الاهرام 7-10-2002
المستضعفون يتراسلون إلكترونيا !!!
العالم يعاد تنظيمه، رضينا أم لم نزض، وعينا بذلك أم أنكرناه، وهو لا يعاد تنظيمه حسب مشيئة السادة فى البيت الأبيض أو البيت الأحمر فحسب، بل هو يعاد تنظيمه حسب قوانين التطور التى وضعها الله سبحانه فى الكون والإنسان على حد سواء، هذه القوانين ليست مطلقة أو دائمة إلا من حيث المبدأ. هى متغيرة ومتطورة ما تغيرت اللغة والتفاصيل والمرحلة التاريخية.
العالم يعاد تشكيلة من أسفل ومن أعلى، المنتصر ليس هو الأضخم تسليحا أو الأوفر مالا. المنتصر هو الأطول نفسا، والأكثر مثابرة، والأنفع تعميرا، والأعمق نبضا. المنتصر هو الجميل الذى لا ينتصر لنفسه دون خصمه، إنه ينتصر لنا جميعا.
الحكاية أن الإنسان المعاصر بكل وعيه وإنجازاته يعيش حاليا فى مفترق طرق حرج. صحيح أنه مرت به مثل هذه الخبرات واجتازها بنجاح رائع مرات ومرات، إلا أن هذه المرة تبدو أصعب لأنها تشمل كل الدنيا، ولأن الناس تعيشها بوعى أوضح.
الإنسان الآن يحصل على المعرفة بأسرع وأشمل مما مر به طوال تاريخه، لكن هذه المعرفة ذاتها، وبهذه السرعة هى هى التى تهدد بقاءه واستمراره.
فى مقدمة ترجمته لكتاب فوكوياما الجديد عن نهاية الإنسان يقتبس د. أحمد مستجير من كل رجال الملك لروبرت دراين، ما يلى… إنه (الإنسان) لا يستطيع أن يعرف إذا كانت المعرفة ستنقذه أم أنها ستقتلة، سيقتل، نعم، لكنه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كان قد قتل بسبب المعرفة التى اكتسبها أم بسبب المعرفة التى لم يكتسبها، والتى كانت لتنقذه لو أنه عرفها’.
فى نفس الوقت يحذرنا د. نبيل على من ‘عنف المعلومات وإرهابها'(مجلة العربي-الكويتية-سبتمبر 2002) من أول احتلال الفضاء المعرفى وطغيان أجهزة الأعلام، حتى العصف بالعقول والتجويع المعرفى، والقمع الأيديولوجى. نفس الصديق، د. نبيل على، كان قد نبهنا فى كتابه الباكر عن’العرب وعصر المعلومات’ إلى أنه قد’آن أوان الفزع’ إذا استمر تخلفنا المعلوماتى هكذا.
إن فزعا أكبر يلاحقنا الآن من خلال ما أسماه إرهاب المعلومات، وهو يشير به إلى القوى الرمزية اللينه التى تعتبر أخطر وأذكى من الإرهاب بالقوى الصـلدة (الإرهاب التقليدي). إن القوى الإرهابية المعلوماتية اللينة تعمل بالجذب لا بالضغط، بالسرقة الخفية لا بالنهب العلنى، بالترغيب لا بالترهيب.
برغم كل ذلك فإن نفس الأدوات ونفس المعارف تتجمع بين أيدى البشر العاديين لتواجه كل هذه الانحرافات المهددة، إن الذى يجرى فى العالم على اتساعه هو أن الأغلبية الأضعف راحت تتجمع، ربما دون قصد، تبعا لقانون ‘التنظيم الذاتي’ الذى يؤكد أنه يوجد ‘اتجاه تلقائى لبزوغ ترابط بين الأجزاء المتناثرة بالصدفة’, من أول واحدات البكتيريا وهى تنشط فى الانقسام حتى تتمكن من الانتظام فى معسكرات Colonics، حتى الأبخرة المتناثرة التى تلتقى لتصنع السحب البديعة الشكل، المبدعة الأنهار فالحياة (د. محمد رؤوف حامد، مجلة سطور أكتوبر 2002).
إن كل الناس الحريصين على بقاء جنسهم (حتى دون وعى صريح) راحوا يتحسسون سبيلهم متجاوزين وصاية شركات الإعلام، وترهيب تجار السلاح، ورشاوى سماسرة الإعلام. إن أدوات المعرفة لم تعد حكرا لأحد مهما بلغ عنفوانه. إن عامة الناس راحوا يستزيدون كل يوم من امتلاك نفس أدوات المعرفة والتواصل التى تتيح لهم أن يتجمعوا لخيرهم. نحن لسنا أعجز من تنظيمات البكتيريا، وأبخرة السحب.
إن المحاولات الفردية والجماعية، بعد أن امتلكت هذه الأدوات، تبدو وكأنها تتبع نفس قوانين التطور التى حافظت على كل الأحياء الباقية حتى الآن. يتجلى ذلك فى تزايد أعداد ملايين صناديق البريد الالكترونية، وعشرات (وربما مئات) الآلاف من المواقع الخاصة. يبدو أن الناس، خوفا من التهديد بالانقراض، تتجمع لتخليق نوع أفضل من البشر، متجاوزين الهندسة الوراثية التى قد تصنع إنسانا آخر ‘للأثرياء فقط’؟
صحيح أنه يغلب حاليا على الاستعمال الظاهر لهذه الأدوات من البريد والمواضع الخاصة ما هو سلبى من خلال طغيان الدردشة والتفاهة وإضاعة الوقت، لكنه صحيح أيضا أن إمكانية تراكم الإبداعات الفردية العبقرية فالجماعية تحاول إرساء معالم قوانين جديدة، وأخلاق جديدة، وحريات جديدة لإنسان جديد.
إن نفس الأدوات المتعملقة التى تهدد الجنس البشرى هى هى التى يمكن أن تنقذه. إن نفس المعرفة الخطرة التى قد تحتل وعيه كله على حساب تاريخه وبقية أعماق وجوده، هى هى المعرفة التى يمكن أن تساهم فى إعادة تنسيق مستويات وجوده.
ثمة علامة أخرى لقدرة الإنسان العادى على مواجهة الإغارة السلطوية المعلوماتية بوجه خاص: إن ما يقوم به فريق شريف محدود من جماعة ‘الهاكرز’ يمكن أن يذكرنا بأرسين لوبين الذى كان يسرق الأغنياء لصالح الفقراء. إن لص المعلومات الشريف ربما يرسل رسالة تقول: إن الفرد العادى الذكى يمكنه أن يخترق كل الحصون، ويحل كل الشفرات، حتى وهو فقير وحيد، إننا نأمل- حذرين ـ أن نستلهم من هذه المهارة ما هو إيجابى أخلاقى بناء دون تخريب أو عبث.
إننا نعيش عصرا من جديدا من مواجهة القرصنة الرسمية، بضد القرصنة الشعبية، من مواجهة ‘موبى ديك’ السلطات بذكاء’على الزيبق المصري'(المعلوماتي).
لم يعد الإنسان الفرد العادى عاجزا عن أن يحلم بما يشبه النبوة المسئولة، وهو يبلغ كلمته إلى كل أنواع جنسه، قلت ‘يحلم’, وهل الحلم إلا واقع آخر؟.