نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 17-6-2015
السنة الثامنة
العدد: 2847
“اللعب فى الوعى” وأسلحة الانقراض الكامل (1 من2)(1)
هل يمكن فهم ما يجرى فى العالم، بما فى ذلك تسوناميات الربيع العربية دون الإحاطة بكل المخاطر المحيطة بالعالم أجمع، هذه الأيام خاصة، ومنذ بضعة عقود؟
فى بداية كتاب “خدعة التكنولوجيا”، ينبه المؤلف “جاك إيلول” إلى أن “لعبة الحقيقة تنطوى على مخاطر، كما أن لعبة الديمقراطية تنطوى على مخاطر وكذلك لعبة الثورة، كما أن تأدية هذه الألعاب مجتمعة تنطوى على مخاطر”.
إن ما يتعرض له الوعى البشرى كله خاصة فى الثلاث عقود الأخيرة من خلال الإعلام خاصة أصبح لعبة من أخطر ما تعرضت لها البشرية عبر تاريخها. وأخطر آليات التمادى فى ذلك هو أن تملك القوة المسئولة عن هذا الخطر كل أسلحة الانقراض الشامل، تبثها، وتروج لها، وتستعملها لأغراضها الخاصة، وهى لا تدرك مخاطرها التدهورية على مستوى العالم دون استثناء من يستعملها.
المسألة تتعلق بخطأ تطورى جارٍ يهدد الجنس البشرى برمته، وقد استطاع بعضنا بفضل ما تميزنا (وامتُحنّا) به من “وعى”أن ندرك طبيعة وحجم وسرعة هذا الخطر، ونحاول تجنبه، لكن المصيبة أن نفس هذا الوعى الذى يمكن أن ينقذنا من خطر الانقراض هو ما يتعرض الآن للبرمجة المغرضة، والتشويه المنظم بألعاب الإعلام، وتفاهة التربية، وسوء التديّن، وتسويق ديمقراطية مغشوشة، وحقوق إنسان مضروبة.
الوعى هو غير العقل، واللعب فى الوعى أخطر من غسيل المخ، الوعى هو غير التفكير وغير الذكاء وغير الإدراك وإن شملها جميعها. الوعى البشرى، بما صار إليه، وما تمكن منه، هو الذى جعل أغلب ما كان يتم عند أسلافنا الحيوانات بطريقة آلية لحفظ البقاء، يجرى عند الإنسان وهو خاضع للمراجعة والتخطيط والتعديل، أغلب الناس يفضلون الحديث عن عقل الإنسان وإنجازاته كأهم علامات ما وصل إليه من تطور، حتى أنهم اختزلوا الإنسان إلى ما يسمى “الحيوان العاقل”…، إن من أهم ما يميز الإنسان، بعد رحلته الرائعة حتى الآن، هو أن وعيه قد تطور حتى صار منظما بهيراركية بالغة الدقة متشعبة الإحاطة، حين تصورنا أن نشاط العقل الظاهر هو العامل الأرقى جدا فى تنظيم حياة الإنسان كان الأمر قاصرا على التركيز على النشاطات المعرفية والمنهجية فى مجالات بذاتها، لكن العقل حين تحالف مع إنجازات التكنولوجيا والعلم ليصبح أداة قصدية للإسهام فى تشكيل وعى الجنس كله عبر العالم، أصبحت الحسبة أعقد من المنطق الظاهر، وأدعى للنظر والمراجعة، وأصبحت كلمة العقل محدودة المضمون بشكل أو بآخر.
كان الخطر قائما طول الوقت عبر التاريخ المعروف لما هو إنسان، إلا أن التباعد الجغرافى، والاختلافات العرقية والإثنية والدينية والثقافية بين مجاميع الناس، كانت تحول دون أن يمتد الخطر التدهورى الذى يظهر فى بقعة جغرافية ما، أو فى حقبة تاريخية بذاتها، إلى الجنس البشرى كله بسرعة غير ملحوقة، كانت مثل هذه المخاطر محدودة بمحدودية إمكانات الانتشار (وأيضا بالحروب والإبادة وصراعات البقاء بين المجموعات المختلفة المتباعدة). الأمر اختلف الآن خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى فى أحرج وقت عرفته البشرية عبر تطورها. الخطر يتزايد جدا حين يترك الأمر فى يد سلطة واحدة تحاول التحكم فى العالم تحت اسم العولمة ضد كل تاريخ الحياة، وضد الإنسان بما وصل إليه وما تميز به.
