الوفد : 27 /7/ 2001
المغزى السياسى لظاهرة عمرو خالد
الشارع المصري, الوعي المصري, مثله مثل كل من علي شاكلته في العالم العربي, والعالم الأفريقي, وصنف بلد يمارس السياسة بالتصريحات, والصحف, والوعود, دون الناس, هو شارع يعاني من مرض “فقر السياسة”. هذا المرض مثل فقر الدم, مثل نقص الفيتامينات, يعالج إما بتصحيح السبب, وإما بجرعات تعويضية من المواد التي تنقص المريض, لكنه قد يهمل نتيجة لتزوير نتائج تحليل الواقع (مثل الأرقام الاقتصادية التي تطالعنا بين الحين والحين), أو بإغفال أعراضه نتيجة وضع بعض المساحيق التي تخفي اللون الباهت, والذبول المتسحب. مساحيق السياسة هي مواكب الانتخابات. بلا انتخابات, وسرادقات اللقاءات بلا مشاركة.
من أعراض مرض “نقص السياسة ” هذا أن يستجيب الشارع لأي شيء “يحركه معا” في اتجاه واعد, أو مسكن, أو هروبي. من هنا يمكن فهم البدائل التي تحل محل السياسة, مع أنها تبدو في ظاهرها أبعد ما تكون عن السياسة, من هنا يمكن تقييم بعض الظواهر التي تبدو وكأنها تفاجئنا مع أنها – من منطلق سياسي – ليست مفاجأة ولا يحزنون.
الظاهرة التي تسري بين الناس بسرعة وترحيب, أو تسري بين الناس رغم الرفض والتحذير,, هي ظاهرة سياسية في الأغلب, إنها تعلن حاجة الناس, أو صرختهم , أو احتجاجهم, أو استغاثتهم …إلخ. تستوي في ذلك أغنية فيديو كليب لعمرو دياب , أو خطبة محشرجة لشعبان عبد الرحيم, أو درس وعظ من عمرو خالد. أو وهم شائع للعلاج بتحضير الجان .
لماذا تتزايد مثل هذه الظواهر هذه الأيام ؟
الناس في حاجة إلي أن “يشعروا معا”, يتوجهوا معا, يشاركون بعضهم البعض في رسم مصيرهم, ولو كان سيئا , أو مؤلما, هذا هو معني السياسة التي مهمتها أن تضع أصحاب المصلحة في الاعتبار من البداية للنهاية, وبما أن الناس قد شعروا أن معظم القادة لم يعودوا في حاجة حقيقية إلي رأيهم, فقد فهمو أنهم ليسوا مدعويين أصلا للمشاركة في صنع القرار, وبالتالي فقد استجابوا بالتخلي عن المسئولية. لكن تظل الحاجة إلي “التوجه معا” تلح حتي تفرض نفسها في مثل هذا الظواهر المشار إليها حالا.
المسألة الأساسية التي تعيد الناس إلي العمل المثمر, والمشاركة في تحمل المسئولية هي أن يشعروا, من واقع الممارسة, لا من التصريحات, وأوهام الانتخابات, أنهم قد شاركوا في تقرير مسارهم ومصيرهم. إن توسيع حجم المشاركة في الحوار, ومن ثم في اتخاذ القرار, يقابله توسيع فعل المسئولية
هذا وذاك يسميه أهل السياسة “الديمقراطية”, ولا مفر عندي من موافقتهم من حيث المبدأ مع أنني أتحفظ شخصيا علي تلك الكلمة تحفظا بلا حدود مادامت إسرائيل وسيدتها (أو خادمتها) أمريكا يزعمون أنهم المثل الأعلي لممارستها. ليكن الاسم ما يكون, المهم هو أن نتأكد من المشاركة عند اتخاذ القرار, وأن يصل إلي وعي المشاركين أنهم ما داموا قد شاركوا فهم مسئولون-ضمنا – عن النتائج.
لو راجعنا أغلب القرارات (المصيرية – كما يحب أصحابها أن يسموها) التي اتخذها حكام المحروسة منذ نصف قرن, بل منذ أكثر من ذلك, وحاولنا أن نقيسها بمقياس المشاركة فالمسئولية, لما وجدنا ارتباطا جادا حقيقيا بين من أصدر القرار ومن تحمل مسئوليته. يجرنا هذا إلي البحث عن الذي دفع ثمن القرارات السلبية منها.
