“يوميا” الإنسان والتطور
21-11-2007
… الموت والشعر
حين كتبت لمحة عن كتاب أقاصيص/قصيدة أسامة الدناصورى: (“كلبى الهرم – كلبى الحبيب” يومية 19-11)، استشهدت بكلمة أدونيس فى رثاء صلاح عبد الصبور “الموت، ذلك الشعر الآخر”، كما وجدتنى أراجع موقفى من علاقة الموت بالحياة بالخلود الذى ذكرته فى نقدى ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ والذى أوجزته فى “أن الحياة هى إرادة التخلق من يقين الموت والوعى به” لأضيف فى تلك اليومية إضافة بدت لى غامضة حتى الآن حين قلت: إن الذى يخلق الحياة ليس فقط يقين الموت والوعى به وإنما هو الموت ذاته،
كيف تتخلق الحياة من الموت؟
وفى يومية أسبق (“المصداقية بالاتفاق” يومية 12-11) أشرت إلى أنه كيف وصلنى مؤخرا – دون قصد – أن الموت هو نقلة من الوعى الشخصى إلى الوعى الكونى توجها إلى وجه الحق سبحانه وتعالى،
كل ذلك ألزمنى أن أعود لافتح هذا الملف تحملا لمسئولية هذه المخاطرة، وأملا فى المضى خطوة أخرى لعل وعسى.
يبدو أن حل الإشكال يبدأ من ضرورة التفرقة بين الموت والفقد، وأيضا بين الموت السكون الذى يبدو كأنه العدم لمجرد الاختفاء، وبين الموت ذلك الشعر الآخر، وهو القادر على إعادة تشكيل الوجود بالجدل بين مستويات الوعى المتصاعدة إلى وجهه تعالى، متجاوزة الوقوف عند حسرات الفقد، ووحشة الاختفاء.
هذا الموت الأخير هو ما يحتاج إلى …
……..
…. فجأة حضر محمد إبنى صاحب القصيدة التى نشرت فى نفس اليومية، – وفى أخبار الأدب من قبل – حضر يقاطعنى من خلال ما أرسله لى من تصحيح لما ذكرته فى تلك اليومية 19-11 التى نشرت فيها قصيدته، يقاطعنى قائلا:
….. أما بعد، فأسامة ليس الصديق الذى كُتب فيه ما كُتب منى.
كنت أعرف أسامة وأقابله عند أصدقاء مشتركين ومعهم، ولم ترق معرفتنا لمستوى يسمح لى بادعاء صداقته.
أما ما كتُبت فقد كان موجهاً لمحمد حاكم، زميل ممتد منذ 1985 وما بعدها، وكان قد جاءنا خبر إصابته بسرطان فى البنكرياس، منتشراً انتشاراً يحسم التوقعات تماماً. جاءنى الخبر جرعة واحدة، ولم يكن قد بلغه بعد، ولم يكن كثيرون يعرفون ماذا يفعلون، ماذا يقولون له وماذا يخفون، والأغلب أنه كان يعرف أكثر منهم ويقبل أكثر منهم. وفى هذا السياق، ولطبيعة المصريين الذين يتصورون عن فعل الخير غير ما ينبغى أو يفيد أو يواجه؛ انهزم الذين عرفوا مقدار حسم النتيجة الطبية أمام من سعوا لمطّ الحياة حتى ولو بأبهظ التكاليف والآلام وبأقل المبررات.
كنت قد عرفت، وتوقعت كل هذا، ولم أجرؤ على إعلان حسم توقعاتى، فكُتِبَ ما كُتِب (قبل أن يموت بشهرين) ولم أجرؤ على إعلانه إلا لاثنين فقط ممن يعرفونه. ثم مات، ونشرت الكلمات التى لم تكتب لتنشر، شكراً مرة أخرى، ليس على هذا وحسب.
