نشرت فى جريدة الوطن
9/10/2000
المواجهة على كل الجبهات
المواجهات المتزايدة بيننا وبينهم ليس لهاحدود، ليس لها آخر.
لا أعنى العرب ضد إسرائيل فحسب، ولا حتى المسلمين ضد الصهاينة، وإنما أعنى قوى الإبداع والخير ضد أوهام الأساطير والسيطرة.
ما حدث ويحدث فى القدس مؤخرا، وحتى الآن، هو إعلان محدود لحقيقة غائرة مستمرة، مستعرة ومنذرة.
إنه ينبه إلى عمق الاختلاف، وضرورة الاستعداد لمواجهة أطول وأخطر، لا تتوقف آثارها على غالب أو مغلوب، وإنما تمتد إلى مدى قدرة الإنسان على إنقاذ ما يهدد بقاءه.
إنها كشف جديد لما يشاع عن القرية العالمية الواحدة وعمدتها فى دوار البيت الأبيض، وشيخ خفرائها فى تل أبيب.
إنها تعرية لشفافية الكذب، وسطحية الإغراق بمعلومات وشعارات لم نشارك فى تحديد معناها.
إنها تنبيه لمعنى ومدى ونتيجة الإغراق بمعلومات لم يطلبها أحد، إنها تحذير من الوعود برفاهية لم نخطر بكم المخدرات التى تحتويها هى ليست نكسة إلى لغة حرب جديدة. ولادعوة عنترية إلى استئناف القتال.
الحرب الحديثة لم تعد تشرف أحدا، لا المنتصر ولا المهزوم.
أبجدية الحرب الحديثة أصبحت عارا يتبرأ منه أى إنسان يشعر أنه كائن مكرم من خالقه سبحانه. مكرم بالوعى وحمل الأمانة وفخر المسئولية.
ما ذا يفخر به محارب يضغط على زر فيقتل من لا يعرف دون تمييز، وماذا يشرف به منازل ليس له من النزال إلا أنه يطلق طيارة بلا طيار؟ ناهيك عن وغدنه قتل الأطفال، وتشريد الكهول، واغتصاب النساء، وتسميم المياه، لم تعد الحرب حربا، إذا خلت من الفروسية والشهامة، بلا فخر ولا كرامة. حروب اليوم هى غطرسة الأقوى، وإبادة المختلف إنها حرب القتل عن بعد، والعنصرية، والسادية، والكذب والاستعلاء.
باسترجاع نصف قرن من الزمان سوف نكتشف أن أغلب حروبنا بل وسلامنا كانت أقرب إلى رد الفعل منها إلى المبادأة والتخطيط والمثابرة، هل ننتهز فرصة هذه الانتفاضة لننظر فيما هو “نحن”، فنحدد جبهات المواجهة بالعرض، ثم مدى المواجهة بالطول.
هذه الدماء التى تسيل، والبيوت التى تهدم، والأبرياء الذين يقتلون، هى فرصة لا مثيل لها للمراجعة فالاستمرار.
هؤلاء الشبان الذين ولدوا بلا وطن، ونشأوا بلا هوية، هم الذين يطالبون بالاستمرار، ليس عندهم ما يبكون على فقده، ما يخافون عليه. هم الذين يستشهدون، هم الذين ينزفون، وهم هم الذين يطالبون باستمرار ما يجرى من مواجهة.
هذه المواجهة تلو المواجهة، فى القدس، وغيرها، تعلن مكررا إصرارهم على تذويبنا بالسلام فى نموذج لم نختره، ولم نخطر بحقيقة معالمه، فإن لم نسلم ونستسلم، فهى الإبادة والتطهير العرقى على مستوى العالم تحت لافتة نفس الشعارات.
لا مفر من العودة إلى صيغة “نحن” و “هم”، هل ما زال العالم يحتمل صيغة “نحن” و “هم”؟
نعم جدا، ودائما.
