشري لحفظ النوع علي كل الجبهات، لو أمعنا النظر حولنا للاحظنا مئات، بل آلاف من الاستقطابات، الضرورية، لكنها ليست دائمة، ولا هي منفصلة. هي استقطابات مرحلية تصب في كلٍّ غير محدد، لكنه أكيد، كلٍّ يبشر به ما أنجزه الإنسان من تواصل ومواصلات. إنها استقطابات لا يمكن الاستغناء عنها، إذا كان للحياة أن تسير في مجراها التطوري الحقيقي، لكنها ليست دائمة، ولا “هي الحل”.
إن حادث الثلاثاء الأسود (بغض النظر عن فاعله) قد كشف عن بعض هذه الاستقطابات القائمة، والتي أشير إلي أمثلة منها، مازالت قائمة، وهي مؤقتة، وقد ألزمنا الحادث المروع بإعادة النظر فيها:
(1) العالم الذي يسمّي نفسه حرا (المتمثل في أمريكا) في مواجهة العالم الأسطوري الهمجي المتعصب (الذي يختزلونه في بن لادن، أو طالبان، وأحيانا الإسلام).
(2) عالم الحكومات الرسمية في مواجهة عالم الحكومات السرية (المافيا وجماعات الضغط : اللوبيات – جمع لوبي ـ الذين يحكمون الناس من تحت لتحت)
(3) عالم التدين الحرْفي (السلفي) في مواجه العلمانية التنويرية والإلحادية والتحررية.
(4) عالم الدين الفلاني في مقابل الدين العلاني، (أو الفرقة الفلانية في مقابل الفرقة العلانية من نفس الدين).
(5) عالم المنتجين المصدرين، في مقابل عالم المستهلكين الطفيليين
(6) عالم المبدعين المغامرين في مقابل عالم الكسالي المقلدين.
(7) عالم المال والسلاح والدواء والشركات، والمدنية الكمية الملتذة “الرفاهية” (المسماه خطأ بالحضارة المعاصرة)، في مواجهة عالم الناس “الغلابة” ومصالحهم الحقيقية ونوعية وجودهم، وكرامتهم.
الأمل، والمرحلة القادمة
من حيث المبدأ: نحن لا نستطيع أن نرفض هذه الاستقطابات رغم خطئها وخطرها، وقد كانت موجودة علي مر التاريخ، ولكن الذي حدث مؤخرا أن الناس أصبحوا أسرع اتصالا ببعضهم البعض. أكثر معرفة ببعضهم البعض، أكثر تعاطفا مع بعضهم البعض، أكثر نظرا في فكر بعضهم البعض. فأصبحوا يمثلّون كيانا مستقلا عن وصاية المؤسسات القاهرة علي كل المستويات، صحيح أنه كيان هلامي ما زال تحت التكوين، وصحيح أنه لا يمثل كل الناس لأن غالبية الناس لا يملكون رفاهية الدق علي الأزرار للتواصل والتفاهم والتعاطف علي بعد آلاف الأميال، لكن الصحيح أيضا أن القلة التي تقوم بذلك، ينعكس نوع تغيرها الإنساني علي الباقين حتي تتاح الفرصة لهذا الباقي أن يمارس هذا النوع الجديد من الوجود.
الأمل أن يتم من خلال كل ذلك تكوين وعي جديد، وأخلاق جديدة، وإيمان جديد، (لا أقول دين جديد، فكل الأديان تصب في هذا الإيمان القديم الجديد).
القوي الحالية ثلاثة لا اثنتين
إلي أن يتم ذلك، وهذا هو الأمل الذي يحدونا إذا أحسنا قراءة الحادث، دعونا ننظر في حقيقة القوي التي تسير العللم الآن، لنجدها ليست واحدة، (أمريكا)، ولا اثنتين (العالم الحر<=> ضد الإرهاب)، ولكنها ثلاثة كنقطة بداية. ذكرتُ في مقالي السابق أن الصراع لم يعد بين الطبقات، ولا بين الأديان، ولا علي الأرض، لكنه صار بين الناس”، وبين قوة المال المغترب لذاته في ذاته. فما هي القوة الثالثة التي ترجح كفة هذا عن ذاك، والتي يترتب علي موقفها ما يمكن من خير، أو من مضاعفات؟
القوة الثالثة هي الحكومات، وقد اختلف دورها وتأثيرها عمّــا كان عبر التاريخ.
لم تعد الحكومات هي التي تسير العالم، ولا حتي تسير الناس الذين تحكمهم في مناطق سلطتها، بل أصبحت مؤسسات تابعة لقوي حقيقية أخري، وحادث الثلاثاء ينبهنا إلي ضرورة إعادة النظر في هذا الخلل الطارئ.
حتي هذه اللحظة، تنحاز الحكومات لقوة المال دون الناس، مع أنها ترفع شعار الناس، والإنسان، وحقوقه، وكلام عن العالم الحر طول الوقت، إلا أن حقيقة انحيازها أنها أداة للقوة المالية المغتربة علي حساب الناس، انفصلت هذه الحكومات عن الناس إما لضعفها أمام القوة الحقيقية الأعلي، وإما لصفقات القائمين عليها مع هذه القوة الأعلي، وإما لعجزها المتزايد أمام غضب الناس العشوائي المدمّر تحت مظلة الديمقراطية حين يساء استعمالها، ثم إنها انفصلت عن سلطة المال حين استغني هذا الأخير عن خدماتها المباشرة إذ تخلص من وصايتها بالتهرب وعبور القارات.
