جريدة التحرير
10-9-2011
تعتعة التحرير
“اللعب فى الوعى” وأسلحة الانقراض الكامل (2 من2)
تكلمت قى المقال السابق عن ضرورة التفريق بين “الوعى” و “العقل” و “المخ”، كما أشرت إلى كيف أن اللعب فى الوعى هو أقرب إلى ما يسمى غسيل المخ، وأنه بتطور التكنولوجيا المتعملقة، وما استتبعها من إغارات الإعلام المركزى ثم اللا مركزى على تشكيل ثقافة البشر ومن ثم مصائرهم، قد أصبح الوعى البشرى عبر العالم فى أيد غير أمينة، أو على الأقل: فى أيدٍ غير موثوق فيها،
وأكمل اليوم قائلا :
…. لكن آلية التواصل هذه قد أتاحت الفرصة لمد شبكة العلاقات الإنسانية عبر القارات، وعبر الأديان، وعبر الألوان، وعبر الأجناس، النتيجة البدهية لهذا وذاك كان ينبغى أن تكون كالتالى: أن يصبح الإنسان أكثر إنسانية، وأعمق وعيا، وأرق تراحما، واقل تعصبا، وأجمل إبداعا. فهل حدث ذلك؟
نعم، حدث ولكن فى حدود ضيقة فى قطاع محدود عبر العالم، قطاع ما زال يمثل أقلية غير مؤثرة فى مسيرة ومصير البشرية، قطاع يملك سلامة الوعى وحدة البصيرة ومثابرة الإنتاج والإبداع، لكنه لا يملك السلطة القادرة على التغيير الواجب لتحقيق ما تعد به مسيرة التطور. هذا القطاع هو فئة المبدعين نقدا وإنشاء، الذين استوعبوا حركة التطور ورصدوا إنذارات الانقراض فراحوا عبر العالم يتواصلون أسرع، ويتعمقون أكثر، ويبدعون أجمل فى كل مكان.
لكن الواقع الماثل يقول أيضا: إنه فى غفلة من الزمن، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، وجد العالم نفسه وقد سلم قيادته – غير مختار– لتيار يسير فى عكس الاتجاه تماما، ذلك أن الذى أمسك بزمام السلطة فى المجالات الفاعلة:المالية والسياسية والإعلامية والتربوية أساسا هو فريق يمكن أن يعتبر “طفرة شاذة سلبية من النوع البشرى”.
اللعب فى الوعى يشمل توجيه الانتباه وكذلك تشتيته، كما يشمل أيضا آليات الإغراق، بالإلحاح المتمادى والتكرار المتنوع والملاحقة، وهو (اللعب) يتعمد الإلهاء بالتهميش لتحل الهوامش والتفاصيل محل المتن، كما أنه يستعمل الأرقام (سواء دعمت بمعادلات إحصائية (علمية!!) مشبوهة أو لوحت برأى عام ملتبس فتكون النتيجة هى إشلال الفكر العملى والمنطق البسيط، ثم خذ عندك ذلك الاستغراق فى التحليل التاريخى أو التبرير التفسيرى دون أن يصب لا فى الحاضر ولا فى المستقبل وكأن الرسالة تنتهى عند ألعاب الحذق وحل ألغاز شطرنج لوحات التاريخ، وأحاجى الأحداث.
خذ عندك أيضا التمادى فى عرض القضايا الزائفة (مزاعم قبول الآخر مثلا) لتحل محل القضايا الجوهرية (مثل شرف الجدل لتخليق ما يمكن من الاختلاف الحيوى)، وأخيرا وليس آخرا تقديم المقدسات الجديدة بشكل يجعل منها كهنوتا جاثما، أو صنما راسخا، أو أيديولوجيا مغلقة (من أول الديمقراطية بديلا عن الحرية حتى حقوق الإنسان المكتوبة بديلا عن حقوق الإنسان المعيشة..إلخ)
وقد تمادى الإعلام عبر العالم فى تقديم مناظر العدوان والقسوة حتى القتل والسحل والإبادة دون مبرر تربوى أو أخلاقى أو فنى واضح، حتى أننى تناولت ذلك يوما فى برنامج ثقافى أقتطف منه ما يلى:
منذ بضعة سنوات كنت أقدم فى قناة النيل الثقافية برنامج بعنوان “سر اللعبة” وحين جاء الدور على لعبة “الغضب”، (وكان التسجيل يوم 4 أغسطس 2004). جرى ما أقتطف منه ما يلى:
كانت اللعبة الخامسة من عشرة كالتالى، لعبة تقول: “هُمَّ بيورّونا الدم والهدم والقتل دا كله فى التليفزيون ليه؟ عشان نغضب؟ ولا عشان نتعود عليه؟ دانا حتى…” كان على الضيف المشارك أن يكمل هذه الجملة بأسرع ما يمكن مع أقل قدر من التفكير.