محمد يحيى الرخاوى
فضلت يا محمد أن أثبت ملاحظتك الكريمة هنا وليس فى حوار بريد الجمعة لأنها تصحيح ليومية مهمة، الخطأ الذى وقعتُ فيه لم يكن خطئى وحدى، ربما حدث لأن نشر قصيدتك واكب أو أعقب رحيل أسامة، ولا أنت ولا هالة أخبرتمانى بصاحب الرثاء تحديدا،
أمّا أنك كتبته وصديقك محمد حاكم مازال حيا، فإن فى ذلك ما يبرر العنوان “يموت” ذلك العنوان الذى جعلنى أتصور أن أسامة لم يمت بعد فى وعيك،
تقول لم تكتبها للنشر، وأنت تعلم أننى لا أنشر كثيرا من شعرى، لكن فتح ملف “الموت والشعر”، ومعلومة أنك كتبت ما كتبت (أو كتب منك) وصديقك مازال حيا، جعلنى أتذكر خبرة مماثلة حين صحبت عمك المرحوم أ.د. السعيد الرازقى إلى مستشفى ماسْ جنرال فى بوسطن، وعرفنا هو وأنا طبيعة مرضه، وأنها النهاية تماما مثلما عرفت أنت فرص صديقك محمد حاكم، فوجدتنى أكتب عن موته وهو بعُد حيا (أيضا)، وأخبرته بذلك بحبٍّ وقح، وإذا به يضحك مرحبا، ويطلب منى أن أسمعه رثاءه، فتكون سابقة خاصة، ثم أكمل ضحكته قائلا: وربما صححت لك لغتك (كان هو الوحيد الذى ينطق اسمى يَحْيىَ بفتح الياء الأولى) (رحمه الله)
وكانت القصيدة بعنوان أنياب الظلام (1).. وها هى
لماذا يا صديقى؟
(دائٌرة ملتْـثاة).
عجّلتَ بالنهاية؟
(تقضم فى المجهول والمعلوم أنيابُ الظلام جائْعة).
هل ضقتَ ذرعاً؟
أسأمتكَ أصواتُ اللجاجِ والجشعْ؟
…….
ثارت أجنّة الخلايَا، تصْطرعْ
تعملقتْ فطرتُكَ الأَبيّة
لم ترْعَ عهداً، لاَ، ولمَّا تنَتْظرْ.
فيم العجاَلةَ والسَّأمْ؟
تقفز خلف الحدّ بعد العدّ، تقتحمْ.
ترجع نحو عُشِّها اليمامهْ.
لم نَقْوَ بعدُ يا صَديقىِ.
قبل الوفاة
30/7/1985
ثم عدنا يا محمد إلى القاهرة،
وجاورتُ سريره ليل نهار، ولم نحاول أن نعبث بأيامه الأخيرة كما أشرتَ أنت بالنسبة لصديقك، وظل شهيقه وزفيره يعزف لحن الوداع فى غيبوبته حتى فاضت روحه، فحضرتْ قصيدة أنياب الظلام (2) على إيقاع ذلك، وزوجته الكريمة أمام ناظرىّ وفى مخليتى (رحمها الله)
هاهى القصيدة
“أنياب الظلام (2)
-1-
وصاحبى ..،
يقولها بعد انتهاء الموعِد،
بلهاءُُ ترعى فى سرابِ الخُلْدِ تُفْرزُ العدَمْ.
-2-
وصاحبى..،
يلهثُ خلفََ الموتِِ، قَبْل الموتِ،
جاء الموتُ يسحبُ الحياَةَ قطرةً فقطرهْْْْ،
فتطفحُُ البثورُ فوقََ صفحة الكلامْْْ.
أقلِّب الديوانَ بْحثاًً عن قصيدةًٍٍ مُهْترئهْ،
وصاحبى: يروِّضُ الهواءَ
ينتظمْ.
-3-
مَرْحى انطلاَقةَ التَّحَررِ،
مَرْحَى استدارةَ الزَمنْ.
(العار ياسيدتى الكريمة،
العار ألاّ نختفى.
“أجسادنا تكبّل الإلهامْْْ”،
“تبرر العفن”ْْ)
-4-
تجمّد الصقيع ذرّاتُُ المناوبهْ.
يا حسْرتا
لم يبقَ إلاّ ما تبقّى من فُتَاتِ المائدهْْْْ.
ياصاحبى
لا تطفئ الشموعَ قَبْل الرَّجْفةَ المسافَرة.
الآنَ؟ ليس الآنَ،
حتى الآن، قبل الآن،
يا نبضها حقيقة الرّانِ المكثّـفِ فوق قلب الخائبين العُزَّلِِ.
-5-
يشهق فى رَتابة
سرٌٌُّ توارى فى لحَاءِ الشْوكَةِ المزدهرةْْ.
يحنوُ عليها – تنطلقْْ.
يزفرها،
تسلّم الَعلَمْ.
يُطلّ من ورائها المجهولْ.
..لا سَهْلَ إلا ما سَهُلَ
“شيخٌٌُُ إذا ما لِبَسَ الدِّرْعَ حَرَن”،
”سهلٌ لمنْ سَاَهلَ، حزْنٌ للحَِزنْ”
هل يا تـُـرى تَسَلَّمََ القيادةْ؟
هل يا تُرى قد أَصبحا فى واحدٍ،
إن قال: كُنْ، يَكُنْ؟
-6-
جُزْئيّةٌٌ حائرةُ،
تقوُل؟ لا تقولُ؟ تَعْتَملْ.