إن حادث الثلاثاء الأسود هو إعلان صريح لما آلت إليه حال قوة الحكومات من ضعف وتهافت، سواء في حفظ الأمن، أم في العمل علي صالح الناس، دون القوي المالية السرية والعلنية علي حد سواء.
ومع ذلك فإن الحكومات، التي ما زالت تملك قرار الحرب، والضرب، والإغارة، وإعمال القانون، والتوقيف، والجباية، مازال لها دور فعال يمكن أن تقوم به لو انحازت للناس، وليس للمال إلا إذا صب في صالح الناس.
وكيف يكون ذلك
بدلا من أن تنصب جهود هذه الحكومات، التي تملك سلاح الذرة، وتتطاول في البنيان، علي متابعة شخص واحد أو عدة أشخاص للانتقام منهم وممن يتعرّض لهم من دول، وأيضا ممن ينتمون إليه من أديان، بدلا من ذلك، عليها أن تدرك من خلال حادث الثلاثاء الأسود أن انحيازها إلي قوة المال المغترب الأعلي كان خطأ صرفا، وأن أحدا من أصحاب القرار الخفي لم ينفعها، لا اللوبي اليهودي، ولا شركات السلاح، ولا شركات الدواء، ولا شركات ثقب الأوزون، وأن الناس الذين ولّــوها أمرهم، ومن ثم كل الناس، هم أولي بالرعاية.
إن انحياز الحكومات إلي “الناس” لن يتمثل في إعلان الحرب علي قوي المال، أو في مزاعم أخلاقية مثالية خائبة، أو في الزعم باشتراكية صورية، إن هذا الانحياز إذا صدق، وتم تحت ضغط الخوف من انقراض الجنس البشري فعلا، لا بد وأن يراجع تاريخ البشر ليستخرج منه ما أهملناه مما حفظ الجنس البشري آلاف القرون. دعونا نتساءل ونحن نستلهم التاريخ: لماذا ظلت الأديان علي قوتها حتي الآن (رغم ما لحقها من تشوه، وتعصب، حتي فقدت مصداقيتها البقائية)؟ لماذا ظلت الأخلاق الحقيقية (وليس مجرد الشعارات في المواثيق) هي التي تعطي للإنسان ميزته،؟ لماذا ظل الإبداع هو الذي يستشرف المستقبل ويتقدم بالحلول غير المسبوقة؟
هذا هو ما يمكن أن نستفيده من حادث الثلاثاء الأسود. نفحص ذلك لنستعيده وننمية.
هنري بريستد (مرة أخرى).
سنة 1933 كتب هنري بريستد في مقدمة كتابه “فجر الضمير” يقول :”….. لقد أصبح من الآراء العامة المؤسفة الشائعة بين أبناء الجيل الذي أعقب الحرب العالمية (الأولي طبعا)، أن الإنسان لم يتورع يوما ما عن استعمال قوته الآلية المتزايدة في الفتك بأبناء جنسه، وقد برهنت الحرب العالمية علي إمكان وصول قدرة الإنسان الميكانيكية الهائلة علي القيام بأعمال التخريب إلي حد مروع، فليست هناك إذن إلا قوة واحدة في استطاعتها أن تقف في وجه هذا التدمير: هي الضمير الإنساني. وهو شئ اعتاد نشء الجيل الحديث أن يعده مجموعة محددة من الوساوس البالية….إلخ” (مرة أخري : هذا كلام مكتوب سنة 1933)
هل لنا أن نستلهم هذا الرائد الأمين لنقول علي غراره “… إنه قد ثبت بعد هذا الثلاثاء الأسود أن الناس لا تتورع عن استعمال كل ما تحت يديها من أدوات الاستغلال (قوة المال)، والتحطيم (غضب الناس الانفجاري)، للقضاء علي الجنس البشري…، وليس هناك إلا قوة واحدة في استطاعتها أن تقف في وجه هذا التدمير من الجانبين…..” ثم دعونا لا نكرر ألفاظ بريستد عن الضمير والأخلاق حتي لا يتهموننا بالمثالية، ونحن منها براء.
هيا نبحث عن تلك القوة التي ستحفظ الجنس البشري، بدلا من البحث عن فاعل ليس إلا نتاجا لنظامنا الخائب. دعونا لا نكتفي بتسميتها الضمير، ولا نقصرها علي دين بذاته، لأن الأديان جميعا تصب في الإيمان سعيا إلي وجه العدل تبارك تعالي، ولأن الضمير لا يكون إلا وهما مثاليا إذا تخلي عن مسئوليته عن كل البشر، أعداء وأقارب، يعاملهم بنفس المقياس علي اتساع الأرض طول الوقت نبحث عنها بإلحاح “النوع” الحريص علي بقائه، وسنجدها حتما، حتي لو لم نعرف عنها الآن حرفاً.
لــلخوف له ما يبرره ،
كذلك الأمل .