تعالوا نورد بعض الأمثلة منذ ما قبل النصف قرن هذا بغية المقارنة:
(1) ثورة 19 : من الذي اتخذ القرار, ومن الذي تحمل المسئولية؟ سعد زغلول لم يتخذ قرار قيام ثورة 19 . لكنه قادها من داخلها, مع أصحابها, منهم, وبهم, وإليهم طول الوقت, , وبالتالي تحملنا جميعا مسئوليتها, دفعنا الثمن, وقبضنا الاستقلال , وقدرا متواضعا من الحرية الواعدة ردحا من الزمن.
(2) معاهدة 1936 : من الذي اتخذ القرار, ومن الذي تحمل المسئولية ؟ كان حزب الوفد ما زال يمثل الشعب بالقدر المتاح من الموضوعية, وكان له رئيس يرأس حكومته, فوقع المعاهدة , وتحمل النقد, فاستغل الإيجابيات, وحاول تدارك السلبيات ؟ وتحملنا جميعا المسئولية وعلي رأسنا من تصدي لها, وكانت أقصي درجات تحمل المسئولية, أن من وقع المعاهدة هو الذي ألغاها “من أجل مصر وقعنا معاهدة 1936, ومن أجل مصر ألغينا المعاهدة” (النحاس باشا). ولأن الشعب شارك في كلا الحالين فقد انبري بعد إلغاء المعاهدة إلي تحمل المسئولية, كما تجلت -مثلا في المقاومة شعبا وشرطة في بورسعيد 15 يناير1950.
(3) حرب 1948 :صحيح أن القرار كان يترجم وعيا شعبيا جارفا متحمسا, لكن المعلومات كانت ناقصة, والحكومات منفصلة عن الناس, ولا أحد يعرف “من وراء ماذا إلي أين”.
لا مسئولية بلا معلومات كافية (هذا ما يسمونه الآن الشفافية). فكان القرار منفصلا عن الناس لعماهم, وما زلنا ندفع الثمن للآن.
(4) مشروع صدقي-بيفن : البحث المقارن بين مشروع صدقي- بيفن , وبين اتفاق 1954 الذي تم الجلاء من خلاله, يظهر كيف أن الأول , كان وما زال , أفضل, من الأخير الذي يزعم ضباط يوليو المخلصين أنه إنجازهم غير المسبوق , وأنه لولاهم لما رحل الإنجليز حتي الآن (2001). ما علينا, ندع اللوم والمعايرة جانبا. فشل مشروع صدقي – بيفن, رغم تفوقه علي الاتفاق اليوليوي , ورغم ذكاء صدقي الشخصي, فشل لأن الشعب لم يشترك في اتخاذ القرار. لكن لماذا قبل الشعب سنة 1954 ما هو أدني مما رفضه سنة 1950 ؟ لأننا كنا قد دخلنا في مرحلة عزل الشعب بالخطب والوصاية , مع التغطية العشوائية بالكذب والوعود ( الأمر الذي ما زلنا نعاني منه , ومن آثاره حتي الآن).
(5) حركة يوليو 1952: من الذي اتخذ القرار , ومن الذي تحمل المسئولية, ومن الذي دفع ثمن الانحراف, ومن الذي قبض ثمن الاستيلاء علي ثورة الشعب ليمسخها حركة مباركة , ثم ينحرف بها ثلة فوقية ؟ .
الشعب كان قد اتخذ قرار الثورة (لا الحركة) عبر سنوات طوال, حملها وهنا علي وهن, وحين قامت حركة يوليو تصور الناس أصحاب الثورة الحقيقيون أن هذه الطليعة وهي منهم, هي المتحدث بلسانهم, وحين بدأ الشعب يتصدي لتحمل مسئولية قراره (قرار الثورة لا الحركة) كان أغلب الذين قاموا بالحركة قد تذوقوا طعم السلطة , فأرسلوا له (للشعب) خطاب شكر يخبرونه فيه بالاستغناء عن مشاركته, ولم يدرك الذين أرسلوا الخطاب أنهم بذلك قد أبلغوا الناس ضمنا بأنهم لم يعودوا مسئولين عن مصيرهم, حتي لو دفعوا الثمن بلا تفسير.
