نشرت فى مجلة سطور
عدد سبتمبر – 2004
اللعب فى الوعى/الدماغ
وأسلحة الانقراض الشامل
لكلمة اللعب سحر خاص ودلالات متنوعة حسب السياق الذى ترد فيه. فى بداية كتاب “خدعة التكنولوجيا” (الذى صدرت طبعته الرخيصة هذا الصيف: مكتبة الأسرة ترجمة د. فاطمة نصر)، ينبه المؤلف “جاك إيلول” إلى أن “لعبة الحقيقة تنطوى على مخاطر، كما أن لعبة الديمقراطية تنطوى على مخاطر وكذلك لعبة الثورة، كما أن تأدية هذه الألعاب مجتمعة تنطوى على مخاطر”. ماذا تبقى بعد ذلك لا ينطوى على مخاطر؟ وأى نوع من المخاطر تلك التى تنطوى عليها كل تلك الألعاب، ولماذا أسماها إيلول بالألعاب ؟
حتى تلك المسرحية الجيدة – برغم الصوت العالى – المسماة “اللعب فى الدماغ” لم تنجح إلا لأنها كانت تصور اللعب فى مساحة أكبر وأعمق وأشمل للعب: كانت أقرب إلى ما أريده بهذا العنوان “اللعب فى الوعى” (على خفيف: خفة الدم، وخفة التناول!)
كلمة “لعب” لها استعمالها الخاص فى وصف الحياة أو التكتيك أو العبث أو المناورة حسب السياق. فإذا استعملناها فيما يتعلق بالحياة والموت، أو ببقاء النوع أو فنائه، فإن الأمر يصبح خطيرا.
ثم إن مفهوم “الوعى” أيضا هو من أكثر المفاهيم عرضة لسوء الفهم، هذا إذا نجا أصلا من الإهمال والاختزال. فما هى الحكاية؟
إن ما يتعرض له الوعى البشرى خاصة فى العقدين الأخيرين على مستوى العالم برمته من خلال الإعلام خاصة أصبح لعبة من أخطر ما تعرضت لها البشرية عبر تاريخها. لو صح ما أراه جليا متماديا من أن خطرا تطوريا يحيق بالجنس البشرى فى طوره المعاصر، فإن أهم آليات التمادى فى ذلك هو أن تملك القوة المتسببة فى تفاقم هذا الخطر كل أسلحة الانقراض الشامل، تبثها، وتروج لها، وتستعملها لأغراضها الخاصة، وهى لا تدرك مخاطرها التدهورية على مستوى العالم دون استثناء من يستعملها.
المسألة تتعلق بخطأ تطورى جارٍ يهدد الجنس البشرى برمته، وقد استطاع بعضنا – نحن البشر – بفضل ما تميزنا (وامتُحنّا) به من “وعى”أن ندرك طبيعة وحجم وسرعة هذا الخطر. المصيبة أن نفس هذا الوعى الذى يمكن أن ينقذنا من خطر الانقراض هو ما يتعرض الآن للبرمجة المغرضة، والتشويه المنظم بألعاب الإعلام، وتفاهة التربية، وسوء التديّن ، وغير ذلك.
الوعى أشمل وأخطر:
الوعى هو غير العقل وغير التفكير وغير الذكاء وغير الإدراك وإن شملها جميعها. الوعى البشرى، بما صار إليه، وما تمكن منه، هو الذى جعل أغلب ما كان يتم عند أسلافنا الحيوانات بطريقة آلية لحفظ البقاء، يجرى عند الإنسان وهو خاضع للمراجعة والتخطيط والتعديل، أقول مرة أخرى: إنه الوعى وليس العقل على الرغم من أن أغلب الناس يفضلون الحديث عن عقل الإنسان وإنجازاته كأهم علامات ما وصل إليه من تطور، حتى أنهم اختزلوا الإنسان إلى ما يسمى “الحيوان العاقل”…، إن من أهم ما يميز الإنسان، بعد رحلته الرائعة حتى الآن، هو أن وعيه قد تطور حتى صار منظما بهيراركية بالغة الدقة متشعبة الإحاطة. حين تصورنا أن نشاط العقل هو العامل الأرقى جدا فى تنظيم حياة الإنسان كان الأمر قاصرا على إضافة العقل المعرفية والمنهجية فى مجالات بذاتها، لكن العقل حين تحالف مع إنجازات التكنولوجيا والعلم ليصبح أداة قصدية للإسهام فى تشكيل وعى الجنس كله عبر العالم، أصبحت الحسبة أعقد من المنطق الظاهر، وأدعى للنظر والمراجعة.