فى بلدنا (فى مصر) يردد الأطفال عند تقسيمة التنافس فى اللعب أرجوزة التحدى التى تقول: “ياحنا ياهم ياكوم الريش، هم يموتوا، واحنا نعيش”. لم يعد هذا هو المقصود، ولا هو الممكن، نحن لا نتمنى لأعدائنا الموت، لا نحترم هذه القيمة الطفلية البدائية بنفس القدر الذى نأبى أن نستدرج إلى قيمهم الجديدة التى تقول “كن مثلى، بل كن تابعى، وإلا قتلتك” هل ثمة أمل على المدى القريب فالبعيد؟
قبل الحرب وبعد الحرب، قبل الانتفاضة وبعد الاستشهاد، بل قبل النصر وبعد النصر، مطلوب منا أن نقف طويلا وكثيرا أمام كل ما يمثله “هؤلاء” على الجانب الآخر. ليس فقط لننقذ أنفسنا مما يمكن أن نساق إليه، ولكن أيضا لننقذ أعداءنا مما تورطوا فيه.
وسوف أكتفى فى هذا المقال الذى أحاول به أن أقلب غضبى إلى رؤية، وألمى إلى مسئولية بأن أحدد مجالات وموضوعات المواجهة الآنية والمستقبلية، إن العدو الذى نواجهه ليس مقصورا على فئة مختلفة غبية أسطورية ضالة مضلة، إذا كنا أهلا لتاريخنا، فنحن نحارب معركة أكبر وأشمل، نحن نمثل – أو ينبغى أن نمثل ـ طرف مختلفا نوعيا عن هذا الذى نرفضه، وفى نفس الوقت نرجو بانتصارنا عليه، أن نرحمه من ضلالاته وأوهامه.
حين تهتز القيم، حين يتخثر الوعى، حين تسود الخرافة (بما فى ذلك الخرافة التكنولوجية)، حين تحل الأساطير المهجورة محل التاريخ الذى مازال يتحرك بنا الآن، حين تحل الرفاهية محل الإبداع، حين تحل الديمقراطية السطحية محل الحرية، حين تحل مواثيق حقوق الإنسان محل حقوق الإنسان، فالخاسر هو كل البشر.
فضل انتفاضة القدس، على الرغم من الخسائر الآن ومستقبلا، هى أنها أرجعتنا إلى حقيقة وعمق ومدى تفاصيل المواجهة.
مع التحفظ ضد احتمال الاتهام بالتفكير التآمرى، تعالوا ننتبه إلى بعض ما نتهدد به من قبل هذا النموذج الذى زرع فى قلبنا جغرافيا، ثم إعلاميا، وثقافيا.
إنهم يمارسون سرا، وعلانية، طول الوقت محاولة نفينا مع أنهم الخاسرون إذا ما نجحوا، هذا إذا ما كنا نمثل بديلا صالحا لما يفتقدون.
هاكم أمثلة لرؤوس مواضيع ما يفعلون بنا قبل وبعد مواجهة القدس، يفعلونه بغباء مخرب لنا (ثم لهم حتما):
(1) تخريب اللغة الوطنية والمحلية أو تهميشها، لتحل لغة عالمية محلها (اللغة الأمريكية الشهيرة بالإنجليزية).
(2) تغيير منظومات القيم بشكل خفى متسحب، أو علنى متحد، مثل:
(أ) من التواصل البشرى المباشر، إلى تزييف التواصل النفعى السريع.
(ب)من جدل العلاقة إلى الادعاء بقبول الآخر (نفاقا أو تسوية ماسخة).
(جـ) من التصالح والتناغم مع الطبيعة إلى أوهام السيطرة عليها.
(ء) من الحوار مع الفطرة (الداخلية والخارجية) إلى الاكتفاء بتنظيفها من التلوث السطحى.
هـ) من إبداع الذات والنمو المتجدد إلى إبداع الرمز المنفصل عنا ثم تقديسه دون مبدعه أو متلقيه.
إسرائيل ليست فحسب هذه الإغارة المنظمة لسحقنا من الخارج ومن الداخل، إسرائيل ليست فحسب هذا التجمع العنصرى المختلط المستغل المغير القاتل المستعمر لقطعة أرض لم تكن أبدا لها.
إسرائيل هى النموذج الواضح والصارخ – على الرغم من إنجازاتها الاقتصادية والبحث علمية والتكونولوجية والحربية – لكل سلبيات واغتراب الإنسان قديما وحديثا.
إن الناظر فيما تمثله ممارسات وطقوس الأحزاب الدينية لديهم لابد أن يدرك بلا أدنى تردد أن هذا الذى يفعلونه أيام السبت وغير السبت، هو بالضبط أدنى ما يمكن أن يتدهو إليه دين من الأديان.
