نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 4-7-2016
السنة التاسعة
العدد: 3230
الطبنفسى الإيقاعحيوى (67)
Biorhythmic Psychiatry
المقابلة الإكلينيكية (20)
التاريخ العائلى (15)
عودة إلى سبر غور التاريخ العائلى
(من منطلق الطبنفسى الإيقاعحيوى)
مقدمة:
كنا قد وصلنا فى نشرة 4-6-2016 إلى السؤال عن التاريخ العائلى، وبمجرد ذكر تفاصيل وجدوى السؤال عن تاريخ الصرْع بالعائلة، انفتحت علينا فيضانات التصدى لماهية الطاقة الحيوية، وأشكال توجيهها واستيعابها، أو تفريغها وانفجارها، فوجدنا أنفسنا فى محيط النبض المخى بدوراته النمائية المتعاقبة المكررة، ودورات حالاته المتناوبة نموا، فضلا عن دوراته اليوماوية (السركادية) (1) من النوم واليقظة والأحلام، واستغرق منا ذلك (سبعة عشر نشرة) (من نشرة 23/4/2016 إلى نشرة 4-6-2016).
وأنا أعود إلى استكمال أبعاد المقابلة الإكلينيكية أشعر ببعض الضيق الإضطرارى إلى السير على أرض مستوية مألوفة، بعد أن كنا نغوص معا فى إعماق حيوية الوجود البشرى على أنغام الإيقاعحيوى، لكن أرجو أن تدركنا التعقيبات
كانت العناصر الثلاثة الأولى التى علينا أن نسأل عنها فى التاريخ العائلى هى: (1) أى مرض نفسى أو عصبى أو عقلى (نشرة 30-4-2016) (نشرة 1-5-2016) (2) أى تخلّف عقلى (نشرة 2-5-2016) (نشرة 7-5-2016) (3) ثم: الصرْع (نشرات 9-5-2016) (نشرة 14-5-2016) (نشرة 15-5-2016)، حيث كان ما كان من استطراد مسهب.
هذا وسوف أواصل اتباع نفس النهج بأن أبدا بذكر المتن من مسودته سنة 1982، ثم أعقـّب عليه تحديثا، وخاصة بما يخص الطبنفسى الإيقاعحيوى.
المتن (كيف نستقصى التاريخ العائلى للمريض)
………….
4- الانحراف، والإجرام والشذوذ الخلقى، وفرط التدين، وفرط التقاضى: هذه المجموعة من السلوك لا تندرج مباشرة تحت ما يسمى مرض نفسى، وإنما هى نوع من التصرفات الشاذة، أو المبالغ فيها، أو المخالـِفة للعرف والمجتمع.
(4/أ) فبالنسبة للانحراف والشذوذ الخلقى فإنه لا بد أن يقاس بالمقاييس الشائعة فى مجتمع المريض الصغير وليس بقياس قِيَمِى مطلق نابع من الأخلاق التلقيدية أو المكتوبة فحسب، ولا بمقاييس المجتمع الأوسع عامة، ولا بمقياس قيم الفاحص شخصيا طبعا؟، فلكل مريض مرجعه فى القيم التى تحدد له مدى الخروج عنها بما يسمّى الانحراف كما يمكن الاعتماد على – أو على الأقل الاستهداء بــرأى العائلة بالنسبة إلى هذا السلوك أو ذاك، كما يلزم أيضا أن يستمر السلوك الانحرافى مدة كافية ليقال إن قريبه الكذا كان منحرفا أو هو منحرف الآن.
التحديث:
يقصد بالانحراف الخروج عن المنظومة الأخلاقية التى تسود ثقافة بذاتها، وهو يطلق على سلوك الفرد حين يحيد عن منظومة القيم الإيجابية للثقافة الفرعية فالثقافة العامة كما هو شائع عند ثقافة المريض، وكثيرا ما يكون مصاحبا بنوع من اضطراب الشخصية، حتى لو لم يصل إلى درجة الاستشارة، وأيضا كثيرا ما يصاحبه درجة أو فترة من الإدمان.
