نشرة “الإنسان والتطور“
السبت: 9-7-2016
السنة التاسعة
العدد: 3235
الطبنفسى الإيقاعحيوى (68)
Biorhythmic Psychiatry
المقابلة الإكلينيكية (21)
التاريخ العائلى (16)
عودة إلى سبر غور التاريخ العائلى (2)
(وتحديث من منطلق الطبنفسى الإيقاعحيوى)
تكملة فحص التاريخ العائلى (والتطوري):
6- تاريخ التفكك العائلى:
(المتن)
يلاحظ أن الأسر المتصدعة والفاشلة والمتباعدة والمنهارة والمهتزة يمكن أن تتواتر فى عائلات المرضى النفسيين أكثر من غيرهم، وثمة ظاهرة حديثة تشير إلى نوع خاص من التفكك فرضته ظروف معيشية واقتصادية، وهو النوع الناتج عن هجرة العائل (الأب عادة) المؤقتة أو الممتدة لكسب لقمة العيش بالعمل فى الخارج، وكثيرا ما نرى ظاهرة مثل الطلاق متواترة فى أغلب الإخوة وعدد من العمّات أو بعض الأخوال فى نفس الوقت، وبغض النظر عن إرجاع هذا إلى عوامل اجتماعية أو استعداد وراثى يؤدّى أى منهما لصعوبة التكيّف، فإن رصد مثل ذلك مفيد فى فهم المريض النفسى الماثل أمامنا، والتخطيط لعلاجه.
هذا والطلاق فى مجتمعاتنا العربية – رغم إباحته دينيا عند الغالبية- ليس بنفس التواتر الشائع فى المجتمعات العربية.
التحديث:
مضى على كتابة هذه الكلمات ما يقرب من أربعين عاما، تغيرت فيه الأمور، كما تغيرت نظرتى إلى الأمور من واقع ما بلغنى من تغيرات فى منظومة الأسرة التى هى مَسْمَع مهم جدا لما يتغير فى المجتمع، وأبدأ بالتعقيب على الجزء الأخير من المتن، فمن ناحية تصاعدت نسبة الطلاق بشكل واضح لأسباب مختلفة، والأصعب والأكثر حاجة للانتباه أن الأسرة التى لم تتفكك بالطلاق أصبحت تفتقر بشكل مزعج إلى معنى الأسرة ووظيفتها، وإذا كان المتن قد أشار إلى الغياب الجسدى للأب نتيجة العمل فى الخارج، فإن غياب دور الأب الحاضر/الغائب أصبح أكثر
تواترا وأبلغ خطرا، ذلك لتعذر حضور الأب “فى المتناول” available (وهو الدور الأهم له) فى وعى الأطفال بدرجة تسمح ببناء ذات قادرة على الاستقلال والنمو. والسؤال عن كل ذلك فى التاريخ العائلى أمر شديد الصعوبة فهو يُتوصَّلُ إليه بشكل غير مباشر غالبا، بل إن ما يسمى الأسر النموذجية – فى مجتمعنا – هو أقرب إلى الأسر المنغلقة المتزمتة وهى قد تفرز أطفالا نموذجيين، أو على الناحية الأخرى قد تفرخ شبابا متعصبين نرجسيين جاهزين للجريمة والعنف والعدم والإعدام الذى ذكر فى البند السابق (الانحراف).
من فرط شعورى بالألم لما آلت إليه أحوال مؤسسة الأسرة عندنا، مدعومة بانهيار المؤسسة التعليمية تربويا واجتماعيا وأخلاقيا، أصبح السؤال فى التاريخ العائلى عن هذه السلبيات يكاد يكون من باب تحصيل الحاصل، فقد غلبت السلبيات حتى كادت تصبح هى الأصل، ومع ذلك فما زالت هناك قلة قادرة تحاول أن تتمثل الثقافة الغربية تقليدا، وتدعم ذلك بإلحاق أبنائها وبناتها بالمدارس الأجنبية باهظة باهظة التكاليف، أو بعض المدارس الداخلية النادرة التى يخشى أن تفرز جيلا من غير المنتمين للمجتمع الأوسع برغم مظاهر التقدم والرقى.