أخطر الخطر الآن أن تلك السلطة التى تحكم (وتتحكم فى) العالم هى:
أولا: خفية،
وثانيا: غبية.
وثالثا: أحادية.
ورابعا: ناشز
لم تعد هى سلطة الدولة ولا حتى سلطة أفراد بعينهم مثل السفاحين والطغاة الذين عرفهم التاريخ، هذه السلطة الغامضة الناشز، تحكم العالم وتتحكم فى معظم أسلحة الانقراض الكامل (وليس فقط الدمار الشامل) غير مدركة – كما أشرنا – أن اللعب الجارى إذا ما تمادى حتى حقق ما ينذر به، لن يستثنيها من الفناء.
“الوعى” كما أتناوله فى هذه الأطروحة هو الوظيفة الأشمل للوجود البشرى بيولوجيا ومعرفيا ووجدانيا على مستويات متعددة. هذا الوعى هو الذى مكّن الإنسان من احتواء تاريخه بشكل غير مسبوق، مثلا: هو الذى احتوى غريزة الجنس حتى لم تعد مقتصرة على حفظ النوع بالتكاثر، بل امتدت لتؤكد خاصية أخرى، لا يكون الإنسان إنسانا إلا بها، ذلك أن الكائن البشرى لا يكون إنسانا إلا وهو مع – فى علاقة بـ-إنسان آخر”: مختلفٍ مواكبٍ متفاعلٍ مبدعْ.
الوعى الذى أتحدث عنه ليس نقيض اللاوعى (اللاشعور بلغة التحليل النفسى الفروويدى) بل هو كل منظومة بيولوجية وجودية ظاهرة أو كامنة قادرة على التشكيل والتشكّل لتحقيق هدف معلن أو خفى. نحن لا نملك الوعى فى مقابل ما هو “لا وعى”، نحن نعيش بمستويات متعددة من الوعى تتبادل وتتجادل وتتشكل طول الوقت.
هذا الوعى البشرى هو أعظم ما أنتجه التطور بشكل واعد بما يتخلق منه أروع مما تخلق به، وهو هو الذى يتعرض فى الآونة الحالية لمأزق تطورى حرج، ذلك أن الإنسان المعاصر قد حقق إضافات علمية وتقنية رائعة هى التى يستعملها فى التعامل مع الوعى البشرى بكل مستوياته، فتصيغه فى تشكيلات وتنويعات غير مسبوقة بسرعة لا تسمح باختبارها: هل هى لصالح تطوره أم لمزالق فنائه.
من خلال هذه الآليات أمكن للسلطات المتحكمة فى هذه الآليات أن تؤثر فى تشكيلات الوعى بطرق متعددة تبدأ من تعديلات وتنويعات تكاد تشبه ما علمنا إياها الحاسوب ولا تنتهى عند ما نعلم. إن هذه السلطات السياسية المالية الظاهرة والخفية (وغيرها من وسائل التعليم والإعلام) يمكنها أن تضيف للوعى، وتحذف منه، وتعيد تشكيله، وتوسع ذاكرته، وتسرع من حركته، تماما مثلما نتعامل مع تحسين أو تحديث أو تخريب أى حاسوب (شىء أشبه بإضافة سعة ذاكرة الحاسوب كذا ميجا بايت، أو إضافة قرص عتاد خارجى يحمل آلاف المعلومات اللازمة، أو إضافة مفاعل للسرعة يسهل الإنجاز ويعمقه). أصبح من الممكن بقصد أو بغير قصد، بحسن نية أو بسوئها – أن ندخل إلى الوعى برامج مقحمة ليست بالضرورة لصالح التطور أو الوجود الأرقى أو الجمال أو الإبداع، أصبح من الممكن تخليق غرائز استهلاكية قاتلة، وإقحام غرائز أيديولوجية زائفة، وتجميد غرائز دينية راسخة، أصبح من الممكن حشر معلومات اغترابية مدمرة، تماما مثلما يفعل الساديون أو العابثون حين يقحمون فيروسا مهلكا فى الكمبيوتر.
وللحديث بقية.
[1] – نشرت فى صحيفة التحرير 3/9/2011 بعد 25 يناير 2011 بتسعة أشهر!!
برجاء إعادة النظر 16/6/2015