ثم إن الناظر إلى ما تمثله قيمهم الأكثر معاصرة، وبالذات الديمقراطية الغربية، لابد وأن يكتشف (بعد أن يبهر ويحترم)، أن هذه الإسرائيل إنما تستعمل أخبث ما وصل إليه الخداع العصرى إذ يضع السم فى العسل.
إن ديمقراطية إسرائيل، مثل ديمقراطية أمريكا، إنما تنكشف أمام أى اختبار حقيقى فى التعامل مع الأقليات، ومع الخصم، ومع العدل، إننا لا بد أن نبحث لها عن اسم آخر، أو أن نبحث لنا نحن عن قيمة أخرى.
حين زرعت إسرائيل فى قلب الأمة العربية، ثم وهى تريد أن تغمد خنجرا مسموما فى بؤرة وعينا الإيمانى باستيلائها على رمز تجمع الأديان السماوية، (القدس) فإنها تكمل صورة ما تمثله: سلبيات الأقدم وأساطيره وهو يمارس سيطرة الأقوى الأحدث وجبروته.
إن فضل انتفاضة القدس ليس فقط فيما ستنتهى إليه من إيجابيات على الأرض، مهما كان عدد الضحايا والشهداء، ولكن فضلها الأكبر هو فى أن تذكرنا – إذا كنا ممن إذا ذكر ذكر – بحقيقة المواجهة، ومعنى الجارى، ومسئوليتنا تجاهه، مرة أخرى ليس فقط لصالحنا، ولكن لصالح البشر كافة.
إن المطروح علينا بعد السياسة وقبل السياسة، بعد الحرب وقبل الحرب، قبل المفاوضات وبعد المعاهدات، أن ننظر فى تاريخنا واختلافاتنا عنهم، لنرى هل حقيقة عندنا ما نضيفه؟ هل هذا الاختلاف هو اختلاف تخلف، وبالتالى علينا أن نلهث لنلحق بمن تقدمونا؟ أم أنه اختلاف نوعى تمتد جذوره إلى طبيعة بشرية مشتركة هى الأنقى والأقدر والأجمل والأكرم مما شوه به البشر أنفسهم.
أنا لا أدعو بذلك إلى ترديد فخر بتاريخ مضي، فالتاريخ الذى لا يبقى فاعلا داخل صاحبه، هو لا يستأهله، بل إنه لا يعود تاريخه.
إن المعاصرة التى لا تحتوى تاريخ صاحبها “هنا والآن”، ليست معاصرة. إنها قشرة تخدع صاحبها حتى لو راح يقرأ تاريخه و”يسمعه” فى كل مناسبة وبلا مناسبة.
لا وجود لما يسمى “أصالة” إن كانت تاريخا مرصودا فى أوراق، أو ذكريات مستعادة، أو أبجدية لقصائد الفخر الزائف والوقوف على الأطلال.
لسنا أهلا لتاريخنا إلا إذا تحملنا مسئوليته.
التاريخ المجيد لا يرصد للتباهى وإنما للتذكرة بأن الإنسان فى لحظة زمان بذاتها، فى بقعة أرض ما، كان قادرا على كذا وكيت، ومن ثم فهو أقدر -أو ينبغى أن يكون أقدر، أو يمكن أن يكون أقدر- على ما هو أحسن وأرقى “هنا والآن”، فإن لم يحضر التاريخ فى خلايانا ووعينا بهذا الصورة الفاعلة، فأكرم لنا وأشرف ألا نذكره بديلا عن الفعل الآنى.
نحن أمة لها جذورها، فلنبحث عنها داخلنا الآن، فى عمق وعينا، وليس فقط فى قصائد تراثنا، فإن وجدناها واحترمناها وتعهدناها بما هو نحن الآن، فهى جذورنا حقيقة وفعلا. ماذا وإلا…..
لوعلم هؤلاء الذين هم على الجانب الآخر أن انتصارنا الحقيقى هو انتصار لهم، حيث يمكن أن نخلصهم من أوهام أساطيرهم، وغطرسة تطاولهم فى البنيان، إذن لاختلف الحوار، ولشكرونا وترحموا على شهدائنا الذين أفاقونا، لننتصرعليهم: لهم، ولنا. ولـكل البشر