نشرت فى مجلة الإنسان والتطور
عدد يوليو 1983
الموت … الحلم … الرؤيا
(القبر/الرحم)
عن “رواية الأفيال”
لـ فتحى غانم
قراءة: أ.د. يحيى الرخاوى
1- عمل شديد التكثيف: كثير التداخل مفرط فى الأستطراد، يكاد يتحدى قارئه لدرجة الأغاظة، ويهدده لدرجة الرفض، ويعريه وهو يسحبه بأسلوب ظاهر السطحية إلى أغوار لم تخطر على باله، ثم يتركه فى نفس الصحراء الترابية مع أمل غامض فى “تبديل ما”، يكاد من فرط الأنهاك يبدو بديلا غائما مثاليا بشكل أو بآخر.
هذا هو انطباع أول قراءة سريعة، لأول وهلة.
2- وللوهلة الثانية: هذه هى سكة الذى “يذهب بلا عودة” (اللى يروح ما يرجعش)، ومن قديم وأنا أحتار باحثا عن الفرق الحقيقى بين سكة الندامة، وسكة الذى يذهب بلا عودة، وحين كنت أسمع – طفلا – حدوتة الشاطر حسن، وأمامه السكك الثلاث: (السلامة، والندامة، واللى يروح ما يرجعش). كنت أشعر أن السكة الثالثة هى أغمضها وأخطرها جميعا، حيث كان يبلغنى أن الندامة الحقيقية تلحق من تورط فى السير فى هذا الدرب ذى الأتجاه الواحد، وحين درست بعد ذلك مواقف النمو ومحطاته من منطلق نظريات العلاقة بالموضوع[1] (بالآخر)، وعرفت أن ثمة جذبا إلى الرحم هو الذى يفسر الموقف الشيزويدى (المنسحب)، وأن ثمة ندما على القتل الخيالى لمصدر الحب والحياة (الأم) هو الذى يمثل هذا بشكل أو بآخر، ثم تأتى أفيال فتحى غانم[2] لتذكرنى بحيرتى الطفلية، لأعود أخلط بين “سكة الندامة” وسكة اللاعودة، ولا أتبين – فى الرواية – سكة السلامة إلا قليلا، فطوال الرواية الاسطورة يندم يوسف منصور[3] على ماكان قبل الرحلة، ثم يعود فيكاد يندم على الرحلة ذاتها، وهو يحاول العودة لأصلاح مافسد، ما أفسده هو وما أفسده الدهر جميعا، ندامة ندامة ندامة، لكنه يتمادى فى سكة اللا عودة، أليس معى الحق أن أخلط بينهما صغيرا .. ثم .. كبيرا.
3- “الأفيال”..؟! يثير الأسم (الذى لا يذكر ولا مرة واحدة فى المتن) عدة احتمالات : (أ) فلعلها “مقبرة الأفيال” الفاغرة فاهها لاستقبال جماعة الموتى هروبا من فزع الأنقراض، تزفهم ارهاصات النهايات (ب) أو هى اشارة إلى صراع البقاء، صراع الأفيال مع الأنسان على الأرض والطعام[4] (جـ) أو هى اشارة ضمنية إلى بعض عادات الأفيال مثل أن مجتمعاتنا تعرف تجمعات الذكور دون الأناث (إلا وقت التكاثر)، فقد يلاحظ القارئ أن الرواية (الشكل دون الأرضية) ذكرية بشكل ما، فحتى ليلى الشقراء كانت أساسا جنسا لا أنثى (د) وأخيرا فلعلها “جزيرة الأفيال” المعروفة فى حضارة بين الرافدين ألهمت المؤلف نسيجا متكاملا من نص عابر[5].
4- والرواية فى مستواها الأول (دون الأرضية الذكرياتية: “الفلاش باك”) تدور فى هذه الصحراء الترابية، التى مثلت لى فى آن واحد “القبر.. والرحم”، فهى رحلة بلا عودة (قبر)، وهى مشروع ولادة (رحم)، وهى تحوى هياكل بشرية بلا غاية (اللهم إلا مساعى الأغتراب الدائرية) (قبر)، كما تحوى مشاريع كامنة لرجعة محتملة (رحم: تناسخ)، وفيها يجرى تصفية حسابات قديمة أو مراجعتها على الأقل (قبر)، وفيها تتولد رؤى جديدة وتتكاثر احتمالات لم ترد قبلا (رحم) .. وهكذا.
5- يقع هذا القبر / الرحم فى الطبقة الأعمق من الوعى الفردى والوعى الجمعى على حد سواء، حيث يسقط الزمان (بمعنى التتابع المسلسل) ويسقط المكان (بمعنى الحدود .. والمواصلات معا)، ولاتبقى إلا كيانات متقابلة دائرية مغلقة تبحث – فى سرية – عن نقطة تفجر جديدة يتخلق منها معنى آخر لزمان آخر بكيان آخر، دون أن تجد إلى ذلك سبيلا على مدى الرواية، فتبدو يائسة لاهية حول نفسها سائرة فى محلها.
وقد ردد الكاتب، فى أكثر من موضع، موقع الرواية بين الصحوة والنوم مثل ” أنه يجلس بين الصحوة والنوم ” (ص 364)، فالكاتب يعلن – فى مباشرة غير ضرورية – نوع هذه الرواية فيما يسمى أدب الحلم بشكل أو بآخر – وهو نوع من الرؤيا التى تفتح أبواب الخبرة الفردية المختزنة، وتعيد التأليف بينها فى بنية جديدة، بقدر ماهو منطلق إلى الوعى الجمعى حيث يبدو أن هذا الأخير يذكرنا بالكهف وأهله – حيث ينسحب الناس من أمام الظلم، أو خوفا من تمام الضياع إلى كهف ينامون فيه عدة قرون، “لاتقل أنى بقيت مخدرا عدة قرون” (ص90)، فهم يموتون إلى أجل مسمى (أو غير مسمى) – ولكنهم يعيشون فى هذا المستوى “الحلم” الأخر. ونحن هنا نواجه ما جرى داخل الكهف وأثناء السبات (وليس ماقبل النوم أو بعده مما هو خارج الكهف أصلا كما تبلغنا أسطورة الكهف عادة)، وحين نستقبل يوسف منصور باعتباره يوسفا (زيدا من الناس)، وفى نفس الوقت نراه – ولو جزئيا – يمثل الوعاء الذى أحتوى تاريخ العالم وحاضره، نجد أنفسنا ننتقل من المستوى الشخصى إلى المستوى العام وبالعكس: بما يضئ ظلماتنا بشكل أو بآخر.
6- لم أجد فى نفسى ميلا لترجمة رموز الرواية ترجمة فورية، حيث خشيت أن تتسطح منى أغوار وتضاريس الكهف، ومع ذلك فقد اضطررت اضطرارا لرؤية دلالات الشخصيات، حيث كان يفرضها السياق أحيانا ويعلنها المؤلف أحيانا أقل فى مباشرة لا ترحم، فخذ عندك: كريم شاكر يرمز للاغتراب الحسابى المعاصر (ألعاب الكمبيوتر)، والدومينو الأمريكانى)، وكوستا: الأغتراب العملى العضلى (الحركى) بما يصاحبه من تنافس فى لعبة لا تخلو من دلالة جنسية (الكروكية)، وفى نفس الوقت فوجهه اغريقى وعلاقة ذلك بالحضارة الرومانية وسقوطها ليس غير محتمل، أما سعد الحوت: فهو السلطة، وميرزا الفلكى: التاريخ، وآدم ريشفسكى يقع مابين كوستا وميرزا، ثم يغرينى تعدد الأجناس واللغات[6] فى الرواية بأن أفهم أننا فى مقبرة عالمية تمثل هذه الأرض بمن عليها.
ومع أن المؤلف قد احتاط ضد الظن باقحام رمزى يفسر هذه العالمية، فجعل البطل ممن أتيحت لهم فرصة زيارة “الخارج” مرات، إلا أن هذا لم يخفف من ثقل هذا التزيد بحيث بدا أكثر مما يحتاجه الهدف المحورى.
وقد وصلت الرمزية المباشرة – على ما يبدو – إلى دلالة الكتب التى صحبها يوسف فى رحلته إلى الرحم المقبرة الحلم، فميكيافيلى: النفعة الأنتهازية، وتوماس مان: العزلة، وشكسبير: الصراع مع القدر، ورجوع الشيخ: النكوص (جنسيا بالذات).
ثم جاءت الألعاب كذلك لتعلن دلالات محددة كما ذكرنا، لكن اللعبة أيضا هى لاعبوها “أنت والكرة والمضرب تصبحون شيئا واحدا” (ص44)، وقد تكررت الأشارة بشكل ملاحق إلى أن اللعب (الأغتراب) هو الوسيلة الوحيدة للأستمرار“أن نقضى وقتنا ونحن نلعب الدمينو” (ص88)، وعن الكروكية : “يلعبون ليل ونهار” (ص44) “فكل تقدم فى أساليب اللعب هو فى نفس الوقت ابتعاد عن مشاكلهم وذكرياتهم وهمومهم” (ص92)، “لا راحة لك .. افهمنى .. حتى تنسى نفسك فى اللعبة” (ص47)[7].
