نشرة “الإنسان والتطور”
8-11-2011
السنة الخامسة
العدد: 1530
نص ونقد
مقدمة:
هذه القصة هى من المجموعة التى كتبتها ابنتى “نهى فتحى” ضمن مجموعتها “فى طريقى إليك” والتى قبلها المجلس الأعلى للثقافة للنشر ضمن مشروعه “العمل الأول” والتى أقوم بكتابة مقدمة لها ، ألحقتها بملحق نقدى.
وهى من أجمل قصص المجموعة، إلا أن ما دعانى لننشرها هنا اليوم هو دهشتى البالغة لتقديم العلاقات البشرية من هذا المنظور بهذا الإبداع(1)
وغدًا أنشر نقد هذه القصة تفسيرا لذلك.
* * *
المتن (القصة):
بريشة: نهى فتحى
صورة
صورة معلقة على الحائط. كلما مر بجانبها شعر كأنه ينظر فى المرآة.
ليست صورته ولا هى لأبيه أو جده وانما هى لفلاح يعزق بهمة أرضا بورا يلوح فى أفقها بداية إخضرار.
أحنين إلى سنوات الطفولة التى كان يزور فيها قرية أبيه ويمرح وسط الزراعات والبط والحمام؟
لا ليس حنينا. الكلمة تهرب من لسانه وإن كانت تملأ عقله وخياله.
رجل وسيم هو. وهو يعلم ذلك تماما ومنذ زمن بعيد. منذ قرصته صديقة والدته فى خده وقالت بضحكة وغمزة عين “ابنك حليوة يا عفاف”.
اعتاد بعد ذلك أن يسمع من الفتيات اللاتى صاحبهن أنه فى عينيه سحر آسر، وأيقن ذلك واختبره بنفسه عدة مرات كلما استسلمت له صديقة راضية مرضية.
طفولة سعيدة عاشها لم ينغصها عليه سوى وفاة صديقه حسين وعمرهما 13 سنة. أحس كأنما خطفت منه الدنيا نتاج 11 سنة من حياته، بذر خلالها فى صداقته لحسين كل ما لديه من مشاعر صدق وأمان وود وتفاهم وعندما بدأت الزهرة تتفتح ليجنى ثمرتها قطفها الموت وتركه باحثا عن ونيس لم يعثر عليه أبدا.
أمضى سنوات يلعب كرة القدم ويحلم بأن يراه محمود الخطيب ويأخذه إلى ملاعب الأهلى، وعندما كاد حلمه أن يتحقق قرر فجأة أن يتوقف عن اللعب ويجتهد فى دراسة الهندسة.
انبهر بقدرة المهندسين على البناء والإبتكار. ولع بفكرة أن أرضا خالية فى صحراء مدينة نصر يمكن أن تتحول إلى بناية جميلة يتردد بين جدرانها أنفاس وأصوات وأحلام وبكاء وضحك ومجون.
ذاكر دروسه بعشق ومارس عمله بوجد وهيام فكانت بناياته تحفا رائعة وأصبح اسمه مرادفا للإبداع.
ولأن خلق الجمال يحتاج الكثير من المال، فلم يكن له حظا كبيرا فى سوق المقاولات المصرى. ولم يكن يلجأ إليه إلا القليل من العملاء الذين يقدرون الفرق بين بناء يشبه علب الكبريت المتراصة وآخر يعانق الخيال ويمتع العين.
وبعد سنوات من التخرج اتخذ قرارا بأن إيمان ستكون زوجته وصديق المرحلة الآتية. ولأنه كان قرارا منفردا فإن وضعه فى حيز التنفيذ استعصى عليه. فإيمان وإن أتقنت دور الزوجة الفاضلة والأم الحانية بل والعشيقة المدربة إلا أنها لم تعرف أبدا كيف تكون خليلة العقل والروح. وعندما تسائل مرة أمامها عن حقيقة وجود الله، نظرت إليه ببلادة وأشاحت بوجهها، فغاص فى قلبه حجر ثقيل لم يرفع أبدا.
أحب ابنه أحمد بشدة وإن فتنته ابتسامة آلاء، لاحظ دائما فى عيونهما بعضا من روحه مع أنه لم يتدخل يوما فى تربيتهما.
وعندما شبت آلاء عن الطوق فرح بتساؤلاتها العميقة والساذجة. وأدمن النقاش معها حتى لو تعاركا بسبب أغنية أو مقال. ويوم خاصمها بسبب إصرارها على رفض سماع “أغدا ألقاك” لأم كلثوم كان أكثر أيامه وحدة وتوق.
اقترب من عقلها وقلبها واحتضن روحها داخله لدرجة جعلت قلبه ينخلع يوم زفافها، وإن وقف وضحك وقابل المدعوين وودعهم بإبتساماته العريضة إلا أنه شعر بجسده خاو من الداخل حتى كاد يسمع صدى أنفاسه بداخله.
أحمد تولى المكتب الهندسى، ولأنه كان أقل إبداعا وأكثر ذكاء فقد حوله سريعا إلى واحدة من أكبر شركات المقاولات فى مصر. كاد يرفض ابنه ويكرهه لولا ضحكه أحفاده وشقاوتهم وكلمة جدو التى أصبح حريصا أن يسمعها كل يوم ولو بالتليفون.
آلاء حبيبته لم يرزقها الله بأولاد بعد. وفى غمار القلق والبحث عن العلاج وتحت سيف الخوف من أن يتركها زوجها لو ثبت أنها لن تلد فقدت يوما بعد يوم قدرتها على الدهشة والتساؤل وتاهت عنه ولم يعد يجدها وهى جالسة أمامه.
واليوم ككل يوم مر أمام صورة الفلاح المنهمك بفأسه على الأرض، وتساءل أخيرا هل سيأتى اليوم الذى يملأ أرض ذلك الفلاح اللون الأخضر.
* * *
أسئلة :
- هل لاحظت خلو متن القصة من أى فلاح مشارك إلا فى الصورة؟
- هل لاحظت دقة استعمال كلمتى صداقة وحنين؟
وغدًا نلتقى.
[1] – رحلت “نهى” عنا منذ أسبوعين، فلحقت بكثير من شخوص هذه المجموعة، قبل أن تقرأ النقد،
وسوف أرسل لها نسخة بطريقتى.
عذرا يا نهى