ومن منطلق الطبنفسى التطورى وخاصة من مدخل التاريخ العائلى فإنه يمكن أن يضاف نوع من الانحراف أخطر وأخفى وهو الانحراف إلى ما يهدد سلامة الفطرة على مسيرة التطور وهو الذى إذا انتشر ودام بالنسبة لنوع من الأحياء، أصبح نذيرا خطيرا بالانقراض، وليس من مهمة الطبيب النفسى العادى ولا فى مقدوره أن يرصد هذا الانحراف لأنه لا يشغله أصلا، وأيضا لأنه لا يتجلى فى الأفراد واضحا ولا فى المرضى عامة، إلا إذا استشرى الأمر وأصبح ظاهرة لها دلالتها، هذا الانحراف الانقراضى – إن صح التعبير – تمارسه فى المجتمع قوى سلبية أو غبية – تطوريا – أو عمياء، وتستعمل فيه كل أدوات القوة والسيطرة بما فى ذلك الحروب والاستغلال والظلم وتنمية الاغتراب الجماعى، وفى الممارسة الطبية يمكن رصد غلبة بعض هذه الصفات فى عائلات بذاتها، لها ثقافة فرعية انقراضية مثلما كان يحدث فى بعض العائلات الاقطاعية، وهو ما يحدث حاليا أيضا وأخفى فى أسواق المال الاحتكارية والحروب الإبادية والإثنية والاستعمالية والإعلامية.
على أن الطرف السلبى (مثلما فى مسار التطور) له دوره فى المساهمة فى نشر هذا الانحراف الانقراضى بسلبيته واستسلامه وعجزه، والطبيب ليس فى مقدوره أو من مهمته أن يشخص مثل ذلك فى الأسرة تحديدا، ولكنه يساهم بشكل غير مباشر إذا ما رصد حدسه غلبة ذلك فى عدد من أفراد الأسرة، مما قد يمكنه أن يسهم بأن يكون عاملا إيجابيا ضد ذلك، حين يأخد بيد مريضه – الذى هو نموذج لاختيار التدهور على المستوى الفردى- حتى لا يستسلم لثقافته الفرعية (وإن غاصت فى تاريخ أسرته) وذلك إذا تبينت له ملامح الانحراف الانقراضى وكيف أنه أول الخاسرين منه، سواء كان يقوم بدور الظالم القهرى اللاغى للآخر أو بالمستسلم للظلم والقهر حتى السحق!
إن إنقاذ فرد واحد من هذا المنزلق هو إسهام فى مسيرة التطور ضد الانقراض: “وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا”
(4/ب) أما مسألة فرط التدين فليس المقصود بها ممارسة زائدة للطقوس الدينية بقدر ما تعنى الإلتزام بقيم ثابتة حاسمة، يعتقد المريض أنها دينية ملزمة، بشكل مفرط ومتماد، بحيث تؤثر فى السلوك وعلى العلاقات بالمحيطين به فى مواجهة المختلفين عنه عادة بدرجة تصل إلى فعل التخلص منهم.
التحديث:
كتبت أصل هذا المتن سنة 1979 ولم تكن سلبية هذا السلوك قد تعرت كل هذا التعرى كما حدث مؤخرا بعد شيوع الفكر والفعل الإرهابى، والتطهير العرقى، تحت شعار الدين، ومن البديهى أن الطبيب المنتمى إلى الطبنفسى الإيقاعحيوى ويعيش فى مجتمعنا المعاصر ويتابع كل ذلك، أن يصبح رصد هذا النوع من السلوك المضاد للإيمان وللفطرة وللدين الصحيح من مهمته دون إصدار أحكام أو تدخل سلطوى، وقد يصبح رصده لهذا السلوك فى العائلة مؤشرا إلى نوع التعامل مع واقع المريض وخاصة فيما يتعلق بجمود تفكيره وصلابة معتقده، الأمر الذى قد يسود فى عائلة ما، إن ما يهمنى هنا ليس فقط رصد الانضمام لمثل هذه الجماعات النافرة المنحرفة، وإنما قد يتجلى أيضا فى شكل أمراض وضلالات شديدة الخطورة لكنها لا تعتبر ضلالات إذا وجد المريض من يشاركه فيها، وهنا تصعب مهمة الطبيب الملتزم وهو ليس سياسيا ولا رجل قانون، فهو حين يعالج مريضا ينتمى إلى مثل هذه الثقافة سوف يجد صعوبة بالغة فى حلحلتها ، ومن ثم فى تحريك مريضه نحو استعادة هارمونية نموه، وإيقاع إبداعه.