7- كان التنافس يجرى على اشده بين أشكال الأغتراب الثلاثة: النشاط العقلى المنشق (الدومينو / الثقافة المعقلنة – الأرقام)، والنشاط العضلى الرمزى المنشق (الكروكيه / التنافس الحركى الدائرى)، والبديل الجنسى: ليلى الشقراء (وان كان أقلهم انشقاقا كما عرضه الكاتب، حيث حمله دلالات التناسق، وأولج فيه “العلاقة بالآخر” بشكل ما)، ورغم أن هذا التناسق يجرى – لعبا – فى المقبرة الرحم الحلم، الا أنه كان يعكس بشكل مباشر الواقع الذى هرب منه يوسف، وكأنه يعلن ضمنا أن هذا الهرب من الأغتراب ليس الا هربا إلى اغتراب آخر.
8- ويذهب المؤلف فى كشفه لما هو تراكيب الذات إلى تعرية تعدد الذوات التى يمثلها الفرد الواحد، وبما أننا فى حلم يسمح بالتفكك النسبى لدرجة تطلق المحتوى والتراكيب فى علاقات جديدة، فقد دعمت هذه الرواية الفرض القائل بأن شخوص عمل الروائى ليست – فى النهاية – الا ذاته بما حوت من ذوات: بمعنى طبقات الوعى وتنظيماته، ويعبر الكاتب عن هذا الأحتمال بشكل مباشر أحيانا. نرى ذلك وهو يتذكر الأحداث: كان يتذكر صورة أبيه ” بل يشعر به فى أعماقه، كأن جسده هو ثوب جديد للأب الذى ذهب” (ص290).
ولايليق أن نقول أن مثل هذا التعبير هو نقل عن نظرية فى الذاكرة تعلن طبيعة الذكريات باعتبارها كيانات قائمة، وترى التذكر تحريكا منظما لهذه الكيانات، فأن مثل هذه النظرية غير موجودة بهذه الدقة، فأن وجدت فالتعبير الفنى أصدق وأكثر اختراقا. ويتكرر اعلان تعدد الذوات فى تركيب يوسف، والمطابقة بين الخارج وما يتحرك فى الداخل ويظهر ذلك بشكل مفصل فى موقف خروج الأبن حسن ثائرا هاربا من منزل والده يوسف مندفعا إلى التطرف الدينى: “… بغور فى ستين داهية، قالها يوسف وهو يشعر لدهشته أنه تخلص بطرد أبنه من البيت من شئ فى نفسه … لقد خرج مطرودا مع حسن ذلك المراهق الذى اسمه ” يوسف “… أن باب المسكن ينغلق بشدة محدثا دويا هائلا، فيقيم سدا سميكا بينه وبين حسن، وبينه وبين يوسف الذى كان فى مثل سن حسن” (ص 152)، ولا يمكن أن تعرض فكرة تعدد الذوات وصورها بأدق من هذا، كما لا يمكن أن نفهم الأنشقاق الداخلى بينها (بين الذوات) من مصدر علمى بنفس الإيماء والمباشرة التى أبلغها أيانا هذا المقتطف، وهذا الوضوح هو الذى يشجع على التمادى فى تبنى الفرض الذى يسمح برؤية بعض شخوص الرواية وتفسير بعض مشاهدها التى تساير هذا الفرض وتدعمه، فمخاطبته لوجهه فى المرآة وتلاحق وجوه المرآة مع تلاحق السنين وتبدلها، كل ذلك لا ينبغى أن يؤخذ باعتباره مجرد خيال، بل معايشة لتركيبات قائمة: ” … ووجهه الساخر الذى يطل عليه من المرآة … لو كان فتح الغطاء الزجاجى ومد يده وأخذ قطعة الشيكولاتة لرأى نفسه فى المرآة وهو يقضمها ويأكلها، ترى إلى متى سوف يلازمه هذا الوجه، سنة أخرى، سنتان ثم يفترقان كما افترقت عنه وجوه كثيرة كانت له من قبل” (ص49) فهذه الوجوه، بهذه الصورة، ليست انعكاسات مرحلية، لكنها كيانات تظهر فتختفى فى كمون مستعد للتحريك والتعتعة، ولعل تعبيره الآخر “أتبكى وجهك الذى ضاع منك” (ص55) يذكرنا بالرجل الذى فقد ظله، ولعل هذا يدل على تطور الكاتب من “الظل” إلى “الوجه” الدال على الكيان الكامن، ولو أنه لم ينس أن يصور هذا التعدد فى شكل الظل أيضا، وذلك فى تصويره ليوسف والحوت وظلاهما يهرولان بجوارهما “… وأنه قال لنفسه وهما يلهثان: ماذا يفعل هذان الأبلهان… إلخ” (ص186)، وكذلك ” ورأى الظلين الأبلهين يتبعانهما تحت أقدمهما” (ص 202).
ويمكن أن نتمادى فى رؤية هذا التعدد فى شخوص الرواية أنفسهم حتى نرى “زينب” زوجته وتوأمها “مريم” شخصا واحدا: مريم هى الزوجة الأمل الحلم، وزينب هى الزوجة الواقع الأحباط، وبالتالى يستحسن أن نستقبل ” مراد حسنين” صديقه الخفى باعتباره صورة يوسف المأمولة، أو ذاته الخيالية التى تمثل أحلامه الهروبية فى الهجرة والعزوبية والثراء واللا أنتماء، فمراد حسنين (ذات يوسف الحالمة) هو الذى هيأ له هذه الرحلة، وهو الذى دفع مصاريفها، وهو الذى حلم بعلاقة “أخرى” مع زينب وكأنه يستعيد بها مافقد بموت أحلام الخطوبة (موت مريم التوأم)[8]، وقد كان التقابل الرباعى صريحا فى أكثر من موقع: مثلا (ص334) “أنا، وأنت، وزينب، ومريم”، “ومراد” الحلم يفتح باب الهرب بسهولة “من حقى أن أحاول أنقاذك من متاعبك” (ص32). (لاحظ: من حقى، وليس من واجبى).
ولكن لابد من الحذر من التمادى فى هذا الفرض حتى لا نتعسف التأويل، مثل أن نفترض أن المتعة الشاذة المحتملة مع مراد حسنين والتى شعر بها يوسف وهو ثمل (ص330) هى نوع من النرجسية أو الشبق الذاتى autoerotism، أو أنه لا ينتمى إلا لذاته “أن مراد حسنين هو أهلى” (ص330) – ومثل هذه المغالاة فى التأويل غير مطلوبة رغم احتمال صدقها.
كل هذا يسير فى اتجاه تأكيد الفرض القائل: أن كثيرا من ذوات الرواية ليست فقط “منطبعات الخارج” فى الوعى الأعمق قد أطلق سراحها “الحلم الرحلة”، ولكنها أيضا – وربما قبلا- تنويعات الذات وتركيباتها فى ذوات متآلفة متنافرة مكثفة أو متباعدة. أننا أمام شخص تفرق إلى شخوصه الداخلية والخارجية جميعا!!
10- تجرى الرواية على عدة مستويات: متصاعدة أحيانا، متداخلة أحيانا، متبادلة أحيانا، فبالأضافة إلى المستوى الأول: “الحلم يصبح واقعا.. ( بمعنى خاص)” – نرى التبادل مع الأرضية يجرى حسب حدة فيضان الذكريات (الفلاش باك)، حيث تظهر (أ) الأسرة الكبيرة والعلاقة الدينية الأقتصادية الجنسية المتفاعلة لتكوين الناس والأحداث، الذين يتجسدون فيما هو يوسف منصور، ولكن هذا البعد يتقاطع حتما مع (ب) البعد التاريخى الممتد إلى أصل العائلة الأكبر بايحاءاته الفروسية الحربية المشكوك فيها … إلخ، كما يتقاطع أيضا مع (جـ) حاضر نشأة اسرائيل وكيف يمكن أن تمثل الدلالة الإيجابية لفعل “القضية” فى حياة الأفراد، نرى ذلك واضحا فى مسار “عواطف” (وحياة) جابى اشكنازى وارتباطه بنشأة اسرائيل بالمقارنة بضياع يوسف منصور “ولا ارتباطه” بشئ “أصلا”، كما يمكن أن نتبين خطأ متواضعا يشير إلى ( د) مسار ومعنى وبعض مضاعفات ثورة يوليو (البيروقراطية) [9]، وأخيرا (هـ) فان ما هو “دين”بتشكيلاته المختلفة (التصوف والتطرف والأنتهازية والأنسحاب) بدا وكأنه مستوى فى الأرضية فاعل وقائم بذاته فى نفس الوقت.
