الوفد: 21-5-1987
المسئولية السياسية .. أمام قضاء الله (الموت !)
حين يختفى من أمامنا هكذا من يمثل قيمة نادرة متميزة، مثل الفقيد وحيد رأفت، فلا بد أن نقف خاشعين 0 بعد الم الفقد – أمام عظة الموت، ونحن نتسلم الأمانة فى وعى فائق ومسئولية مضاعفة .
فليس لهذا العصر أسى يعصر، أو حزن يغمر، ولا تفيد فيه دعوة للصبر أو تعداد للمناقب، وقد تمسخه مجاملة عابرة أو زائفة، ليس هذا كله مناسبا للموقف الذى أتصور انه اكبر، واعمق، وأدل، لأن علينا أن نتلقى الموت فى الحياة السياسية بمسئولية خاصة، وتحد حافز .
فالقيمة التى كان يمثلها سياسى فريد بحجم، ومعنى، وحيد رأفت، لا تموت بموته. ولا ينبغى أن تقف عند حدود فرده، اذ هو – بما هو سياسى – قد وضع نفسه فى بؤرة المسئولية لا بصفته الشخصية وميزاته الخاصة، وانما بالتزامه وانتمائه ومشاركته، العامة وبألفاظ أخرى: ان مثل هؤلاء الناس لا يشتغلون بالسياسة لتزجية الوقت أو على سبيل الهواية، ولا حتى للوصول الى الحكم الذى تقف دونه – حتى الآن – كل هذه الخنادق والألغام، لكنه – بما هو كذلك – علامة فى اتجاه وموقف ذو دلالة، وقيمة تبقى بعد صاحبها لا محالة .
وأعتقد ان خير عزاء لحزب الوفد وللأمة المصرية لا يكون الا بالعمل انطلاقا مما ترك، وتجاوزاله السياسة والموت
لكن للحكاية بداية:
فقد اهتزت قيمة الموت – حتى قيمة الموت – فيما اهتز من قيم، ويرجع بعض ذلك الى ما أصاب الإنسان المعاصر عامة من غفلة واغتراب، وكفر، وبلاهة لا حضارية، وبدلا من أن يكون الوعى بالموت هو واعظ الإنسان وباعث حضارته ودافع امتداده فى الآخرين، أصبحنا نعيش منكرين هذه الحقيقة، أو مندفعين الى عكسها الزائف، حتى نسينا وانسينا ان كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ..
أما اننا انسينا فهذا من رحمة ربنا الا قليلا ..
أما اننا انسينا فإن بعض هذا قد تم – سياسيا – من واقع ما مر بنا فى الثلث قرن الأخير ..
واليك كيف كان ذلك:
1- فمنذ امتحننا الزمن بحكم الفرد الأوحد، راح هذا الأوحد يصور لنا هو ومن اليه انه خالد لامحالة (!!) اليس هو العارف بكل شئ المسئول عن كل شئ، الواهب لكل شئ، المانع لكل شئ المسئول عن كل شئ ؟ ورغم الإعتراف بحسن النية فى بداية البداية وبعض عمى الإخلاص حتى النهاية، الا ان المحصلة الغابة كانت تؤكد ان التمادى فى الغرور واجب لتأكيد الخلود، فراح عبدالناصر يبنى مئذنة بلا مسجد (جلال صاحب الجلالة – حرافيش نجيب محفوظ) ورحنا نصلى وراءه بلا قبلة، ورويدا رويدا جرت على السنتنا أقوال مخجلة مهينة، تدور جميعها فى اطار لعبة نعم .. ولكن
نعم هو يخطئ ولكن من عندنا غيره ؟
نعم، هو دكتاتور … ولكن .. ماذا نفعل بدونه ؟
وهكذا، ونكذا، وكان الدولة قد عقمت من قبله، ومن بعده وظل هذا نتكرر حتى فى أحلك الأوقات، حتى فى الأوقات التى كان ينبغى ان تعلق فيه المشانق تخلصنا من بعض علامات عارنا (1967) لكننا تعودنا فرحنا نواصل:
نعم هو الذى هببها .. ولكن .. فليستمر لأنه وحده الذى يعرف كيف يزيل السخام الذى لطش به وجوهنا (1967) .
ويستمر خاحبنا، ولا يزول السخام حتى يدركه الموت وتتجسد الفضيحة فى كم التعبير عن الفجيعة بفقده، وما ظهرت بهذا الحجم الا لأننا اعتمدنا عليه اعتماد المتخلف عقليا على حاضنته، وبدلا من أن يصبح موته دفعا للتمسك ببعض ايجابيات مرحلته بعد غيابه، انقلب هذا الموت حفزا للبحث عن فرعون بديل، وهكذا انقلبت حكمة الموت الى جوع للرضاع .
2- وخلف من بعده خلف يغلفه تواضع بشرى بعضه حقيقى، وبعضه تكتيك وقتى، وبعضه فزع من تكرار فشل مخز، ذلك أن المرحوم السادات حين تولى الأمر بدا – لنفسه ولنا – انه أقرب الى البشر وبالتالى بدا أنه أققرب الى الموت الطيب مثله مثل البشر، فكانت مشاريع دولة للمؤسسات، ومدة واحدة للرئسة الا انه رويدا رويدا تفتق عن فرد متميز، يحكم بحسن النية، واندفاعه الآمل، وجسارة الألم لكن ذلك يتم فى أرضية منالمزاج المتقلب، والإستلهام الغامض، والإخلاص المفاجئ !!