(4/جـ) يشير فرط التقاضى إلى الإفراط للجوء إلى سلطة البوليس أو القضاء فى كل كبيرة وصغيرة، ورفض المصالحات والتسويات المحتملة، وذلك حتى يكاد التنقل من قاض إلى قاض ومن قسم بوليس إلى آخر يستغرق وقت الشخص كله.
التحديث:
أعتقد أن هذه الظاهرة أصبحت أقل تواترا، وعموما فإن ما تبقى منه ويتم رصده (2) فى التاريخ الأسرى قد يكون له دلالة مهمة إذا قد يكتشف الطبيب النفسى من خلال رصده تواتر مثل هذه الظاهرة أنه أمام ثقافة فرعية تغلب فيها الاعتماد على ألفاظ قانون مكتوب أكثر من حوار بين مستويات الوعى البينشخصى والوعى الجمعى، وكلما زاد تباعد الأفراد عن بعضهم البعض، وزاد تقديسهم للمواثيق والقوانين المكتوبة جملة وتفصيلا أكثر من اعتمادهم على العرف الإيجابى، والتكافل الجمعى الإيمانى الفطرى، زادت ظاهرة فرط التقاضى، وَوَضْعُ ذلك فى الاعتبار أثناء رصد التاريخ العائلى يكون مفيدا فى حفز جهد أكبر للتغلب على مثل ذلك ليس بنفى القانون أو إهماله، وإنما بتوضيح حدوده وإنشاء قنوات أخرى للتواصل والتعامل، الأمر الذى قد يتيح للمريض المنتمى لثقافة الألفاظ والكلمات المكتوبة أن يجد بدائل أخرى فى قنوات أخرى تـُنمِّى قدرات تواصله بالوعى البينشخصى والوعى الجمعى بما يسهم فى استعادة تنشيط نبضه المبدع فى الاتجاه الأقرب إلى ترجيح الحياة البشرية السليم للفرد والجماعة فالنوع.
المتن
5- الضـِّرار (3)، والحرمان، والإهمال: للأطفال
(5/أ) يسأل عن هذه المظاهر الثلاثة مع التاريخ الأسرى حيث أنها يمكن أن تسرى فى أسرة من الأسر أكثر من غيرها، كما يمكن أن يترتب عليها أضرار محددة تلحق بالمريض إذا كان هو الذى أضير، أو أن تدل على نوع المجتمع الخاص الذى ينتمى إليه، وعن كم المخاطر التى نشأ المريض فى جوها حتى لو لم يكن هو المضار شخصيا، وضرار الأطفال فى مصر والبلاد العربية أقل مما هو شائع فى العالم الغربى، فى حين أن حرمان الأطفال وإهمالهم هو أكثر تواترا فى العالم العربى
التحديث:
الشائع أن الضرار الجسدى للأطفال خاصة (الضرب والإيذاء الحسى) أكثر تواترا فى مجتمعاتنا عن المجتمعات الأكثر تقدما، كما ألمح المتن إلى ذلك، وإن كانت ملاحظاتى مؤخرا تشير إلى أنه مازال متواترا بدرجة تستدعى التنبيه والمعالجة، وحتى لو كان قد تراجع مؤخرا من باب تقليد المتحضرين السابقين فإن خبرتى تقول إن كثيرا من هذا التراجع هو ليس إلا تقليدا ظاهريا، وأنه قد تكون له دلالة سلبية بشكل أو بآخر، إذْ قد يكون دليلا على تراجع دور الوالد الحازم وتخليه عن مسئولية التربية الصحيحة التى تستلزم حزما قد يصل إلى ما يسمى ضرارا، فإذا كان الأمر كذلك فهذا تراجع زائف أو ضار، أو ما زالت ثقافتا الأقدم تنبه إلى دور الكبير كما ورد فى الشعر القديم: “فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازما * فليقْسُ أحيانا على من يرحم”
كما يمثله أبسط صور المثل القائل: “اللى مالوش كبير يشتريله كبير” (4).