كان الخطر قائما طول الوقت عبر التاريخ المعروف لما هو إنسان، إلا أن التباعد الجغرافى، والاختلافات العرقية والإثنية والدينية والثقافية بين مجاميع الناس، كانت تحول دون أن يمتد الخطر التدهورى الذى يظهر فى بقعة جغرافية ما، أو فى حقبة تاريخية بذاتها، إلى الجنس البشرى كله بسرعة غير ملحوقة، كانت مثل هذه المخاطر محدودة بمحدودية إمكانات الانتشار (وأيضا بالحروب والإبادة وصراعات البقاء بين المجموعات المختلفة المتباعدة). الأمر اختلف الآن خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى فى أحرج وقت عرفته البشرية عبر تطورها. الخطر الآن أصبح أشبه بالطاعون حين يعم الوباء العالم كله من خلال الآليات الأحدث المفروض أنها ظهرت لتسهل انتشار المعرفة والتواصل بين البشر، فإذا بالسلطة الواحدة التى تحكم العالم تستعملها ضد كل تاريخ الحياة عامة، وضد الإنسان بما وصل إليه وما تميز به.
أخطر الخطر الآن أن تلك السلطة التى تحكم (وتتحكم فى) العالم هى أولا: خفية، ثانيا: غبية.ثالثا: أحادية. ورابعا: ناشز عن المجموع (لم تعد هى سلطة الدولة ولا حتى سلطة أفراد بعينهم مثل السفاحين والطغاة الذين عرفهم التاريخ). هذه السلطة الغامضة الناشز، بهذه المواصفات الأربعة، تحكم العالم وهى تتحكم فى معظم أسلحة الانقراض الشامل. إنها برغم خفائها وغبائها تمتلك كل الوسائل الأحدث لخدمة أغراضها الخاصة، غير مدركة – كما أشرنا – أن اللعب الجارى إذا ما تمادى حتى حقق ما ينذر به، لن يستثنيها من الفناء.
“الوعى” كما أتناوله فى هذه الأطروحة هو الوظيفة الأشمل للوجود البشرى بيولوجيا ومعرفيا ووجدانيا على مستويات متعددة. هذا الوعى هو الذى مكّن الإنسان من احتواء تاريخه بشكل غير مسبوق، مثلا: هو الذى احتوى غريزة الجنس حتى لم تعد مقتصرة على حفظ النوع بالتكاثر، بل امتدت لتؤكد خاصية أخرى، لا يكون الإنسان إنسانا إلا بها، ذلك أن الكائن البشرى لا يكون إنسانا إلا وهو مع – فى علاقة بـ-إنسان آخر”: مختلفٍ مواكبٍ متفاعلٍ مبدعْ.
الوعى الذى أتحدث عنه ليس نقيض اللاوعى (اللاشعور باللغة الفرويدية) بل هو كل منظومة بيولوجية وجودية ظاهرة أو كامنة قادرة على التشكيل والتشكّل لتحقيق هدف معلن أو خفى. نحن لا نملك الوعى فى مقابل ما هو “لا وعى”، نحن نعيش بمستويات متعددة من الوعى تتبادل وتتجادل وتتشكل طول الوقت.