وقد يكون هذا التعدد من مآخذ الرواية بحيث يخل ببنائها- ذلك أن محاولة الأحاطة “بكل” هذه المستويات بمثل هذا التكثيف –رغم أنه واقع فى الحياة- قد يخفى القضية الجوهر، لأنه ينشئ زحاما لاهثا يغيم وعى المتلقى بشكل أو بآخر.
ولكننا قد نقبل هذا الوضع باعتبار أن “أدب الحلم” لا يميز بعدا بذاته، ولا يفاضل بين قضية محورية وظل هامشى وهو فى انطلاقة السياب يلقى بمهمة التفضيل هذه على عاتق المتلقى، بل لعل ما يميز هذا الأدب أكثر من غيره هو أن كل قضية (أو شخصية) تظهر فى بؤرة الوعى يمكن أن تبدو محورية فى حدود اللحظة، ثم يتم التبادل حسب إيقاع فيض الوعى، لا حسب جذب فكرة مركزية واحدة.
ومع ذلك، فلو حذفنا ثلث الرواية أو أكثر لما تغير من الأمر شئ، بل ربما اقتربنا أكثر من عمق الأحداث الباقية.
11- على الرغم من أن الإيحاء الأول يوحى أن الرواية هى تصوير لرحلة ذات اتجاه واحد، تمثل حلما هروبيا فى البداية، ثم واقعا مرا بديلا فى الحقيقة، فان الأستقبال الأعمق للحركة فى هذا العمل سوف يرينا أنها رحلة شديدة المرونة دائم النشاط، لا تستقر على مهرب إلا لتهرب منه [10]، وقد بلغ من حذق الحركة وخفائها أو محاولة “العودة” بدأت منذ بداية الرحلة، بل أنها ظلت هى المحاولة المستمرة التى لم تمهد الا قرب النهاية، وكأن التمادى فى “الرحلة الحلم” كان أشبه بالتوريط أكثر منه بالفعل الأرادى، وكأن الرواية من هذا البعد الحركى الأغنى: هى متابعة مواصلة الهرب العاجز فى مواجهة الهرب الحالم. تبدأ الحركة باتجاه الذراع الجاذب إلى المجهول “… كان يكفيه أن يقر أ العقد ليحلم ويأمل بأن يتخلص من كل مشاكله بهذه الرحلة العجيبة إلى ذلك المكان الذى يجهله” (ص10)، لكن سرعان مايبدأ الذراع الآخر الجاذب بعيدا عن المجهول فى عمله النشط “ولكننى لا أريد أن أذهب إلى مكان مجهول” (ص13)، الذراع الأول لا يجذب قهرا ولكنه يبدو نتيجة لدفع خفى “ستبدأ المغامرة، سيواجه المجهول الذى سعى إليه، أو هرب إليه أو أنساق إليه” (ص8)، والذراع الآخر يلح فى العودة ويتذرع لها بشتى الأسباب (المحتملة الصحة رغم ذلك) “لابد أن أعود لأنقذ أبنى، لانقذ نفسى” (ص254).
12- وقد أكد الكاتب فى أكثر من موقع أن مكان الرواية هو “اللا مكان” (رغم اغراءات تحديد الملامح ودقة الوصف)، يظهر ذلك فى الألحاح المستمر على أنها “… رحلة إلى مكان مجهول” (ص9) “أين نحن؟ ” لا يعلم موقعها فى هذه الدنيا نفس الذين جاؤوا إليها” (ص24)، وتجهيل المكان ليس بالضرورة الغاء له، إلا أن الإيحاء هنا باللامكانية شديد الوضوح.
كذلك فان تجاوز الزمان لم يوظف لقفل دائرة الأحداث أساسا وأن كان قد أدى إلى ذلك حتما – وإنما وظف أيضا لتحريك العدسة بهذه السرعة الفائقة بين الداخل والخارج وطبقات ومحتويات الداخل معا- وكذلك لكسر التتابع لانعدام هدف محورى واضح.
على أن كسر المكان والزمان بهذه الصورة لا يعنى الأستغناء عنهما ولكنه يشير إلى الأمل فى فتح صفحة جديدة، وعى جديد، ولادة جديدة لاعادة تخليقها، فيوسف لا يهرب “من” فقط، ولكنه يهرب “إلى” أساسا، وكلما كان مابعد الـ ” إلى” عامضا زاد الأمل المعقود عليه: “أنه اليوم قادرعلى إن يفكر فى عمل جديد، فى علاقات جديدة، بيت جديد، وامرأة جديدة وعمل جديد والمستقبل يفتح له ذراعيه ويدعوه إلى أحضانه” (ص11).
13- فهو اذن اذ يتخلص من “حصار الماضى” بهذا المهرب، يستعد لاقتحام المستقبل (أو حتى: للأستجابة إلى جذبه المحتمل).
ونذكر هنا ببداية هذه الدراسة حين أشرنا إلى أن هذه الرحلة ليست “موت” النهاية، ولكنها “حمل” ينتطر المخاض.
وتبدأ هذه الدلالة حتى قبل بداية الرحلة “لم يعد يذكر حياته الماضية … كأنه ولد من جديد، لقد ذهب الماضى فذهبت معه، وإلى غير رجعة سنوات عمره التى صنعت كهولته” (ص11)، ورغم دلالة الموت الظاهر، وفكرة “الحساب”المكررة إلا أن الأمر بدا لى أنه ليس حساب “العقاب والثواب” وإنما هو “إعادة حسابات” أملا فى تنظيم آخر بعد البداية الجديدة.
14- ومع هذا التحطيم للزمان والمكان، ومع أختفاء السنين صانعة الكهولة فى طيات المجهول .. يقفز الرعب من تحقيق نفس الرغبة التى سعى إليها، نعم لابد أن نفاجأ برعبه الشديد من هذا المأمول اذ تحقق دون أن تتحدد معالمه، لأنه “الجنون” ذاته، ولكن من أين التراجع وكيف؟ ” لو تجول فى الصين وهو لا يعرف أسما لها لأصابه الجنون .. أننا نعيش بظرف الزمان وظرف المكان” (ص21) – ولا يكفى أن يكون الكلام هو التحديد الجغرافى والزمان هو التتابع المسلسل .. وإنما لابد من رمز كلامى لكل حقيقة مجردة ” كلاهما لابد من فهمه ” بكلمة “، باسم نسميه به” (ص21، 22) – فهو هنا يعلن أنه لم يتجاوز الزمان فقط، بل تجاوز الأسماء، تجاوز الرمز، تجاوز التجريد، فأصبحت المباشرة هى وعيه المرعب، وفى نفس الوقت هى أمله الفج.
15- ورغم ظاهر الحركة فى محاولة استكشاف المجهول فى مقابل التخطيط للعودة، فأن المحصلة النهائية كانت دائما “محلك سر” فثمة حركة بلا تغيير، وثمة دفع بلا فاعلية فى أى اتجاه، بل أن ما عرفه من خلال هذه المخاطرة يكفى أن يكون مبررا لاستحالة العودة إلى سابق عهده، ثم الرجوع إلى استكمال المغامرة، “استحالة عودة من يخرج من هذا المكان .. لما سيترتب على السماح بالتردد عليه أكثر من مرة من ازعاج شديد للجميع” (ص216)، فالأغراء بالحركة هو مجرد اغراء، أما التوريط فى اللاعودة فهو الحقيقة المتحدية، ذلك لأنها رحلة يكتشف فيها المرء عن نفسه ما لايعود يصلح إلا به، شريطة أن ينجح فى استيعاب “الكل”، وهذا أمر لم يطرح أبدا طوال الرواية، فكان لزاما أن تتوقف الصورة الفنية فى هذه المحطة: المعرفة المشلولة.