وعلى الجانب الآخر، لاحظت أن أسرة المدمن لا تتسم بالضرورة بكل السلبيات التى يركز عليها الإعلام، أو التعليل السطحى، فثمة أسر فى غاية الانضباط والطيبة، وتفرز مدنين من أصعب الحالات، وقد نصحت زملائى أن يقوموا ببحث فى هذا الشأن، أولا للغوض فى جوهر السببية ودراسة ما وراء هذا الانضباط وهذه الطيبة، ما ينقص الأولاد برغم ذلك ، وربما للتخفيف من دمغ هذه الأسر التى تتهم بأنها السبب نتيجة للتفكك، والغياب بأنها السبب المباشر لهذه الثقافة التى تفرز المدمن
وبالنسبة للطبنفسى الإيقاعحيوى، فإن رصد كل ذلك يمكن أن يكون مؤشرا أساسيا لمدى الجهد المطلوب لاستعادة تخليق الوعى الجمعى فالجماعى، إذْ لا مفر من مواجهة المسئولية والحقائق، ومع ذلك فكل هذه السلبيات لا ينبغى أن تكون مبررا للاختزال ولا للاستسهال فى الوقاية أو العلاج.
(ملحوظة: الحصول على معلومات عن تركيبة الأسرة الصغيرة والأسرة الممتدة ليس هنا مكانه، وهو ما سوف نعود إليه بالنسبة لوصف التركيب الأسرى الحالى وظروفها المعيشية المادية والاجتماعية والنفسية حيث يفرد لذلك فى تسجيل المشاهدة (Sheet) بند خاص بذلك، لعله غدا).
7- الانتحار:
المتن
مازال الانتحار أمرا نادرا فى مجتمعاتنا لدرجة لا تسمح باعتباره من أوائل المظاهر التى يمكن أن تتواتر فى عائلة بذاتها. وينبغى رصد حوادث الانتحار ومحاولات الانتحار فى الأسرة دون التسرع بتصور أن كل انتحار هو دال – ببساطة- على الاكتئاب بشكل أو بآخر، ثم إن احتمال الانتحار ، ومحاولات الانتحار، واردة فى معظم الأمراض النفسية دون استثناء.
التحديث:
نسمع الآن، ونتبادل تعبير “العملية الانتحارية” (أو العمليات الانتحاية) أكثر مما نسمع أو نتحدث عن حوادث الانتحار الفردية هنا أو هناك، ولابد من الاعتراف بأن تزايد هذه العمليات باضطراد هكذا، يحتاج بالإضافة إلى رصد الظاهرة فى المجتمع ككل إلى البحث عنه فى عائلات المرضى أسرة أسرة، ذلك أن الوصول إلى ما وراء ذلك، خاصة إذا تواتر، يمكن أن يمثل خلفية تفيد فى العلاج ونحن نبحث فى ضلالات المريض حتى لو تكن دينية انتحارية.
على أن الإحصاءات عن الانتحار ليست نهائية، وهى إحصائيات من مصادر غير متجانسة حتى تلك التى أعلنتها الأمم المتحدة فينبغى قراءتها بحذر، والمضى بعدها إلى فروض فرعية تختلف باختلاف الثقافات
إن افتقار المؤسسة الأسرية إلى معنى المجتمع من البداية، وكذلك الافتقار إلى التنشئة التى تتيح الانتماء للآخر ثم للآخرين ثم للحياة، يرجع بالضرورة إلى الافتقار إلى العلاقة بالحياة بما هى حياة، وبالتالى يصبح الشباب، أو من هم دون ذلك، أكثر عرضة للاندفاع إلى الانتماء لأى تجمُّع جماعى متماسك ولو ظاهريا فضلا عن ما يعد به مثل هذا المجتمع من مكأفات الاستشهاد، وكأنه يُحِلّ الخلود فى الجنة، منحة من غير ذى صفة، محل حياة لم يجد فيها صاحبها ما يبرر الحفاظ عليها.
إن رصد هذه الظاهرة فى أسرة المريض قد يكون له نفس دلالة ما أشرنا إليه من أنه لو زاد عن حد معين يصبح خطرا “انقراضيا”، وليس فقط تهديدا حضاريا، أو مضاعفة صحية، فبرامج التطور هى برامج الحياة، وحتى الانتحار الجماعى لبعض الأحياء، له تبريرات تطورية مختلفة، لم تتضح تماما بعد فى مختلف الأحياء التى قد تقدم على ذلك، وبرغم الزعم بزيادة ما تقوم به مجموعات من هذه الأحياء من عمليات انتحار جماعية، فإنها ما زالت تحافظ على بقاء نوعها، مما يحتاج لمزيد من البحث والدراسة.