هذا الوعى البشرى هو أعظم ما أنتجه التطور بشكل واعد بما يتخلق منه أروع مما تخلق به، وهو هو الذى يتعرض فى الآونة الحالية لمأزق تطورى حرج، ذلك أن الإنسان المعاصر قد حقق إضافات علمية وتقنية رائعة هى التى يستعملها فى التعامل مع الوعى البشرى بكل مستوياته، فتصيغه فى تشكيلات وتنويعات غير مسبوقة بسرعة لا تسمح باختبارها: هل هى لصالح تطوره أم لمزالق فنائه.
من خلال هذه الآليات أمكن للسلطات المتحكمة فى هذه الآليات أن تؤثر فى تشكيلات الوعى بطرق متعددة تبدأ من تعديلات وتنويعات تكاد تشبه ما علمنا إياها الحاسوب ولا تنتهى عند ما نعلم. إن هذه السلطات السياسية المالية الظاهرة والخفية (وغيرها من وسائل التعليم والإعلام) يمكنها أن تضيف للوعى، وتحذف منه، وتعيد تشكيله، وتوسع ذاكرته، وتسرع من حركته، تماما مثلما نتعامل مع تحسين أو تحديث أو تخريب أى حاسوب (شىء أشبه بإضافة سعة ذاكرة الحاسوب كذا ميجا بايت، أو إضافة قرص عتاد خارجى يحمل آلاف المعلومات اللازمة، أو إضافة مفاعل للسرعة يسهل الإنجاز ويعمقه). أصبح من الممكن بقصد أو بغير قصد، بحسن نية أو بسوئها – أن ندخل إلى الوعى برامج مقحمة ليست بالضرورة لصالح التطور أو الوجود الأرقى أو الجمال أو الإبداع، أصبح من الممكن تخليق غرائز استهلاكية قاتلة، وإقحام غرائز أيديولوجية زائفة، وتجميد غرائز دينية راسخة، أصبح من الممكن حشر معلومات اغترابية مدمرة، تماما مثلما يفعل الساديون أو العابثون حين يقحمون فيروسا مهلكا فى الكمبيوتر.
لكن ثم جانب آخر لهذه الميزة التقنية الحديثة فى تعاملها مع الوعى إذ المفروض أنها تقوم فعلا بتوفير الوقت، وتسريع التربيط، وتسهيل التوثيق، وتشجيع التنويعات… إلخ، ثم إن آلية التواصل الممتد بين البشر قد أتاحت الفرصة لمد شبكة العلاقات الإنسانية عبر القارات، وعبر الأديان، وعبر الألوان، وعبر الأجناس، النتيجة البدهية لهذا وذاك كان ينبغى أن تكون كالتالى: أن يصبح الإنسان أكثر إنسانية، وأعمق وعيا، وأرق تراحما، واقل تعصبا، وأجمل إبداعا.
فهل حدث ذلك؟
نعم، حدث فى قطاع محدود عبر العالم، محدود جدا، قطاع ما زال يمثل أقلية غير مؤثرة فى مسيرة ومصير البشرية، قطاع يملك سلامة الوعى وحدة البصيرة ومثابرة الإنتاج والإبداع، لكنه لا يملك السلطة القادرة على التغيير الواجب لتحقيق ما تعد به مسيرة التطور. هذا القطاع هو فئة المبدعين نقدا وإنشاء، الذين استوعبوا حركة التطور ورصدوا إنذارات الانقراض فراحوا عبر العالم يتواصلون أسرع، ويتعمقون أكثر، ويبدعون أجمل فى كل مكان. ليس من الضرورى أن يحذق كل أفراد هذا الفريق تفاصيل مهارات التواصل والتوصيل الأحدث، لكن كل واحد منهم يدرك بحدسه ووعيه ما يجرى حوله فى العالم، فيسهم بما تيسر.