16– اذن .. فهى معرفة .. وهى معرفة خطرة، مثل “رؤية” الصوفى التى تزيد من وحدته، أو رؤية المجنون التى تفسخه (بتشديد السين وكسرها)، أو هى المعرفة: الفاكهة المحرمة [11]، فيصبح هذا الندم وذلك الألحاح للعودة يمثلان ” دورة الحياة البشرية” (مسيحيا بالذات)، ولكن يوسف لم يخرج من الجنة نتيجة معرفته لأكثر من المسموح به، ولكنه خرج من النار إلى النار، فهذا القياس لا يصلح، لكنها تظل رحلة المعرفة الأعمق بكل مخاطرها وتحدياتها، ويبدو أن كل من تورط فى مثل هذا الهرب لم يتحمل “جرعة المعرفة” الأولى، فكف عن مواصلة المحاولة وأخذ يبحث عن بديل يطمس به وعيه فى الظروف الجديدة (الكروكيه – الدومينو – الجنس)، أما أن يتجرأ – مثلما يحاول يوسف – أن يتناول الجرعات التالية فالتيه يتربص به” … كما يتوه أى مغفل يحاول أن يقنع نفسه بأنه قادر على معرفة هذ ا المكان والأحاطة بموقعه بالنسبة للمكان الذى رحل عنه” (ص88)، فالرحلة المسموح بها هنا هى رحلة الهرب من الذى نعرفه، إلى الذى لا نعرفه، حتى نرضى بما كنا فيه أو نبحث عن بديل من نفس نوعه، ولكنها أبدا ليست رحلة الغوص إلى مانعرفه أكثر، وقد نجح الكاتب فى تجاوز تصوير أن هذه المعرفة المحرمة قد تخرج صاحبها من الجنة، ولكنها أيضا – وربما أصلا- قد تخرج من يحاولها من ماضيه أيا كان، لكنها لا تضمن له مستقبلا محددا، ويبدو أن هذا المستقبل الحتمى غير واضح فى وعى الكاتب لأنه طوال الرواية ينتقل من الضياعين المتبادلين (اغتراب ماقبل الرحلة “الحلم”، واغتراب فى الرحلة “الحلم” إلى الحلم المثالى التطهيرى (انظر بعد)، اذ أنه لم يطرق بأى درجة مناسبة أبواب الحل الإبداعى الولافى حيث أكتفى بالتلويح ببديل مثالى غامض، والكاتب لم يكتف بعرض المأزق (وكان يكفيه ذلك) بل هو قد أخذ على عاتقه بشكل ما التلويح بالحل، ولكنه حين يفعل، لايتعدى أن يوصى “بالأعتراف” و”التطهير”، وربما يرجع ذلك إلى الثقافة التحليلية النفسية (الفرويدية بالذات) التى تطل علينا “مباشرة” ما بين الحين والحين فى ثنايا الرواية، الا أننا يمكن أن نلمح موقفا “مسيحيا” أيضا قد يفسره علاقة “الأعتراف المسيحي” “بالتفريغ النفسى والتطهير”، كما قد يفسره موقف الكاتب السلبى من العدوان (انظر بعد)، وبألفاظ أخرى، يبدو أن حدس الكاتب الفائق قد أعيق بعاملين: ثقافته التحليلية النفسية ( وثقافته الموسوعية عامة ) وخوفه ( المسيحى) من العدوان (منه وعليه).
17- لكن حدس الكاتب كان يتخطى معلوماته فى كثير من الأحيان، فهو اذ يعرى الوعى الآخر (وليس اللاوعى بالضرورة) يجعله كيانا مريدا سيدا وان أخفى – بذكاء مناسب – سيادته “لأننا لا نريد أن نلقى فى روعك يوما ما أننا أسيادك” (ص63) رغم “أن الشئ الوحيد الذى فهمه من كلام هذا الـ … هذا الرجل .. هو أنه يقول له نحن أسيادتك” (ص64) [لاحظ الـ “نقط” ثم: الرجل] – ورغم أن الخادم الذى قال هذا الكلام لا يمثل بالضرورة الوعى الأخر (اللاوعى) بشكل خاص، ولكنه يعلن طبيعة مستوى التنظيم “الآخر” باعتباره كيانا له ارادته وفاعليته ومعالمه وشخصيته، وليس مجرد قوى متفرقة أو ذكريات ضاغطة [12]، وهذا ماجعل استقبالنا لهذا الوعى الآخر تتحدد معالمه بهذا الجلاء لا كما يظهر مفككا فى الحلم أو متناثرا فى الجنون.
18- وتناول الذاكرة والذكريات فى هذه الرواية يعلمنا الكثير عن النفس الأنسانية من خلال هذا الحدس الفنى الفائق:
تبدأ الرواية بمحاولة التخلص من “حصار الماضى” (ص11) بالتخلص من ذكرياته، لكنه سرعان مايعلن اكتشافه اللاحق المزعج، لاستحالة الحياة بلا ذكريات “كان يفكر فى ترك المكان … يطالب بأن يعود فورا إلى القاهرة أو زيورخ أو أى مكان يعرفه له فيه ذكريات” (ص95). وهذا التناقض ليس تضادا بسيطا، بل هو جدل حى، ذلك لأنه لكى “نعيش” ما نعرف لابد أن نرفض أن يكبلنا ما نتذكر، وبألفاظ أخرى: فلأن يكون لك فى مكان ما ذكريات تحدد أبعادك مبدئيا لتنطلق من “محدود” إلى ما بعده: هو أمر “مطلوب”، ولكن أن تسحبك ذكرياتك فى شبكة تلتف خيوطها حولك حتى تشلك، أو تفرض عليك توجهات نمطية حتمية فهذا أمر “مطلوب الهرب منه”. يوسف اذا يهرب من سجن الذكريات إلى نبض الذاكرة.. والفرق دقيق لكنه خطير، والتقابل حى تلقائى مقصود بالحدس المباشر، وربما بالوعى الهادف الغائر للكاتب فى كشف معرفى معين.
وعلى نفس القياس تظهر وظيفة التفكير حين تصبح بديلا عن الوجود، أو حين تصبح هى القائدة لخطو الكينوية: “الخطر الحقيقى أنى مازلت أفكر. لقد جئت إلى هذا المكان لأتحرر من هذه الأفكار التى تتربص بى” (ص 107) – والتحرر من الأفكار لا يعنى – مثلما هو الحال فى التحرر من الذكريات المتربصة – الغوص فى اللا أفكار، وأنما يعنى محاولة أن يقود الوجود التفكير وليس العكس [13] وهذا هو المغزى الأعمق للرحلة برمتها – فشلت أم نجحت. وللتخلص من الذكريات والأفكار دون مواجهة الهلامية والضياع يلزم ظهور مهرب بديل، وإن كان يوسف قد “هم ولم يفعل”: طوال الرواية، فأن شخوص الرواية قد هربوا من الأغتراب إلى الأغتراب، من الأغتراب فى الذكريات بالذكريات إلى الأغتراب فى اللعب أو الجنس أو اللحظة، مثال الحوت (ليوسف) “كل ماكنت أتمناه أن أريح ضميرى بالأعتراف لك، ثم أتفرغ لقاعة الدومينو. أتخلص من كل ذكرياتى …” (ص 223).
على أن فعل الذاكرة فى تحديد الوجود لا يتم من جانب واحد، بل “أن أكون أنا أيضا فى ذاكرة آخر” هو مبعث وجودى ومؤكد له، وخطر التواجد المغترب مثل الرحلة (فى الحياة الدنيا) أو بعدها (فى الحياة الأخرى – وليس الآخرة – الحياة الحلم) ليس فقط فى أن تسقط الذكريات ثم لا تجد ما تتذكرك به، ولكن أيضا فى ألا توجد “أنت” فى “ذاكرتهم” – الحوت (ليوسف) : “أنت أيضا تخلف النسيان” (ص 131) (يقصد أن يسرع الناس ينسيانه بعد ماكان، أى بعد الموت أو الهرب الجنونى)، فيصبح يوسف “لم يمض ذلك الوقت الذى يهددنا فيه النسيان” (يعنى أن ينسونا) (ص131).
وهكذا يتحدد اطار العطاء الفنى لتناقضات وظائف الذاكرة والتذكر، ولجدل ” الحاجة إلى الذاكرة / الحاجة إلى النسيان “معا حيث أنه فى الوقت الذى يعلن فيه يوسف الخوف من النسيان ومحاولة التخلص من أثقال الذكريات، يقوم بتحسس الأشياء بذاكرة متجددة يريدها ألا تنبع من فراغ، شريطة ألا تمتلئ بالصخور والسلاسل.
يا للمأزق الرائع .. وكيف تكاتف كل هذا فى حدس هذا الكاتب المغامر !؟ بل أنى تركت نفسى أتمادى لأتصور أن حقائب يوسف هى ذكرياته (ص37) أى أنه صحبها معه لتكون تحت “الطلب”، وبذلك لم يتخلص منها تماما، ولم يلبسها ذاخل عقله فى نفس الوقت “استقبلته حقائبه الثلاث ..” (ص 53) … الخ.
من هذا المدخل يمكن أن نتبين بعض أبعاد المغامرة الإبداعية التى أقدم عليها هذا الأديب الحافل مسلحا بكل ثقافته، مطلقا عنان حدسه، ليغوص بفنه فى الطبقة تلو الطبقة فى المنطقة المحرمة ما بين تنظيمين !! أو مرحلتين،!! أو عدة تراكيب.