يمكن الاستطراد بلا توقف ونحن نعدد القرار تلو القرار, ونتساءل عن الذي اتخذه, وعن مدي المشاركة, وعن المكسب والخسارة, لكن ذلك سيكون تكرارا آن الأوان أن ننتبه إلي عدم التمادي فيه.
لا أحد الآن يحتاج أن يتذكر التفرد العشوائي بالقرارات طوال نصف قرن , ومهما كانت بعض القرارات إيجابية, فالمحصلة ليست كذلك. ينطبق هذا علي قرار تأميم شركة قنال السويس , مثلما ينطبق علي قرارات تمرير إسرائيل – من وراء ظهر الناس – من مضايق تيران (1956) ثم إغلاقها ..ثم كارثة 1967 .إلخ إلخ
وحين جاء عهد السادات , لم يختلف السيناريو , وإن أصبح دمه أخف, وخطره أكبر, وكذبه ألمع, مع أن بعض خبطاته كانت خيرا وبركة, وحررت الأرض فعلا, رغم كل التشكيك الهزلي بسبب وجود خيالات المآتة المسماة بالقوات الدولية.
النتيجة الحتمية عبر خمسين سنة أن الناس انفصلوا عن الحكومة تماما , هذه حقيقة لا تثبتها فقط نسبة من ذهبوا لانتخابات مجلس الشوري مؤخرا, ولكنها تظهر في استهانة المعلنة والخفية بحقيقة ما يجري من حولنا وفينا, مع أن الناس, عامة الناس, هم الذين يدفعون الثمن طول الوقت.
الجيل الذي ولد ونشأ في ظل هذا الفراغ السياسي لا يعرف معني المشاركة الحقيقية, وبالتالي هو لا يعرف معني المسئولية الحقيقية. ومع ذلك فالناس هم الناس, وحاجتهم أن “يتوجهوا معا” لا تموت. (هذا هو معني السياسة !!).
الذي حدث أن الناس , والشباب خاصة, راحوا يتجمعون كيفما اتفق حول أهداف صغيرة ,أو غبية, أو هامشية, أو تشنجية, أو هروبية,أو جيدة جزئيا , كان أشد هذه التجمعات رعبا وإرعابا هم الجماعات الإرهابية, وكان أدلها ضياعا وعدمية هم عبدة الشيطان وجماعات الهلس واللواط.
ثم راح الناس, في حركتهم للتجمع معا, يخترعون لهم قيادات , وينتمون إلي ثلل , ويلمعون أبطالا, ويزيفون زعماء. وتنوعت تلك القيادات البديلة مرة وراء داعية حاضر البديهة طليق اللسان,( المرحوم الشيخ الشعراوي), ومرة وراء مغن جيد محلي أو مستورد , سواء كان عمرو دياب أو كاظم الساهر, ومرة وراء حشرجة سياسية اسمها شعبان عبد الرحيم..بل ومرة وراء وزير خارجية ذكي دغدغ المشاعر بأنفته في مواجهة غطرسة العدو, فتذكر الشعب شيئا اسمه الكرامة , فصار وزير خارجيته بطلا, وغنوا له.
كان من الطبيعي لشعب متدين بعمق تدين الشعب المصري, أن يأخذ المد الديني النصيب الأكبر من هذه البدائل, وفعلا قام الدين كبديل بدور طيب, إذا استبعدنا المغالاة وسوء استعمال للدين كوسيلة دعاية انتخابية, أو كغسيل مخ لتصنيع الشباب قذائفا للإرهاب .
