نشرت فى جريدة الوطن
5/4/2001
المعركة جغرافية، لكن الصراع تاريخى
لا يجدر بنا أن نختزل النزاع بيننا وبين إسرائيل إلى معركة تحرير أرض من محتل غاصب، على الرغم من أنه كذلك، لكنه أيضا أبعد من ذلك، إنه استعمار من نوع الاستعمار الاستيطانى الذى يحل فيه المستعمر محل السكان الأصليين. وهو بذلك يمتد بطول التاريخ إلى مبدأ صراع البقاء ذاته. لمن يكون البقاء؟، للأقوى والأخبث فى حفظ ذاته ونوعه، أم للأنفع والأصلح لتعميرالكون كما يهدينا الإيمان بالله تعالى؟
كما لا يمكن أن نختزل القضية إلى نزاع يحتاج إلى مجرد تسوية أو صلح، حتى لو كان النزاع متعلقا بأولى القبلتين وثالث الحرمين، إن المسألة هى أخطر من ذلك بكثير.
إن من يقرأ التاريخ لا بد وأن يرعب من نجاح مثل هذه الإغارات التى تمت من الأقوى الدخيل، على الأضعف صاحب الأرض. إن تاريخ إغارة الأنجلوساكسونيين والأسبان (ومن حذا حذوهم من الأوربيين) على السكان الأصليين فى العالم الجديد(أمريكا)، وفى أستراليا، وإلى درجة أقل فى جنوب أفريقيا هو تاريخ منذر، وخطير، ولكنه لا ينبغى أن يبعث لا على اليأس ولا على التشاؤم.
ولكن إغارة الأقوى (بغض النظر عن زعم التمدين) على الهنود الحمر والقبائل الأسترالية شئ، وإغارة الأنجلوساكون المعاصرين، نتاج عصر الصناعة، وديمقراطية المال، وخيالات المعلومات، على أمة لها حضارتها، وتاريخها، ولغتها، وإنجازاتها، شيء آخر. نحن - العرب والمسلمين- لسنا قبائل بدائية ننتظر من يدعى الإسهام فى الأخذ بيدنا نحو التمدن. ثم إننا لا نستسلم بسهولة كما يحسبون، حتى الإغارة فى الجزائر التى استمرت حوالى ثلاثة قرون، لم تنجح لأنها لم تكن إغارة على قبائل بدائية، عجزت أن تـفرنس الجزائر(تجعلها فرنسية) وإن أعاقت مسيرتها، وخلخلت وحدتها، وما زالت الجزائر تعانى من هذا وذاك، إلا أنها تواصل المسيرة نحو استعادة لغتها العربية كاملة غير منقوصة، وأيضا استرجاع قيمها الحضارية والإيمانية مهما بلغت التضحيات.
من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى إسرائيل كنقطة على مسار التاريخ، جنبا إلى جنب مع اعتبارها مساحة مقحمة على خريطة جغرافية المنطقة.
نضع جانبا صك العبارات المألوفة عن الاستعمار، والإمبريالية، واستغلال الموارد الطبيعية، والاستيلاء على العوائد الجاهزة، و مع أن كل هذا وارد فإنه ا لا يفسر ذلك التأييد الغبى المطلق من الولايات المتحدة، ولا حتى هو يفسر ذلك الموقف المائع من جانب دول غرب أوربا، ناهيك عن الموقف الخبيث اللزج من جانب روسيا وذيولها. بعد كل هذا الكشف وتلك التعربة، عبر كل منافذ الإعلام فى العالم لما تقوم به إسرائيل من قتل، وتجويع وتشريد، وصل الأمر إلى أن يصرح ممثل الدول الأوربية بأن الموقف “غامض” فى الشرق الأوسط. أى غموض هذا الذى يشير إليه هذا السيد المثقف المتمدن ؟ فليسأل طفله ذا الخمس سنوات، وسوف يخطره - من واقع ما لاحظ فى أى إرسال - من هو المعتدى، ومن هو المعتدى عليه، بل بشكل أكثر بساطة، من هو القاتل، ومن هو القتيل.