19- ومع ذلك فيبدو أن ميزان النقلة مال إلى النكوص والأجترار أكثر; فقد كان جذب الرحم القبر أكبر بكثير من تخليق الولادة الجديدة- ولو تركنا لادراكنا العنان لاستقبل صورا متلاحقة من أرحام متعددة لا تتركنا يفلت من الحاحها: (أ)فمنذ البداية ترى الرحم بصورته التشريحية “بسائله الوسادى ذى الثقب السرى” “فتح عينيه فرأى فوقه سقفا من البلاستيك الأبيض – أريكة من الجلد الطرى – كوة زجاجية” (ص6) (ب) ثم هو يعلن فورا الولادة الحادثة “أرتطمت رأسه بالحوض أثناء سقوطه … فرأى شريطا من الدم” (ص8)، وقد يشير هذا الأرتطام إلى معنى “صدمة الولادة” (من منطلق أوتورانك” بمعناها الأوسع – كما قد يشير إلى فكرة الأنشقاق الأولى فى مواجهة الواقع (ميلانى كلاين، فيريبرن، جانترب) المهم أن الحوض يوحى بالرحمية مرة أخرى (جـ) ثم هذه الحجرة المظلمة لعلاج الأكتئاب (ص 119) … أليست دالة على الرحم فى العلاج النكوصى أملا فى استعادة خطى النمو فى جو أفضل؟ (د) والقبر الفندق بما حوله من صحراء ترابية أليس هو هو قفل الدائرة المغلقة: ” من طين جئنا وإليه نعود ” (هـ) بل أننا اذا تمادينا فى استقبال هذا الإلحاح النكوصى لرأينا المقعد الضخم الذى يحتوى جسد يوسف رحما يضمه بين أحضانه مدفئا إياه حتى لتغار منه زوجه (ص 154) (و) بل أن القارئ قد يلتقط أن أعماقه (يوسف) الفسيحة التى خلت من كل ما يزحمها من الأهل والأصدقاء .. ألخ (ص11) ماهى إلا رحم معنوى رحب بالمعنى الأوسع (ز) بل قد يخيل إلينا أن ذوبانه فى الكائن الصوفى الجماهيرى الأخطبوطى (ص 194) الذى ظن أنه أبتلع حسن قد لا يكون إلا ما يعنيه الرحم الجماعى القبلى الحاوى لذات الفرد.
أذن فهذا الألحاح للعودة إلى الرحم قد قدم دليلا آخر على ميل الميزان إلى أن تكون الرواية نكوصية استرجاعية فى المقام الأول، وليست ولافية تركيبية، وقد صبغ هذا الجذب النكوصى المستمر أفكاره ورغباته الجنسية حتى قفزت صورة الأم مع معظم خيالاته الجنسية (كما سيرد بعد)، ولنا الحق أن نحترم حدس الفنان فى هذه المنطقة حيث واكب بين الهرب إلى أمان الرحم وبين أمل فى لذة الحس بالأقتراب الجسدى، فكانت وظيفة بعض ماقدم من جنس (أنظر بعد).
20- وقد آن الأوان لنتابع “خط الجنس” فى الرواية كلها، لنكتشف مع كاتبها عدة مستويات فائقة الدلالة أستطاع الأديب أن يصورها – فى أغلب المواقع – بسلاسة مناسبة رغم لجوئه الى المباشرة المعقلنة فى بعضها، فاذا تغاضينا عن هذا المأخذ العام.. لأمكن أن نرى كيف وظف أديبنا الجنس باعتباره لغة، أو مظهرا، أو وسيلة الى الوجود الأعمق.
(أ) فالجنس فى الرواية مرتبط بالأمومة فى كثير من الأحوال (كما ذكرنا) و هذا الارتباط يبدو مباشرا و تلقائيا حيث لم يحاول الكاتب – رغم ظاهر تأثره بالفكر الفرويدى – أن يقحم فيه رموزا أو أحداثا أوديبية كلاسيكية، بل ان هذا الارتباط، بدا دالا على الجذب المستمر إلى الرحم سعيا إلى أمان اللذة ولذة الأمان فى آن واحد، يبدو ذلك فى بعض ما تمثله ليلى الشقراء (المعالجة بالجنس، أو بتعبير أدق، المعالجة بالجسد) فأحد أدوارها البارزة أن تكون أما:
“ميرزا الفلكى: أنها قادرة على أن تذكرك بكوثر هانم
سأله يوسف فى غير فهم – كوثر هانم من؟
(ميرزا) – السيدة والدتك… هل نسيت أسمها”
(ص 115، 116)
هكذا مباشرة!!
ولا نعنى بأن تكون الأمومة أحد أدوار ليلى هو أن تنفصل عن دورها الجنسى اللذى، فأن أدوارها تتداخل حتما بلا تميز “أنها قادرة أحيانا على أن تقوم بدور الأم أو الممرضة أو الشقيقة أو البنت … فدور العشيقة هو أحد أدوارها”(ص 155).
(ب) ثم يقدم الكاتب “الجنس لذاته” كأغتراب مناسب يمكن أن يوظف للنسيان شأنه شأن منافسيه: التنافس الفكرى المعلقن (فى الدومينو) والتنافس العملى الحركى (فى الكروكيه)، والصراع بين ليلى (الجنس) وبين كريم شاكر (الدومنيو) للأستيلاء على يوسف كان صريحا ومباشرا طول الوقت: ليلى: أتعلم أنه (كريم شاكر) كان يقف خلف باب حجرته فى انتظار قدومك .. ليستولى عليك ويختطفك منى (ص67) وأيضا.. ” ليلى: أننى أشعر أنى فى هذه المرة سأنتصر عليه (كريم شاكر)، وسأفوز بك” (ص 73).
لكن لا يوجد فى الرواية ما يشير – أو يبشر بـ أن هذا النوع من الأغتراب فى الجنس (أو الجنس الأغترابى) قد نجح: لا مع زينب الزوجة، ولا مع مشروع ليلى العشيقة (رغم الإيحاءات المباشرة بأحتمال نجاحه)، لا من يوسف، ولا من غيره، هذا فضلا عن عدم ورود احتمال النجاح فى جنس تكاملى أصلا، ونتيجة هذا وذاك أن تظهر البدائل ما بين العجز، والنكوص، والأستغراق الخيالى.
(جـ) أما العجز الجنسى فقد أطل برأسه طول الوقت، وكأنه كان مآل الحياة الجنسية ليوسف وللجميع على حد سواء : “كل من يأتى هنا مصاب فى البروستاتا، هذا أمر مفروغ منه” (ص 77)، (قالها المنجى وهو يفحص حجارة الدومنيو (البديل المنافس) والدلالة على العجز الجنسى ظاهرة لشيوع هذه الفكرة عند العامة خاصة).
وحكاية عجز يوسف مع زوجته تكاد تحدد مسار علاقتهما الزوجية منذ البداية، وقد ظهر أكثر ما يكون بعد أن أستقلت زينب (بالعمل فالتحرر) فما عاد يبرر هذه العلاقة عوامل أخرى مثل “الحاجة” و”الأعتمادية” والصراع حولهما (ص28)، وقد أخذ العجز ومضاعفاته شكلا صريحا فى وعى يوسف: “… ولا يعلم متى يفتح عينيه مرة أخرى ليرى زينب ويسمعها تصرخ فى الساعات الأولى من الصباح .. أنت لست رجلا .. ضاع عمرى معك..، ويسمعها تردد .. أنت كريه، أنت منفر، أنت فاشل “ (ص122)، وقد أدى إعلان العجز بعد تحرر زينب إلى تعرية السر الخفى وراء ارتباط يوسف بها “… ها هى زوجتك تضاجع لطيف صبرى فى سريرك أمام عيون كل الناس” (ص292)، ويؤكد ذلك ما تصوره فى الزواج من حاجة إلى أم حتى تمنى أن يصرح لحسن أبنه بهذا الأحباط الذى لحقه فى زواجه “أنه يريد حنانا ضاع منه، يريد عطفا افتقده من زمن بعيد، يريد معاشرة فيها طيبة وقبول له” كما هو “…” (ص116).
لكن كل ذلك لم يتحقق، وتأجل إعلان العجز (بل ظهوره) نتيجة للاختباء وراء الحاجة والأعتمادية، حتى أستقلت الدولتان (الزوج والزوجة) فأعلن الفراغ بأثر رجعى “أنه لم يقدم لها سوى الملل والسأم” (ص122) وتظهر بدائل أخرى.