هامش عن الانتحار الجماعي!
على الرغم من أن الانتحار الجماعي قد رصد أكثر فى أحياء مختلفة قبل الإنسان (1)، فهو ما زال يعتبر ظاهرة إنسانية حديثة أخبث وأخفى، فالحروب ليست إلا انتحارا جماعيا منظما. مئات الألوف على الجانب ومثلها على الجانب الآخر تحاول القضاء على بعضها البعض لأسباب سياسية أو اقتصادية أو دينية.. أيا كانت الأسباب فالموت جماعي وبأحدث الأسلحة وأعنف النظريات!
والطبنفسى الإيقاعى التطورى دائم الإشارة إلى أن ما حدث مؤخرا من انحراف عن قواعد برامج التطور الأصلية ويعتبره نذيرا للإنسان – ما دام أصبح يسىء استعمال نعمة الوعى والعقل بغباء العدم والإعدام – نذيرا بانقراض هذا النوع الفائق التميز، ليحلق بمن لم يتعلم من برامج التطور وآليات البقاء للنوع قبل الأفراد.
نموذج لانتحار جماعى عند الإنسان، ودلالاته التطورية
لعل مأساة الانتحار الجماعى التى أقدمت عليه جماعة جيم جونز فى 18 نوفمبر 1978 جمّع جيم جونز أتباعه في قرية صغيّره في غيانا في أمريكا الجنوبية وأقنعهم أن يشربوا مادة السيانيد السامه الممزوجة بعصير العنب مدعياً ان ذلك إنتحار ثوري وقامت القيادات الخاصة بالجماعة بحقن الأطفال الصغار بمادة السيانيد، عدد 913 شخصا (2) من مجموع أعضاء المعبد ماتوا عدا اثنين نجوا من تسمم بالسيانيد، وذلك في حدث أطلق عليه جونز واتباعه “الانتحار الثوري”
…….،
وقد كتبت فى ذلك فى الأخبار فى 5/12/1978 بعد الحادث مباشرة مقالا بعنوان: “هذا الإنتحار الجماعى فى أمريكا..محطة إنذار مبكر.. لمحنة العصر” ولم يكن فكرى الإيقاعحيوى التطورى قد وصل إلى ما وصل إليه الآن، وفيما يلى مقتطفات ملائمة من ذلك المثال (لاحظ التاريخ).
مقتطفات:
………….
“..لم يعد الجنون أو الإنتحار أو القتل مجرد ظواهر شاذة ينبغى علاجها بكذا أو كيت، أو يكتفى بالبحث عن أسبابها الفردية فى هذا الحادث أو تلك العقدة، ذلك أن النظرة العلمية الأعمق قد تخطت مجرد التصنيف والوصف والتعليل والنفى للمجانين والمجرمين، إلى محاولة ترجمة هذه الصيحات الشاذة إلى ما يفيدنا ويوقظنا معا، رغم أن هذه المحاولة الأخيرة قد أسيئ استعمالها أيضا لتبرير الشذوذ والجنون والإنحلال، والتعلية من شأن هذه المظاهر التدهورية دون أى مبرر واع شريف”.
“..ولا أحسب إنسانا حيا على ظهر هذه الأرض قاطبة يستطيع أن يطالع الصحف هذه الأيام ويرى جثث الأطفال والنساء والرجال تمثل هرما من التحدى المر، ثم يواصل حياته كما كان يفعل من قبل بنفس النمط الإغترابى، والعمى الإغمائى. اذ لا يكفى أن تتقطع قلوبنا أسى ولوعة، أو أن نبكى دما، أو أن ننظم قصيدة شعر والهه، أو أن نمصمص شفاهنا شفقة وترحما، أو أن نسخط على العصر والضياع والحكومات والبورصة.. وغيرها، ولم يعد يكفى أن ينشط شباب الصحافة ويلاحق المختصين باحثين عن أى اسم لاتينى لمرض يصنفونه ليضعوا تحت لافتته المجنون الجديد جيم جونز ثم ينتهى الأمر إلى نصيحة للشباب بأن يكونوا أكثر عقلا!!”.