جاءت أغلب الاستجابات كما توقعت: دالة تلقائية مؤلمة خطيرة، أذكر منها على سبيل المثال إجابة ضيفة رقيقة، أكملت “… دا انا حتى ما عنتش باحس باللى باشوفه”،
أما إجابتى شخصيا – وأنا مشارك أساسى – فقد قلت “..دانا حتى ما عنتش بافتح التليفزيون من أصله…”.
فى هذه الحلقة أيضا كانت هناك لعبة تقول: ” الواحد حا يغضب على إيه ولاّ على مين، أنا أحسن لى……” وكان على المشاركين أن يكملوا، وجاءت الإجابات دالة أيضا تعلن أن الأغـلبية أكملوا ما يفيد أن الأحسن لهم أن يتمادوا فى التبلد أو “التطنيش” (الطنبلة)… الخ.
كل هذه الآليات الدفاعية، حتى الانسحاب، هى طبيعة بشرية لحمايتنا من فرط الألم، وقد أظهر النقاش، بعد اللعبة أن ما نفعله إزاء ما يعرض علينا (أو يراد بنا) فى هذا الاعلام الدامى هو أننا نكتم ما يعتمل بنا حتى لا ننفجر “الآن”، وانتهينا إلى أننا مرة فمرة فمرات نستدرج إلى أن نتبلد أو تهرب، دون انفعال أو تفاعل.
فى لعبة أخرى – فى نفس لعبة الغضب– قرب نهاية البرنامج كانت العبارة الناقصة تقول “أنا لو سمحت للغضب إللى جوايا إنه ينطلق لآخره يمكن…” واحد منا قال”يمكن انفجر “الآخر قال ” يمكن أطُبّ ميت…” أما أنا فقلت: “يمكن أقتل..” إلخ .
وبعد
كان هذا منذ سبع سنوات، وقد أثبت الواقع أن هذا “اللعب فى الوعى” بهذه الصورة سواء بقصد أو بغير قصد، قد فشل فى تدعيم آلية البلادة، التى ظهرت فى بعض الاستجابات، بشكل دائم وفى المقابل انتبه الشباب من خلال الاعلام اللامركزى (الفيس بوك والتويتر مثلا) إلى استعمال نفس الآلية فى تجميع تراكمات الغضب لتكريس الغضب حتى تفجر ما تفجر فى 25 يناير 2011 ثم تمادى بعدها بدرجات متفاوته لفترات متقطعة.
إلا أن المسألة لم تضطرد تلقائيا خطّيا فى الاتجاه الإيجابى، ذلك أن الذى حدث بعد ذلك هو الشعور بالافتقار إلى الفكرة المركزية، التى يتخلق منها الموجّه الضام لهذا الوعى الجمعى المتراكم، فوجدنا أنفسنا فى ضياع جديد – بقصد فعل فاعل أو بدونه- ونحن نتخبط، مستغرقين فى التفسير والتبرير والتأويل، فراحت طاقة الغضب تخفت تخفت، أو تتحول إلى التشفى والثأر وتصفية الحسابات، وهكذا تراجع الغضب البناء حتى خشيت أن نستدرج إلى درجة من الشلل أخبث وأخطر لأنها تسمح لمن يريد أن يزرع فى وعينا ما شاء من أفكار أو قرارات أن يفعل ما يشاء، سواء كان عدوا أو صديقا: من الداخل أو من الخارج، ما دمنا غارقين فى تفاصيل اللعبة دون أن ننتبه إلى من يدير آليتها.
أخرج من كل ذلك إلى التنبيه إلى أن التحدى قائم، والمعركة مستمرة، والتكنولوجيا جاهزة، والبقاء للأذكى والأحرص والأقدر.