(د) فاذا كان الأغتراب فى الجنس لم ينجح، والتكامل بالجنس لم يطرح (بضم الياء) فكانت النتيجة هى العجز، فأن الخيال الجنسى لم يكف عن النشاط قبل وبعد إعلان العجز، ظهر ذلك من أول ما عرى به يوسف الفتاة التى تعثرت على سلم التليفزيون، حتى أحلام كوستا عن تصوير فيلم جنسى مع ليلى الشقراء، فيلم طوله ثلاث ساعات ونصف “سيكون أعظم فيلم فى العالم” (ص109) ويذكرنا هذا النوع من الخيال (الافراط والتطويل فى الجنس) بنفس “التعويض الكمي” الذى حاوله يوسف ليكفى زوجته (كما يتصور) فى بداية الحياة الزوجية، ولكن دون طائل.. “حاول أن يتهور فى علاقته الجنسية فتظاهر بالعنف، وبالرغبة المفرطة الجامحة، ولكنه زاد الموقف تعقيدا، فرغم هذه المحاولة، بل بسببها اكتشفت زينب بسرعة هذا الفراغ الذى يتعامل به” (ص338)، وفى الحالين فالعجز يتربص، ان لم يكن هذا الميل للافراط هو نفسه أحد صور العجز المؤدى للخيال وغيره، وثمة دليل آخر على أن “الجنس الخيال” لا يترعرع الا اذا انفصل عن “موضوعه”، أو إذ يطمئن الى أن موضوعه هو موضوع مؤقت (راحل فورا) “.. كان (يوسف) يحب زينب بسرعة هذا الفراغ الذى يتعامل به” (ص 338)، وفى الحالين فالعجز يتربص، ان لم يكن هذا الميل للأفراط هو نفسه أحد صور العجز المؤدى للخيال وغيره، وثمة دليل آخر على أن “الجنس الخيال” لا يترعرع إلا إذا انفصل عن “موضوعه”، أو اذ يطمئن إلى أن موضوعه هو موضوع مؤقت (راحل فورا) “.. كان (يوسف) يحب زينب، ولكن عواطفه كانت لا تجرؤ على الظهور إلا وهو بعيد عنها، أو يوشك أن يسافر مبتعدا عنها” (ص333: وكل ما بعد هذا المقتطف فى نفس الصفحة يؤكد الحرارة والشبق مع الزوجة الغائبة)، ويبدو أن نفس الشئ – ولو بدرجة أقل – كان يحدث من ناحية زينب، فقد استطاعت رغم كل البرود السائد أن “تقدم له شيئا” ليلة سفره استعدادا لهذه الرحلة الحلم “ثم أنه لقى معها متعة حقيقية ليله سفره إلى زيورخ” (ص58)، ولكن فى النهاية فلا مهرب من المواجهة إلا بالرحيل أو الوهم والخداع “الوهم مريح، والخداع مريح وكفى عذاب المواجهة” (ص58) “لا بأس أن تخدعه ( فتاة صغيرة بالطلب ) وتكذب عليه وتقول أنها سعيدة برجولته” (ص58).
(هـ) ويأتى بديل آخر للعجز فى صورة الجنس النكوصى، وحكايات فرويد عن الجنسية الطفلية تحتاج إلى مراجعة، والذى يعنينى هنا هو مساحة الألتقاء بين ماهو طفلى ” حسى وقتى” “وما هو جنسى ” لذى حسى بحت”، وقد ظهرت هذه الصورة كبديل عن الخيال المركب المستغرق فى الصور الخيالية الملفقة (أنظر “د”)، وتبدو هذه العلاقة (بين الطفولة والجنس) فى شكل مباشر رغم خفائه لأول وهلة: “هأنذا أخلط بين الشيكولاتة والمرأة” (ص68)، ” كل الأغراء الذى ينبعث من قطعة الشيكولاتة هو الأغراء الذى عرضته المرأة الشقراء ” (ص68) – والشيكولاتة هنا ليست مجرد تعبير عن الجوع المعدى فى مقابل الجوع الجنسى، لكن يبدو أن لها دلالة حسية طفلية مباشرة “..أستوقفه صندوق زجاجى به شيكولاتة وبسكويت وحلوى مما يشتهيها الأطفال” (ص49).
ولكن يبدو أن النكوص “فى ذاته” ليس حلا ممكنا رغم ما يحمل من تلويحات بالمتعة واللا مسئولية، وفى الرواية كان النكوص خياليا أيضا، وكل الذى عرض على يوسف من جانب ليلى والذى كان يبدو نكوصا علاجيا [14] لم يقبل، ولم يجرب أصلا، وظل النكوص فى الخيال فحسب على مستوى إعادة قراءة ” رجوع الشيخ إلى صباه” مع احتمالات تنويعات على اللحن الأساسى: “أنه مهما أشتط به الخيال لا يستطيع أن يحصر احتمالات ما قد يحدث فى مقابلة من هذا النوع لعله يعود إلى صباه” (ص207)، ويظل يوسف دائما عاجزا حتى عن النكوص فى الجنس، سواء كان نكوصا لذاته، أم نكوصا مرحليا فى اتجاه التكامل “أنت لم تشعر فى حياتك بشهوة حقيقية، أنت لا تعرف حقيقة تلك المشاعر”(ص254).
ويذكرنا الجنس النكوصى هذا بما يمكن أن يختلط معه مما يمكن أن نسميه “الجنس القح”، أو “الجنس للجنس”، وهو لم يظهر إلا فى خلفية الرواية فى شكل علاقة فاطمة هانم بوالد يوسف، وهو – أيضا – لم يستطع أن يؤدى وظيفة التكامل وأن كان قد أدى دورا لذيا بهيجا فى حياة أطرافه ولو على حساب يوسف وأمه، كذلك لم يظهر الشذوذ الجنسى فى الرواية إلا تلميحا من بعيد، فى اعترافات كوستا، وهياج مشاعر يوسف -ثملا- تجاه مراد حسنين (لو أنه لم يكن هو هو)، وأن كان الكاتب قد ألمح بذكاء شديد إلى أنه: حتى ما يظن أنه شذوذ جنسى إنما يعنى – فى المقام الأول – الحاجة للأعتماد: “.. كان يجلس على الدكة لأنه عم محمود رجل كبير، وهو يحتاج إلى الأحساس بأنه قريب من رجل كبير (بعد موت والده)… وأرتبك اذ خيل إليه أنه فاطمة هانم تتهمه بأنه يسعى إلى هذ ا الأحساس بجسد عم محمود، وكأنه احساس شاذ” (ص274، 275).
21- فاذا كانت هذه “الرحلة / الرؤية” قد عرت الغريزة الجنسية بأشكالها المتبادلة المتداخلة بهذه الصورة، فهى قد تناولت العدوان بشكل آخر، لم يظهر منه إلا وجهه السلبى، ولم يظهر فى السلوك إلا بشكل سلبى أيضا، رغم أن التعبير اللفظى عنه كان يتمادى إلى أقصى المدى، ربما مطمئنا إلى وقف التنفيذ.
أن ما وصلنى من مؤلف هذا العمل هو أنه لم يقدر أن يغوص فيما هو صراع حتى القتل [15] بحجمه الذى كنا نتوقعه فى “الرحلة التعرية”. حتى لو أعتبرنا أن الرحلة هى فيما بعد الموت حيث لا موت ولا قتل، فأن الجريمة الوحيدة التى ظهرت فى الخلفية (الفلاش باك) كانت جريمة مبررة سلبية، خضعت للتفسير الحتمى ودوافع السياسة والدين ولم يظهر حجم الغريزة ونشاطها وراءها بأى درجة أو من أى زواية. “الجريمة كانت ستحدث سواء كان المحرض زياد الأسمر أو غيره وسواء … إلخ” (ص206).
إذا، فهو الخوف من العدوان ! ليكن، ولكنه ليس إنكاره، ويوسف حين واجه عدوانه وسمح له بالفتك لم يعلن زغبته أن يفتك إلا لوجهه فى المرآة رغم أن مأثار هذه الرغبة هى “صورة كوستا لا تفارق مخيلته”.
“زمجر فى وجهه الكئيب الذى يطل عليه من المرآة: أريد أن أفتك بكم، أفترسكم” “يفتك بمن، أنه لا يستطيع أن يحدد، أغلب ظنه أنه يريد أن يفتك بكل شئ” (ص55) لكنه لا يستطيع، بل أنه أستقبل جرعة العدوان بدرجة من الخطورة والعنف جعلها ترتد إلى ذاته (فى المرآة) ثم للعالم أجمع دون “آخر” معين، ثم سرعان ما أخفاها بانسحاب ملائكى نقيض “وجهه الذى يطل عليه من المرآة لم يشجعه على التمادى فيما هو فيه … وجه يتوسل فى مرارة ويأس أن يكون نقيا .. طاهرا .. ملاكا .. مثلا أعلى .. بطلا عظيما .. انسانا خالدا” (ص55).
وأحسب أن هذا الحل المثالى المسيحى هو الذى عرض نفسه تجاه العدوان بوجه خاص، وتجاه المصاعب والأنحراف بوجه عام، فما بلغنى هو أن الرواية حاولت أن تحل الأغتراب والعزلة بالجنس الصحيح وبالجهاد نحو العلاقة بالآخر، فى حين أنها حاولت أن تحل العدوان والفتك بالأنسحاب المثالى بصورته المسيحية التطهيرية الأعترافية.
“لا أمل … فى الخلاص من أى شئ … اذ ا لم تواجه نفسك .. تعترف بجرائمك” (ص325) “أيكون الأعتراف بالعجز والذل والمهانة هو المسلك الوعر الدامى الذى يهتدى به الأنسان؟” (ص328).