“..هذا كله ومثله لايكفى ولاينبغى أن يكفى .. فإذا كان الإنتحار الفردى والجنون الفردى صيحة إنذار يطلقها الفرد بأعلى شذوذ مرضه وانحرافه فإن الإنتحار أو القتل أو الجنون .. الجماعى ينبغى أن يؤخذ بإعتباره إختراقا لحاجز الإغماء الجماعى والإغتراب الجماعى فإذا لم يخترق مثل هذا الحادث حاجز إغمائنا واغترابنا فنحن أدنى من الطيور والأسماك التى تنتحر جماعيا حفاظا على نوعها بشكل غير مباشر”.
“..إذن فلابد أن نتذكر أن هذه الجماعات البشرية الشاذة المنشقة من أول الخوارج حتى الهيبز ومن جماعة التكفير والهجرة حتى جماعة وضحايا جيم جونز فى معبد الشعب ليسوا شواذ متعصبين فحسب، ولكنهم بالدرجة الأولى علامات منذره على طريق المسيره البشرية، ولذلك فإنى أدعو كل من جزع ومصمص وأصدر الأحكام والعظات أن يرجع البصر كرتين ليرى المقابل لهذا الانتحار والسبيل إليه، فمنذ انفصل الانسان المعاصر عن الحس الكونى الأعظم مستجيا لغرور العقل الجبان، وأيضا انفصل عن العقل الموضوعى الشجاع وأغمى عليه فى غيبوبة الخرافة (شبه العلمية الأحدث)، وقع فى المآسى الإغترابية التى نعتبر هذا الحادث من علاماتها.
”….على أننا ينبغى أن ننظر فى الدافع الذى دفع هذه العشرات والمئات إلى الهجرة إلى العدم وراء هذا الساحر أو النبى أو المجنون، اذ لايكفى أن نعزو ذلك إلى مرضه أو عمق رؤيته أو حماسه وتعصبه فكل ذلك لا قيمة له إذا لم يجد حاجة ملحة يغذيها عند الملتقى والتابع، فلا شك أن هؤلاء المهاجرين إنما هاجروا هربا مما هو العن”.
“…أننا أحوج ما نكون الى دراسة الأبعاد الأنسانية التى أهملناها والتى كان يغذيها الإيمان الحق على مر العصور، ولكن لا بالرجعة الى التعصب التحوصلى والتشنج الإغمائى” ، وإنما بالتصعيد بالوعى إلى ما خلق له بما خلق به .
وبعد
أعتقد أن هذه المقتطفات فى هذا التاريخ الباكر يمكن الآن أن أرجعها إلى موقف ما وصلنى من مرضاى, قبل غوصي فى تاريخ التطور حتى تبلور فكرى فيما هو الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى.
[1] – في السويد والنرويج تهاجر مئات الفئران في وقت محدد من كل سنة لتلقي بنفسها في بحر الشمال.. وفي طريقها إلى البحر فإنها تقضى على النباتات والثمار.. أي أنها تهلك من يقف ويتفرج عليها.. فهي تختار أن تمشي في موكب الموت حتى تموت هي الأخرى في بحر الشمال كل سنة!
(وثل آخر:) …. تجيء العصافير في مملكة نيبال مرة كل سنة من كل الجهات وتلقي بنفسها في النار.. لتموت.. وأهل نيبال يعرفون هذه ويستعدون لها بالنار، كأنهم أرادوا أن يسهلوا مهمة هذه العصافير التي تقتل نفسها بالملايين كل سنة.. ،وهناك عصافير الشوك.. وهي عصافير خرافة الحياة والموت، فالعصفور ……، يظل يطير حول شجرة شائكة.. وينقي لنفسه أطول شوكة فيها.. ثم يعري صدره بمنقاره.. ثم يرمي بجسمه كله على أطول شوكة فتنقره الشوكة في قلبه.. وهنا يطلق أجمل صرخاته.. أروع ألحانه وهو ينزف دما! وتفعل عصافير الشوك ذلك بمئات الألوف كل سنة ـ ولا أحد يعرف تفسيرا لهذه الظاهرة!
هذا غير المعروف عن انتحار الحيتان ..إلخ
[2] – أنظر الصورة