لكن الواقع الماثل يقول: إنه فى غفلة من الزمن، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى (مرة أخرى)، وجد العالم نفسه وقد سلم قيادته – غير مختار– لتيار يسير فى عكس الاتجاه تماما، ذلك أن الذى أمسك بزمام السلطة (فى المجالات الفاعلة:المالية والسياسية والإعلامية والتربوية أساسا) فريق يمكن أن يعتبر “طفرة شاذة سلبية من النوع البشرى”.
إن الانقراض لم يستأذن أيا من الكائنات التى انقرضت قبل أن تفنى. الأمر يختلف فى حالة الإنسان بعد أن تمتع (أصيب) بمزية (محنة) الوعى، ذلك الإنسان أصبح قادراً على الحيلولة دون انقراضه، كما أنه قد يساهم فى الإسراع بفناء نوعه.
الفرض الذى يطرح نفسه على كل ذى بصيرة الآن يعلن: إن الانقراض وارد اليوم أكثر من أى يوم مضى، وبالتالى فعلى كل فرد من أفراد هذا النوع (البشرى) أن يتحمل مسئوليته، لعله يسهم فى الحيلولة دون الفناء الجماعى.
ليست مؤامرة، بل خطأ مرعب:
أقر وأعترف أننى لا أزعم وجود مؤامرة بالمعنى الذى استعملت فيه هذه الكلمة عبر التاريخ، لكن ثم “خطأ تطورى جسيم” سوف يدفع ثمنه الجميع برغم أن المسئول عنه هم نتاج طفرة سياسية اجتماعية شاذة فقدت قدرتها على الانتماء للحياة الممتدة فى نوعها فعلا. لقد تحولت أهم إنجازات الإنسان التكنولوجية المعلوماتية العلمية الأحدث فى أيدى هذه الفئة إلى آليات تسمح لها أن تلعب فى وعى كافة البشر ضد قوانين البقاء والتطورٍ.
لا مجال فى مقال بهذا الحجم أن أطرح بالتفصيل ما يدعم هذا الفرض المنذر بالانقراض، سوف أكتفى بالإشارة إلى معالم آليات اللعبة كمجرد عناوين، ثم أعرض نموذجا خبراتيا من الواقع، لعله يبين بعض ما يجرى.
بصفة عامة: إن ما يجرى بشكل منظم، أو حتى عشوائى، يبدأ باللعب فى الإدراك ، إن الإدراك – برغم شيوع استعمال الكلمة- هو مدخل المعلومات إلى الوعى، الإدراك يحدث بشكل سريع جدا، وعلى أكثر من مستوى، لدرجة لم تسمح بدراسته بما هو كما ينبغى. وذلك برغم كل محاولات دراسة الإدراك البصرى خاصة (نفسفسيولوجيا psycho-physiological) مؤخرا دراسات العلم المعرفى العصبى Neuro-cognitive science وخاصة لعملية اعتمال المعلومات Information processing). برغم كل ذلك نحن ما زلنا بعيدين عن التعرف على ماهية الإدراك كما ينبغى مع أنه من أهم وسائل المعرفة حتى رؤية وجه الحق سبحانه تعالى.
لعلنا نتذكر أن إدراك الإنسان المعاصر مصلوب أمام التليفزيون لعدد من ساعات النهار والليل طول الوقت بما يسمح لمن يريد أن يلعب فيه ويلعب به أن يفعل ما يشاء. اللعب فى الإدراك يتم بالتشتيت والتقطيع والتشويش، حتى تكاد الحصيلة طولا وعرضا تصبح أشبه بالفيديو كليب المشوه (ليس فقط فى مجال الأغانى).