أن هذا الحل التطهيرى (المسيحى / الفرويدى) هو حل سلبى دال، يؤكد ما ذهبنا إليه من موقف يوسف (وربما المؤلف) من الخوف من أطلاق طاقة عدوانه، وأنكاره لأى إيجابية فى العدوان، بل لعل مراد حسنين (أو بديل يوسف الخيالى) كان يدرك ما يواكب ذلك حين نصحه “لابد أن تتهور فى شئ ما” (ص338) – ورغم أن التهور هو “أقدام .. ما” إلا أنه أيضا ليس عدوانا حقيقيا، وكأنه بديله (مراد حسنين) – حتى بديله – لم يسمح بتعرية العدوان داخله أو توجيهه خارجه وإنما أشار بأطلاق سراح دفعته فحسب، وحين كان يعبر يوسف عن عدوانه أو تمرده أو أنتقامه كان يعبر بالسلب والأرتداد على الذات والمقاومة فحسب) : (أ) فهو حين أراد أن يتمرد على أمه وزوجها وعائلته المتدينة كف عن الصلاة “أدرك أنه كان لا يصلى لأنه مصمم على أن يتمرد على كل ما تتميز به العائلة المتدينة التى سلبته أمه” (ص159)، (ب) وحين “تمرد على الجامعة .. قرر أن يرسب فى كل أمتحان لمجرد أن يتمتع برؤية أمه تبكى يائسة” (ص159) (جـ) وانتقامه من أمه فى زوجته: كان بزواجه منها ثم عجزه”تزوجها لينتقم” (ص122) – بل أن تمرد أبنه حسن (الذى هو أحد صوره كما أسلفنا) أخذ – فى محيط الأسرة – شكل الأنسحاب، وأخذ فى محيط الجماعة الدينية شكل الطاعة.
كل ذلك يبلغنا أين يقع العدوان من وجدان المؤلف أو يوسف، كما يذكرنا بالحل الطفولى المثالى لهذا العدوان (المرعب)، ولعل ذلك يظهر جليا فى دلالة منظر حسن ذى العاشرة وهو ينزع السكين من يد أمه أثناء شجارها مع أبيه، وأبوه يصيح : “تريدين قتلى يا مجنونة” “وهجم حسن على أمه وأنتزع من يدها السكين” (ص160).
وبمراجعة الموقف من الجنس والعدوان والحلول المطروحة نشعر أننا نتحرك فى مستوى فرويدى مسيحى مثالى بشكل أو بآخر، رغم ما تعد به الرؤية الحلم (الرحلة / المواجهة) من معرفة وتعرية أكثر أقتحاما وأقل تبريرا.
22- وأخيرا، فلابد من إيقاف وإعلان استحالة تغطية هذا العمل المترامى الأطراف بشكل مناسب إلا على حساب قيمته، وسأكتفى بخاتمة مطولة أشير فيها إلى رؤوس مواضيع ما زالت تحتاج إلى عودة ونظر، وأكتفى بعرض بعضها فى شكل “ملاحظات عامة” و “مآخذ عابرة”.
(1) رغم أننا فى هذا العمل نواجه الصورة الحلم للجنون (اقتحام الوعى الآخر)، فقد أستعمل الكاتب كلمة الجنون بمضمونها الشائع العابر، لا بما يمكن أن تمثله كبديل متربص يعلن: “فشل الهرب” و “فشل العودة” فى آن. مثلا (ص 21، 56، 75).
(2) ألتقط الأديب بذكاء ما تفعله ظاهرة “المراقبة” فى بطله يوسف، وأبطاله عامة، فهى من جانب تؤكد “وجود” المراقب (بفتح القاف) المحتاج إلى الشوفان، ومن ناحية أخرى تعلن الأعاقة الناتجة عن المضى تحت رحمة الهجمات من الخلف وتلافى المتربصين (مثلا صفحات 7، 61، 71، 76، 87).
(3) تناول الكاتب “الوحدة” من منطلقات جديدة، وصلت من العمق أن تعتبر “عدم فهم نظرة” هو قمة القسوة (ص174) أو أن يرى الأنفصال بين الأجيال ناتج إما من “مجهول غامض يصنع بينه وبين أبيه وأمه عزلة صارمة، سدودا من الوقاحة والكراهية” (ص175): (الحديث عن حسن الأبن ويوسف يتذكر معنى الأنجاب، وخاصة بعد تذكر ذهاب سعاد بالموت، ثم ذهابه هو بالتدين المتطرف وبفعل ذلك المجهول) فالوحدة هنا تعلن بفقد الأستمرار، هذا الفقد الذى تم بين يوسف ووالده بسبب أن والده عاش حياته تماما .. حتى أنقطع الأتصال بين الأجيال، “أبوك هو الذى عاش حياته وحياتك وحياة الناس كلها” (ص348) – وقد رأيت أن هذا شكل آخر شديد الخفاء من أشكال الوحدة، اذ يتحقق بالكمال الذاتوى (رغم صوريته) فيغنى صاحبه عن الأحتياج للأمتداد فى آخر، فتتعمق العزلة وتنفصم الحلقات، . وطوال الرواية كلها: لم يهمد الكاتب فى محاولة كسر هذه الوحدة: بالجنس، باللعب، بالصلاة، بالذكر، حتى بالتبول معا ” تبول يوسف وميرزا جنبا إلى جنب” (ص317) – ولكنه كان يعلن اليأس من كسرها فى النهاية، بل لعله أعلنه فعلا.
(4) ضرب الكاتب الحرية فى أكثر من موقع، ولكنه ظل يلوح بضرورة السعى إليها طول الوقت “فكرة المشروع (الرحلة) قائمة على احترام حرية الإنسان” (ص32)، ولكن السجن ذاته قد يكون هو الحرية الحقيقية اذا ذهب إليه الإنسان بكامل إرادته ووعيه، حرية أفضل من الخدع الجارية خارجه “تخرجه من السجن الذى أراده لنفسه، وتقول له أنفض الظلم أخرج إلى الحرية التى أتمتع بها!؟؟” (ص350)، ويطل اليأس من الحرية رغم طول السعى إليها حتى لتقول الرواية أن كل ما هو متاح للواحد منا هو حرية أن يختار نوع الضياع الذى يلهبه (اللعب أم الجنس أم النكوص).
(5) وقد عرج الكاتب إلى أبعاد الدين المختلفة فصور شكله الهروبى فى التصوف، والسلطوى (فى الشيخ عبد السلام صبرى وشقيقه زوج أمه)، ثم شكله الرأسمالى (فى عمر بك السلماوى شيخ الطريقة السلماوية .. وصاحب شركة أراب اكسبورت – لاحظ دلالة الأسم)، وشكله السياسى العنيف (فى حسن والجماعات الدينية) – ولم يصلنى ما وصل لغيرى أى تناول للبعد التكاملى الذى قد يكمن وراء كل أو بعض هذه الصور، لم يصلنى ذلك رغم حديث يوسف (المؤلف) عن دين جوهر يتخطى كل الشكليات (ص195) لأنه سرعان ماعاد يضربه أيضا.
(6) جاء الخط السياسى فى الأرضية رقيقا على القارئ دون تشنج، فتناول الأوضاع القبلية والبعدية (للثورة) بنفس الموضوعية الناقدة الأمينة، إلا أنه المقابلة بين “قضية” جابى اشكنازى و “لا قضية” يوسف كانت من أذكى الخلفيات وأبلغها دلالة.
* * *
ولا يصح أن نترك هذا العمل – احتراما – دون الأشارة إلى بعض ما وصلنى مما يمكن أن يكون سلبيا، اذ يستحيل أن ينجو عمل بهذا التكثيف من مثل هذا، فقد غاص مولفه إلى أعماق لم يكن لينقذه منها إلا جذب “ثقافى عقلاني”، و “مباشرة” “ملاحقة” كلما اهتزت منه المعالم، وقد يظهر ذلك فى ذكر نظريات نفسية بشكل مباشر مثل الحديث عن غليون كريم شاكر (56، 57، 129) أو عن العلاج النفسى، أو الجنس، أو المصحات النفسية (مثل ص 90، 196، 256، 257 إلخ) أو فى شكل خطابى مباشر فقد كان يقطع سياق استقبال رسائل الحدس الأعمق للروائى الفنان، وقد سبق أن تحدثنا عن الأفراط فى الرمزية المباشرة ولن نضيف هنا إلا أنه حتى الفيلم الجنسى الذى كان كوستا يصوره مع ليلى كان يقارن فى طوله بفيلم “ذهب مع الريح” ولا تخفى دلالة الأسم، كذلك جاء تفسير هروب حسن فى التطرف الدينى تفسيرا صحفيا شائعا كما ذكرت من قبل، وأخيرا فأن كثيرا من المنحنيات التفصيلية كان يمكن أن تلغى دون أن ينتقص من العمل شيئا (وذلك مثل تعداد درجات ومراحل تطور الداخل إلى الجماعات الدينية، أو مثل حكاية سفر قريب مرزا الفلكى وهو من أدنى فروع العائلة، وعودته لشراء بيوت وثروات الوجهاء من العائلة) (ص 318، 319).