(لم أبدُ يوما، لاَ ولمّا أستترْ)
سارعتُ أنفخ المقُولة القديمةْ،
دارتْ تئنُّ
ترَّددََ الصَّدىَ،
يرقصُ رقصةَ المصلوبِ فوق شاهِد العدمْ.
-7-
هذا،
ولمّا كان يوُمها بلا غدٍ،
وريحُها بلا اتجّاَه،
مزّقتُ ثوبََ الشِّعـْر،
ذابتِ القصيدةُ الوليدهْ،
فى وَعْدِها القتيلْ.
-8-
فى كلِّّ وجهةٍٍٍ نبىْ،
فى كل نبضةٍ أًلمْ.
-9-
يعاودُُ الشهيقُ، يُشهد الزهورَ والحقبْ:
”ما مضّنِى سوى الزَّفير ينتحبْ
ما هدََّّّّ ظهرى غيرُ طوْطَم الَبكَمْْ،
ماَ راَعنى سوَى الكذبْ” .
-10-
وصاحبى
غَافَلَنَا بَلا ودَاعْ
أَرْخَى سُدُوَلُها
بعد الوفاة: 13 / 2 / 1986
هل لاحظت يا محمد
“هل يا تُرَى قدٍ أصبحا فى واحد، إنْ قال كًنْ يْكُنْ”؟
أكتشف الآن أن شعرى سبق رؤيتى التى أشرت إليها فى البداية، وفى يومية المصداقية بالاتفاق Link سبقها بعشرين عاماً.
ثم أنى انتبهت بعد رحيله، وبعد تأكيدنا لبعضنا البعض على تبادل المواعظ والحكم، وبعد إعلان التعلّم – حتما – من حقيقة يقين الموت، والتعهد ألا ننسى، وأن نراجع أنفسنا – مادام الأمر كذلك – حتى نكيف حياتنا بما يليق بالوعى بهذه الحقيقة، لاحظت يا محمد أننا – أننى – ننسى كل ذلك بسهولة لا مثيل لها، مهما قلنا، ونعود إلى ما كنا عليه بالضبط، وأكثر عمىً، والحمد لله، فكتبت هذه القصيدة الأخيرة بعد أن ضبطت نفسى متلبسًّا فى أحضان الحياة اللعوب، ناسيا صاحبى بشكلٍ أو بآخر.
“عظة الموت تتسرب”
…..
وأزعم أنَّ القناعَ القديمََ تساقطَ حتَّى استبان المدارُ، يبشّرُ بالمسْتحيلِ:
إِذَنْ؟
وتسرى المهارُبََ تْنحَتُ درباَ خفيَّا بجوْف الأملْْ،
فأخْشىَ افْتضاحََ الكمائنَ نسف الجسور، وإغراقَ مَرْكبِِ عَوْدَتَنا صَاغرينَ، فَأُمْسكُها، تَتسَحّبُ بين الشُّقُُوقَ، وحَوْلَ الأَصَابع، تَمْحُو التَّضَاريِسَ بين ثَنَاياَ الكلامِ، تُخَدّر موضعَِ لدْغََ الحَقَائقْ، تَسْحَقُ وَعْىَ الزُّهَورِ، ولحَنَ السَّناِبلِ.
مَنْ؟
لماذا الدوائرُ رنُّ الطِنَّينِ، حَفيفُ المذنّبِِ، يجرى ، بنفسِ المسارِ لنفس المصير،
بلاَ مُسْتَقرْ؟
لماذا نبيُع الْهُنَا الآن بخساً بما قد يلوح، وليس يلوحُُ، فنجَتُّر دَوْما فُتَاتَ الزَّمْن؟
لماذا الوُلوُجُ؟ الخُروجُ؟ الدُّوار؟ لماذا اللِّماذا؟؟
فَمَاذَا؟
وأخْجَلُ أَنْ تستبينَ الأمورُ فُأُضْبَطُ فى حُضْنِها الغانية.
فأزعم أنّى انتبهتٌٌ، استعدتُ، استبقتُ، استبنتُ،..
(إلى آخرِهْ!!)
ويرقُصُ رقّاصُها فى عنادٍ، فتنبشُ لحْدَ الفقيدِ العزيزِ، ُتُسَرّب منه خيوطَ الكَفَنْ.
أخبِّئها فى قوافى المراثى لأُغْمِدَ سَيْفََ دنوّ الأجَلْ.
……..
فياليته ظلَّ طىَّ المحالِ،
وياليتَها أخطأتها النبالُ،
وياليتنى أستطيب العمى
10/5/1986
أشكرك يا محمد أن أتحت لى هذه الفرصة،
وإلى لقاء هنا أو هناك.
إليه أبدا!