أما الأكثر شيوعا فى ثقافتنا وينطبق عليه ضرارا الأطفال فهو إهمالهم: إما بالاستهانة بهم وأما بنسيان أبسط حقوقهم، وإما بالانشغال عنهم، وكل هذا قد يكون عاملا مباشرا بالنسبة للمريض تحت الفحص، أو قد يُرصد فى أسرته دون تحديد أنه بالذات المستهدف، ومن أهم الملاحظات أن بعض المرضى قد يرصدون ذلك حولهم أكثر مما يشكون منه مباشرة، أو قد تكون هناك أسر بأكملها ليس عندها ثقافة احترام الطفل والاعتراف به فى الوقت المناسب وبالتدريج المناسب.
على انه يوجد نوع أخطر من الضرار لا يُتَحَدَّثُ عنه غالبا حتى يبدو غير شائع فى مجتمعاتنا إلا أن المتابع الراصد قد يصله أحداث وأرقام يجعله ينتبه إلى عدم التسليم لمثل هذا النفى، ألا وهو الضرار الجنسى، وممارسة الجنس مع المحارم أطفالا وكبار، وبرغم المبادرة بالنفى الجاهز تحت الزعم بأننا مجتمع ملتزم دينيا فإنه أمر يحتاج لمراجعة حيث لاحظت أنه اكثر تواترا مما يحسب أغلب الناس.
مع ظهور المؤسسة الزواجية فى تاريخ تطور البشر بدأت ظاهرة منع الجنس بين المحارم، وقد عثرت على اسم بالغ الدلالة بالانجليزية لتوصيف هذه الظاهرة: حيث سموا ذلك المنع Grammar of the Family ، فكما أنه فى علم النحوGrammar هناك باب اسمه “الممنوع من الصرف” فإن ما يقابل ذلك فى “نحو” الأسرة يوجد ما هو “الممنوع من الجنس” ولن أطيل فى مغزى ذلك وتوظيفه تطوريا، إلا أننى لاحظت، حتى فى أكثر المناطق والمحافظات المشهورةبالتقاليد والتريبة، لاحظت أن هذه الظاهرة ليست بالندرة التى تزعمها لبعضنا البعض، ولأنها تمارس سرّا جدا، فإنها لا تكون فى المتناول عادة عند فحص المريضة (أو المريض) إما لفرط الكبت حتى أنه نفاهها تماما من متناول ذاكرته، أو لفرط الحرج والخجل، على أن الفحص الدقيق والحاذق قد يصل إلى بعض المعلومات فى الأسرة التى منها المريضة (أو المريض) مما يضيف بُعدا هاما على العلاج يدعو إلى النظر فى كيفية احتواء ذلك عند المريض، والمسألة ليست مسألة تحقيق وحب استطلاع ولكنها من العوامل المساعدة أكثر على الإحاطة بأغلب ما ينبغى أن يحيط به الفاحص من تاريخ واحتمالات.
وبالنسبة للطبنفسى الإيقاعحيوى فإن من يمارسه قد يكون أكثر فهما واحتراما لمثل هذه الانحرافات المؤقتة أو العابرة، وذلك بناء على ما يعرفه من أنه لا توجد قواعد فى “نحو” أسر الحيوانات تمنع من ممارسة الجنس بين المحارم، وقد يساعده ذلك فى الإسهام فى إعادة النظر فى تضخيم الشعور بالذنب القاهر الكابت إلى درجات خطيرة مرتبطة أو غير مرتبطة بشكل مباشر بمثل هذه الأحداث غير النادرة.
[1] – Circadian
[2] – ليس لأننا صرنا أفضل، ولكن ربما لأن كثير من الحقوق، أو الزعم بالحقوق، صار يؤخذ بالجهود الفردية مباشرة
[3] – استعمل كلمة ضرار (وليس ضرر) مقابل كلمة Abuse بالانجليزية
[4] – كما تمثلت شعرا فى ديوانى أغوار النفس قائلا:
وعيالْ لاِيّامْ دِى غـَلاَبـَهْ، لافى عَـصـَا ترحَمْـهـُم ولا حـِكْـمَـة، مِـن مـَسَّ الجـَان والجان أيَّامْنَا، لابسين جلد الإنسانْ.