وبديهى أن أيا من ذلك لا يعيب العمل لدرجة الأنتقاص من قيمته، وقد تصورت أنهما كانتا عمليتان متكاملتان: حدس غائر مخترق، وثقافة موسوعية وصية، فاذا زادت جرعة الأخيرة على الأولى ظهرت المباشرة، وتعسف الرمز، وإذا زادت جرعة الأولى على الأخيرة زاد الغموض وتضاعف التكثيف، فما أصعب المسيرة وما ألزم العذر.
23- بعد تسجيل هذه الإيحاءات المستلهمة من هذا العمل الضخم، أتيحت لى فرصة الأطلاع ثانية على رأى الزميل محمد فتحى عبد الفتاح المنشور فى هذا العدد، وفكرت أن أقدم تعليقا مقارنا إلا أنى أحسست أن المجال لا يسمح إلا ببضعة كلمات تعلن ما أسمح لنفسى به من التحفظ حول مسألة الموت والحساب “وهكذا”، وعلى أقحام الدفاع عن قضية أنسانية المرأة والجنس بهذه الصورة وعلى أشياء أخرى مثل أن الرواية دفاع حار عن الدين .. وغير ذلك، وأن كنت أوافق على صلب الرأى فى أن هذا الضياع الدائرى هو نتيجة لاختفاء القضية، وأن هذا العمل الضخم يستحق جهدا ناقدا أضخم، وأن الحوار حوله لن ينتهى.
24- ثم أطلعت فى آخر لحظة على مانشر فى كتاب أدبى غير دورى [16] بقلم محمد عبد الوهاب عن “دراما السقوط فى مقبرة الأفيال”، وقد وقفت أيضا أمام التركيز على البحث عن الجذور الأولى، وكذلك لم أترنح إلى تفسير الأغراءات بالأنضمام إلى جماعات الدومينو أو الكروكيه باعتباره استجابة للجوع للأنتماء لأنى لم أشعر فى هذا الأنتماء الصورى إلا بتكرار اللا أنتماء الذى هرب منه إلى الحلم ومحاولة الرؤية، فاذا به يدفع إلى مثله وألعن، وخاصة أن يوسف لم ينتم إلى أى جماعة حتى قرب نهاية الرواية رغم أنه حذق اللعب اذ تفتحت “أمامه أساليب فى اللعب كأنها المعجزات” (ص364) – ولكن دون أنتماء: أنه الأغتراب ” فى”، وليس الأنتماء ” إلى”.
وأخيرا فأن القول بأن الأفيال ترصد الأثار الوخيمة لغياب النظرية الثورية فى قلب التراث الدينى والحضارى قد يحتاج إلى وقفة، وبالرغم من أن الناقد قد عرف النظرية الثورية بأنها ما يتخلف من التفهم العميق لحقيقة كل من التيارين الدينى والعلمانى فأنى لم أحسن أستقبال لا التفسير ولا التعريف، ذلك لأن “غياب القضية” و “فصم الأستمرار” كانا يمثلان عندى فى هذا العمل السبب المحورى لتفكك الذات والعالم فالنكوص واللاعودة، واقحام فكرة غياب النظرية الثورية حتى بالتعريف الواسع المطروح هو تبسيط شديد لا يتناسب مع عمق العمل وحدس الرؤية.
وبعد ..
فالحوار حول هذا العمل، والأختلاف فى تأويله، هو أدل الأمور إلى ثرائه وأحقيته بالعودة تلو العودة لمزيد من القراءة والأثارة والمراجعة.
[1] – Object Relations Theories
[2] – لا أميل إلى إيجاز الرواية للقارئ، فهى لا توجز، ولابد من قرائتها أكثر من مرة حتى نواكب هذه القراءة الناقدة، وقد يجد القارئ بعض ملامحها فى المقال السابق مباشرة، وقد يحتاج الأمر – رغم ذلك – إلى أن نذكر له أن يوسف منصور (53 سنة) حقوقى فاشل، ثم كاتب مسلسلات تلفزيونية تافهة، من عائلة “أصيلة” (حسب القيم القديمة) نشأ فى بيت ممزق من أب غير مسئول وأم غير آمنة، فشل فى الدراسة انتقاما من أمه، ثم فشل فى الحياة ربما انتقاما من نفسه، وفشل فى الزواج يأسا من التواصل، وفشل فى الأبوة انفصالا من امتداده، فقرر – بايعاز من صديق خيالى فى الأغلب، أن “يرتاح” هربا فى رحلة سياحية علاجية إلى مكان مجهول : فكانت هذه الرواية.
[3] – يلاحظ تمسك فتحى غانم بنفس الأسمين “يوسف منصور” و “زينب” فى روايات الثلاث: الرجل الذى فقد ظله، زينب والعرش، الأفيال، رغم اختلافهم الهائل، وكأنه يقول لنا بأصرار، أنهما ليسا الا “زيد من الناس” أنهما “نحن” بشكل ما – والكاتب فى مقدمتنا.
[4] -Hamilton Douglas ، (1975) Among the Elephants. The Viking Press New York.
[5] تشير الكتابات القديمة إلى هذا والنص الذى يكاد يطابق الخط العام للرواية “… فقد ترك رجل وظيفة له فى نزوة فجائية، فعبر عن حيرته فى أمر القوى الغامضة التى دفعته إلى فعل لا يستطيع له تعليلا بقوله: “لست أدرى ما الذى انتزعنى من مكانى، لكأنى به حلم، كأن يرى أحد أبناء الدلتا نفسه فى جزيرة الأفيال ” Sinuhe، B 244-.26 مقتطف من “ماقبل الفلسفة”: هـ فرانكفورت وآخرين. Pelican 1954، ترجمة جبرا ابراهيم جبرا (ص91) منشورات دار مكتبة الحياة فرع بغداد (لم تذكر تاريخ الترجمة).
[6] – منذ البداية وقببيل الرحلة: المسرحية باللغة الألمانية (ص 8)، ثم قائد طائرة الرحلة يتكلم باللغة الأنجليزية (ص19)، فى حين يتكلم كوستا الفرنسية أيضا (ص43)، والصحراء عربية لأن السائق يتكلم العربية (ص23)، والخادم آسيوى (ص113) ذو وجه صينى (ص303) واستطردات تذكر العبرية (جابى اشكنازى) فضلا عن الأشارة المتكررة إلى لغات غير مفهومة (ص6) وغامضة (ص30).
[7] – وأحسب أن المؤلف قد استعمل أيضا “اللعب / المباريات” فى أرضية الأحداث بشكل يشير إلى دلالة خاصة، فهذه مباراة كرة السلة بين الأتحاد السوفييتى واسرائيل قبيل الرحلة (ص 8) تكاد تشير إلى الطبيعة المادية التنافسية لكلا الفريقين رغم اختلاف المواقع.
[8] – يمكن أن تقارن معنى مقابلا ورد فى رواية : المشى على الصراط، الجزء الأول: الواقعة: لكاتب هذه القراءة، وذلك فى اشارته إلى كيف ” تقتل الزوجة الخطيبة” (وهما واحد) (ص54) – دار الغد للثقافة والنشر 1979 – القاهرة.
[9] – على حد تسمية المؤلف لمسار الثورات فى العالم الثالث التى يقودها العسكرى ومنها ثورة يوليو (روز اليوسف 13 يونيو 83، العدد 870، مقال فتحى غانم عن حتمية الحل الديمقراطى).
[10] – In – and – out program (Guntrip)
[11] – استعمل الكاتب تعبير “الفاكهة المحرمة” بشكل عيانى لا تجريد فيه (ص 248) فى موقف اغراء جنسى مباشر، وقد ينفى هذا ماذهبنا إليه من اعتبار أن المعرفة الأخرى هى الفاكهة المحرمة، ولكنه يعلن – بشكل ما – وجود الفكرة فى أرضية الكاتب واطلالها هنا بشكل مباشر لا ينفى استلهامها من مواقع أخرى بشكل غير مباشر.
[12] – وكأنه تعدى بذلك المفهوم التركيبى للنفس من منطلق التحليل النفسى الكلاسيكى إلى منطلق التحليل النفسى الكينونيExistential analysis أو التحليل التفاعلاتى Transactional analysis.
[13] – قلت فى مثل هذا : أنت تفكر .. فأنت غير موجود، لا تفكر ولكن استعمل التفكير (حكمة المجانين، ى، . الرخاوى 1980 جمعية الطب النفسى التطورى. القاهرة).
[14] – استعملت هنا عبارات العلاج بشكل مباشر، بإفراط شديد مما قلل من القيمة الفنية، وسنعود إلى هذه النقطة فى نهاية المقال.
[15] – يمكن للإيضاح مقارنة قدرة نجيب محفوظ على استعمال القتل فى أعماله : أنظر الحرافيش مثلا أو ليالى ألف لية أو غيرها.
[16] -” أدب الغد ” الكتاب الأول أبريل 1982.