نشرت فى الأهرام
7-3-2005
المستحيلات الثلاثة
أسمح لنفسى بسهولة ألا أفهم ما لا أفهمه، وأجد فى ذلك أملا فى حقيقةٍ أصدق، بديلا عن الوصول إلى إجابات جاهزة خائبة أو زائفة. هذا الانتظار المثابـِر يجعلنى لا أنسى القضايا المعلقة من أول قتل الرئيس ج. ف. كنيدى حتى اغتيال رفيق الحريرى، مرورا باختفاء موسى الصدر. اعتراف بن لادن الخائب عن مسئوليته المزعومة عن أحداث 11 سبتمر أضعه بين قوسين وأنا أتذكر أساتذتى القضاة يعلموننى أن :”الاعتراف ليس بالضرورة سيد الأدلة”. اعتبرت اعتراف بن لادن مثل اعتراف جماعة الكلمات المتقاطعة: “الجهاد” “النصرة” “بلاد” “الشام”!!
حين يزداد عدم فهمى أحاول التعويض بأن أتقمص أطراف الحدث. أحيانا أتقمص القاتل والقتيل بالتبادل. حاولت مثل ذلك فيما نشر فى أهرامٍ أول مارس: مقتل 150 مدنيا وإصابة 200 فى مجزرة بالحلة، كان عشرات العراقيين يصطفون للحصول على شهادات طبية للتقدم لشغل وظائف حكومية، وقفتُ فى الطابور، وفى يدى الأوراق وأنا خائف أن تكون ناقصة. أتذكر أمى العجوز وابنتى الصغيرة وأمها. سوف يسألوننى عند العودة عن الشهادة، فالوظيفة التى قد تسمح لهم ببعض الخبز، وربما لبن الطفلة ودواء الأم. فجأة أتطاير متمزقا فى كل اتجاه أنا ومن مات معى، ألملمنى وأنا أحمد الموت الذى أعفانى من ألم نزع الأشلاء. أسمع تأوهات المصابين وأطرافهم تتطاير حولى دونهم. أطنان المفرقعات القاتلة لم تهبط من السماء من طائرات العدو الذكية وإنما تفجرت من جوف أرضنا نحن، بفعلنا نحن. أنظر فى حطام السيارة فإذا بعض بقايا كتل شاب غض، معجونة فى دماء أشلائه، أجمعها فأسألها: هل تعتقد أنها سوف تتجمع فى الجنة؟ من قال له هذا؟ كيف اقتنع؟ لا تردْ. حين كانت وفاء إدريس تفجر نفسها فى محتلى أرضنا كنت أعجز أن أتقمصها لأننى أشعر أننى أقل شرفا من تضحيتهاْ. لا يوجد دين عبر التاريخ ولا على ظهر الأرض يعد هذا الشاب بالجنة على فعلته تلك. قد نعرف قاتل كنيدى أو الحريرى يوما، وقد نقبض مقابل دم وفاء الطاهر سلاما أو أرضا أو شرفا أو حضارة. أمّا دوافع هذا الشاب واحتمالات الإفادة من فعلته فهى أبعد عن الفهم والتقمص جميعا.
لا تتوقف قدرات تقمصى عند القاتل والقتيل، فأتمادى لأتقمص الأعداء: أتقمص الشامتين الفرحين بما نفعل فى بعضنا البعض وهم يبررون لأنفسهم تماديهم فى القتل والإبادة. أتقمص الانتهازيين وهم يتاجرون فى أنقاض البشر وأحلامهم وآلامهم معا، فلا أفهم. لكن يظل تقمص هذا الشاب الذى قتلنا دون أعدائنا هو المستحيل الأول.
يقفز المستحيل الثانى ليعدل الكفة فى محاولة الحيلولة دون اليأس نتيجة ما يجرى هكذا، يقفز ليقول: إنه من المحال أن يستمر مثل هذا العبث على الجانبين أكثر من ذلك، لأن عمره الافتراضى قد انتهى. إنه ضد قوانين البقاء، إلا إذا كان النوع البشرى فى سبيله للانقراض.
أما المستحيل الثالث(أو الذى كان مستحيلا) فهو أكثر إشراقا و أقدر وعودا بدأت تتحقق، ذلك أن المتابع لإنجازات البشر الإيجابية عبر العالم سوف يرى أن ثم علم جديد يقفز فوق العلم المؤسساتى والعلم التقليدى، علم “قليل التكلفة” يقوم به الشخص العادى (سبع تجارب قد تغير وجه العالم: روبرت شلدرايك)، كما أنه سوف يصله كيف أن مناهج وأدوات المعرفة فى طريقها للتكامل: تكنولوجيا المعلومات مع الفن والفلسفة، الذاتى مع الموضوعى، الخيال مع الواقع، البيولوجيا مع اللغة ( د. نبيل على: تكنولوجيا المعلومات وتطور العلم).
هكذا يواجه الإنسان الرائع القادر كل سلبيات العبث والدمار وهو يتحدى الانقراض.