فهوم، واستوحى، وبادر، واستخار، وصوب، وقرر ..
وبدلا من أن ندرك قبل فوات الأوان خطورة الإنجازات الفردية التى لابد – بعد الإعتراف بفضل تعضها – ان نرعب من طبيعتها، لأنها مرة تصيب، ومرة تخيب بدلا من ذلك، رحنا نستلهم لمساته لنصيغ حياتنا تبعا لإلهامه – ودون انكار فضله، فإن الموت جاء هذه المرة قتلا [بل انتحارا] – وكانت ميتة شجاعة شريفة وجاء تفاعل الناس إزاءها أرقى وأكرم [اللهم لال بالنسبة لمن عايره بمقتله، لا بأخطائه ]، فتوقف امام هذا الموت الأرقى، والتفاعل الأنضج، فنتبين اننا – رغم كل شئ – انما نخطو خطوة جديدة نحوالمشاركة ومزيد من التواضع البشرئ ..
3- ويتولى الرئيس مبارك، فنتحرك فى مساحة أوسع مع من هو أكثر قربا من الشخص العادى، حتى تبدو عيوب رئيسنا الحالى – من عمق بذاته – هى مميزات بشرية تماما بكل مالها وماعليها فتحرك الناس فى كل اتجاه، وعادوا يقرأون تاريخ البشر الطيبين، بعد اكتشاف زيف الآلهة، رغم عطائهم، وكان من رحمة ربنا ان ظهر بعض التاريخ على المسرح السياسى شخوصا احياء، تتحرك، وتتحزب، وتفكر، وتفتى، من أمثال فقيدنا وحيد رأفت، أو عبدالفتاح حسن، أو عمر التلمسانى، أو ابراهيم شكرى .. الخ الخ، فراح الشباب يرى بشرا حقيقيين تؤكد اعمارهم انهم كانوا هناك قبل ناصر و السادات وأنهم هاهم اولاء: بعد ناصر والسادات وتعجب الشباب وهو يسمع ويرى منطقا متماسكا، وقولا رصينا، ورؤية منظمة، ووعيا مسئولا .
لكن عجلة الزمن تدور، ولا رلد لقضاء الله، فراح الموت يخطف الواحد تلو الآخر، لنعود نقف أمامه (امام الموت) من المنطلق الطبيعى بلا فجيعة الطفل، ولا شماتة الوغد .
قيمة الموت الحضارية: سياسيا
ومن هذا المنطلق فان موت زعيم انسان لابد وان يعود ليوقظ فينا وعيا حضاريا جادا، فننظر فى معنى وحيد رأفت (مثلا) وما يمثله من قيمة وليس فى هوية وحيد رأفت فردا واحدا مهما بلغت عظمته فهو ليس الا لحظة خاطفة – طيبة – من زمن يمضى فموت الناس القيمة هو احياء للقيمة رغم اختفاء رمزها البشرى المؤقت، وواجبنا الحضارى والسياسى هو ان نواصل احياء هذه القيمة بمفاهيم متجددة من منطلق ابداعى متجاوز حتما .
أما موت الناس الآلهة، فهو كشف خدعة، وصرخة فجيعة وانتهاء ما يمثلونه بإنتهائهم، ثم ترنح لا يعلم أحد مساره .
والآن
فالمطلوب لإستمرار مسيرتنا الحضارية ان نستعيد قيمة الموت كحافز وواعظ وان نقبل فى مجال السياسة خاصة، ان يكون موقفنا من هذا التحدى الشريف ( الموت) هو موقف: المسئولية لا التسليم، هو موقف حمل الأمانة لا الوقوف على الأطلال .
وبعد
فلابد من ملاحظة، فقد استغرق كل من الوفد والإخوان ومصر الفتاة .. الخ فى التأكيد على أصالة تاريخنا من قبل ومن بعد يوليو المجيد وكان ذلك لا زما بعد ان شوه الثوار تاريخ الناس (!!) الا اننى أرى ان هذا النذير المتكرر [ موت شيوخنا الرواد ] انما يلفت انظارنا الى اننا ينبغى ان نتجه الى صناعة التاريخ بدلا من روايته، والى توليد الرجال بدلا من اتباعهم ولن يطمئن لى بال حتى أجمع متوسط أعمار الأقلام والمفكرين والساسة المعارضين خاصة، فأجدها تتراجع عن السبعينات الى الستينات الى مادون ذلك باطراد تنازلى، ولا اتصور ان روح وحيد رأفت ومن مثله سوف تستقر الا اذا أكرمنا، بثورة: منه وعليه، واليه، وبهذا فقط نحافظ على القيمة التى يمثلها فلا يموت أبدا .
هذا بالنسبة للمعارضة .
أما بالنسبة للحكومة، فأنى أخشى أنه لاموت واعظ ولا فشل موقظ ومع ذلك فلابد من أمل فى صحوة امام حتم الزمن ومرور الأيام قل ان الموت الذى تفرون منه فانه ملا قيكم ..
فما دامت الحياة نفسها فالسلطة – ياسادتى الكرام. والله العظيم ثلاثا – لا تدوم ..
فهل من مدكر؟