إنه لا بد من الاعتراف بفضل تلك المحاولات التي حاولت تذكرة الناس بدور دينهم الإيجابي, من أول التفسير العلمي الذي سوقه صديقي ومولاي حسن النية د. مصطفي محمود, حتي الحصافة الجيولوجية المبالـغة في التأويل شبه العلمي التي يقدمها د. زغلول النجار, لكن لا مفر من وقفة أمام هذه الظاهرة (الدين كبديل عن السياسة) وخاصة بعد أن أخذت مؤخرا شكلا أكثر هدوءا, وأسرع انتشارا, وربما أطيب أثرا . هذا الشكل هو ما شاع مؤخرا في صورة اجتهادات شباب أبيض, التف حول داعية طيب في مثل سنهم, وهم يحاولون أن يجدوا في دينهم ما يملأ وعيهم , يحترمون به أنفسهم, ويتقربون به إلي ربهم, وكأن هذا هو الدين كل الدين, وكأنهم بذلك قد أعفوا أنفسهم من مسئولية مصيرهم بعد أن أعفاهم القادة من حق المشاركة في صنع مسارهم..
استمعت إلي ثلاثة أشرطة من أشرطة عمرو خالد, فرحت به, وسامحته علي كثير من تسطيحاته, ودعوت له أن يزيد الله من علمه ونفعه, كما فرحت بالشباب الذين التفوا حوله بدلا من التفافهم حول الجوزة أو حلقات ذكر الشيطان. ومع كل هذا, و بعد كل هذا, قفزت إلي ألف “لكن”, أضع بعضها في نهاية المقال هكذا
1 – الخوف أن يتصور مسئول إمكان إلهاء الشباب بهذا الدين الجميل الداعي للرحمة, والذكر, وحسن الدعاء عن حقهم في المشاركة ومسئوليتهم في الوجود.
2- الخطر الأهم أن تتصور الدولة أنها يمكن أن تروج لجرعة دينية بالقدر الذي يناسبها , للغرض الذي تضمره, هذا تصور خاطئ وخطير, وقد دفع المرحوم السادات حياته ثمنا لهذا الخطأ.
3- الخوف أيضا أن تحل الدعوة إلي حلاوة التدين ودماثة المعاملة, محل ما يدعو إليه الإيمان من زخم السعي إلي الحقيقة, وآلام الحيرة كدحا نحو وجه الله.
إن مثل هذا التوجه قد يختزل الدين إلي ديكور سلوكي “إتيكيت” تطمئن إليه الدولة, لكنه علي حساب الحقيقة والسعي الجاد إلي وجه الله.
( اعتراني خوف هامشي علي هذا الشاب الجميل المتحمس ذي الراء اللدغاء, خوف عليه من وفرة المال وإغراءات الإعـلام واستدراج السلطات. ليصبح أداة , وهو يدري, أو لا يدري, أداة لما لا يعلم. ربنا يستر)
4-الخوف أن تلتقط حركات التدين السياسي هذه الجموع الشابة لتصور لها أن أي حزب يعلن شعارات تتفق ظاهريا مع ما وصله من جمال ونقاء دينه هي تابعة له (لهذا الحزب) دون غيره, بمعني أنه وكيل توزيعها لمن ينتخب رجاله . (!!!)
5- الخوف أن ينسي الشباب , في نشوة الفخر بجمال أخلاقيات دينهم , المعاني الأكثر إيلاما, والإلزم جهادا. أين الانتفاضة في دروس هذا الشاب الجميل, وأين الاستشهاد وأين الحرية وأين الإبداع؟
إن هذا النوع من التدين الدمث – وهو نوع جيد جدا- قد يغني الشباب عن حقيقة التدين الكدح, والتدين الإبداع, والتدين الجهاد.
إن أي مخلص لهذا البلد , محب لهؤلاء الشباب, لا يمكن أن يرفض هذه الظاهرة مثلما انبرت لها “مجلة عريقة لست أدري ماذا جري لها, هي مجلة روزاليوسف , لكن أي مخلص لهذا البلد أكثر, ولهذا الشباب فعلا, وحتي المخلصون للحكومة, ومن الحكومة, لا بد أن يدركوا أن هذا الدين الدمث, ليس هو الحل, مع أننا في أشد الحاجة إليه.
بدون مشاركة حقيقية, لا مسئولية حقيقية.
وبدون مسئولية جماعية وراء قيادة تحسن الاستماع وتحترم الناس, لا تخطيط, و لا مستقبل
وبدون معاناة, وعدل وإنتاج وزراعة وتعليم وتصنيع وتصدير, لا شيء يعين , لا عمرو دياب, ولا عمرو خالد, ولا عمرو موسي.