هذا التصريح كان له وقع عندى أخطر من استعمال أمريكا لحق النقض (الفيتو) فى مواجهة مجرد إرسال لجنة للتقصى أو المتابعة ناهيك عن احتمال حماية الأبرياء.
هذا على المستوى الرسمى، أما على المستوى الشعبى، فإن موقف الأفراد العاديين (الشارع - الرأى العام) فى هذه البلاد الأنجلوساكونية من جهة، والشمالية المادية من جهة أخرى، هو هو نفس موقف حكوماتها. (إلا قلة نادرة شريفة لا تقدم ولا تؤخر فى اتخاذ القرار). ما هو تفسير كل ذلك؟
إن الزعم بأن الإعلام الإسرائيلى قد نجح فى غسيل مخ كل هذه الحكومات، وكل هذه الشعوب، حتى صدقوا ما لا يصدق، إذ يعتبرون القاتل مجرد ضحية لحجر طائش، هو زعم لا يصدق. إن الإعلام لا يمكن أن يغير معتقد شخص له موقف شريف، وحس نقى، وفطرة سليمة، مهما قدم هذا الإعلام من وثائق مزيفة، وصور مفبركة، وأصوات عالية. إن الإعلام لا يسرى بهذه السرعة وهو يحمل كل هذه البلاهة، إلا إذا كان وراء هذه البلاهة استعدادا ثقافيا وأيديولوجيا عند المتلقى حتى يستقبل الخرافة وكأنها الحقيقة.
نحن نتحدث كثيرا وطويلا عن الصراع الحضارى. هو ليس مجرد صراع للاستيلاء على المواد الخام، فالأسواق، والمعلومات فسيادة العالم والرفاهية على حساب الغير، لكنه صراع له أعماق أيديولوجية ودينية وتاريخية غائرة الجذور. كنت دائما أتصور، وأكتب، أن ثمة فروقا جوهرية بيننا وبينهم، لكننى كنت دائما أخشى من الاتهام بالتفكير التآمرى المزعوم، حتى قرأت مؤخرا ذلك العمل الموثق فى كتاب صدر حديثا باسم “المسيح اليهودى، ونهاية العالم” تأليف رضا هلال، فإذا بى أطمئن نسبيا أننى لست تآمريا جدا، وأن إسرائيل إنما تمثل فترة تاريخية شديدة الدلالة، فهى تجسيد لتراكم تاريخى يمثل أيديولويجية أسطورية تستعمل الألفاظ التى آلت إليها كتب الدين اليهودى المقدسة لتخدم بها مخططا خياليا ذاهلا تماما عن طبيعة التطور، وفطرة الله التى فطر الناس عليها، هو مخطط العنصرية الصهيونية، التى حلت محل الديانات الحقيقية، وتبنتها كل القوى المضادة للفطرة، والعمق الوجودى الإنسانى الطبيعى كما خلقه الله. وما إسرائيل إلا الرمز المادى الممتد تاريخا عبر أربعين قرنا، وقد تجسد أخيرا فى هذه البقعة من الأرض. إننا نكسب معركتنا لصالح الخير والفطرة المؤمنة إذا نجحنا أن نمثل البديل القادر، والقابل للبقاء أطول، لأنه أكثر اتساقا مع الفطرة، وأكثرنفعا للناس، كل الناس. لا ينبغى أن يشغلنا الموقف الجغرافى عن العمق التاريخى، والمسؤولية الإنسانية الممتدة. إن المعركة هى تاريخية، بقدر ما هى جغرافية تحريرية، ولكن ليس معنى ذلك أن نؤجل أو ننتظر، أو نسترخى. إما البداية الآن ودائما، وإما فنحن لسنا أهلا لها.