لن أطيل فى شرح كيفية اللعب فى الإدراك أو الوظائف الأخرى التى يشملها الوعى. أذكّر فقط بأن اللعب فى الانتباه يجرى بالجذب والكذب والوعود ودغدغة الغرائز منفصلة، ثم يتمادى إلى قطع مثابرة الانتباه بالإغراء والتشتيت حتى يكاد لا ينتهى مشاهد أى موضوع إلى غايته إذا كانت له غاية، فتشل آلية مشاركته فى اتخاذ أى موقف أو حسم أى قرار. اللعب فى الوعى يشمل أيضا آليات الإغراق، بالإلحاح المتمادى والتكرار المتنوع والملاحقة، وهو (اللعب) يتعمد الإلهاء بالتهميش لتحل الهوامش والتفاصيل محل المتن، كما أنه يستعمل الأرقام (سواء دعمت بمعادلات إحصائية مشبوهة أو لوحت برأى عام غير ممثـِّل للمجموع) لإشلال الفكر العملى والمنطق البسيط، ثم خذ عندك ذلك الاستغراق فى التحليل التاريخى أو التبرير التاريخى دون أن يصب التاريخ لا فى الحاضر ولا فى المستقبل وكأن الرسالة تنتهى عند ألعاب الحذق وحل ألغاز شطرنج لوحات التاريخ ، أو على أحسن الأحوال: تزجية الوقت مع حلّ “المعلومات القديمة المتقاطعة” (قياسا على ألغاز الكلمات المتقاطعة).
عندك أيضا التمادى فى عرض القضايا الزائفة (مزاعم قبول الآخر مثلا) لتحل محل القضايا الجوهرية (مثل شرف الجدل لتخليق ما يمكن من الاختلاف الحيوى)، وأخيرا وليس آخرا تقديم المقدسات الجديدة بشكل يجعل منها كهنوتا جاثما، أو صنما راسخا، أو أيديولوجيا مغلقة (من أول الديمقراطية بديلا عن الحرية حتى حقوق الإنسان المكتوبة بديلا عن حقوق الإنسان المعاشة..إلخ)
المثال: الغضب، وعروض العنف والقتل والقهر
ما معنى، وهدف، ونتيجة تقديم هذا الكم الهائل من مناظراً العنف والهدم والطرد؟ ثم مناظر الدماء والجثث والأشلاء والجنازات؟ ثم مناظر التجريس والإهانة والتعذيب؟ ثم مناظر الشماتة والتبلد والافتراء لمن يقومون بكل ذلك؟ لماذا؟ ما هو عائد كل هذا الذى يعرض على الإنسان العادى عبر شاشات التليفزيون بوجه خاص؟ ماهى الرسالة المراد توصيلها للناس من خلال مواكبة القتل (لا القتال) والإذلال (لا مجرد الهزيمة) والإبادة (لا الاستعمار)؟ قيل إن مثل هذا الإعلام “الشفاف” قد أسهم بشكل رائع فى إشراك المواطن العادى فى متابعة المذابح (لا المعارك) لحظة بلحظة، لم يعد الأمر يحتاج أن ننتظر سنوات لنتعرف على ما حدث فى الميدان الغربى فى الحرب العالمية الأولى من رواية إ.م.ريمارك “كل شىء هادئ فى الميدان الغربى”. إن قارئ تلك الرواية على مهل (بعد انتهاء الحرب) قد استطاع أن يستوعب معنى الحرب وبشاعتها، ولست متأكدا إن كان ذلك قد أسهم فى تأجيل الحرب العالمية الثانية أم لا. الأمر الآن لا يحتاج إلى رواية لاحقة تكشف عن الفظائع فنحن نعيشها بالصورة والصوت أولا بأول، وقد لا تكون هناك فرصة أصلا لقيام حرب عالمية ثالثة. بين من؟ ومن؟ لقد حاولت تلك السلطة العمياء الناشز التى تحكم العالم أن تبتدع ما يجعلنا نتصور احتمال صراع قادم بين الحضارات، أو بين القارات، أو بين الأديان، فجاءت المحاولة أكثر خيالا وغرابة من الخيال العلمى عن الحرب بين الكواكب، وأيضا من الخيال الدينى الذى يقسم العالم إلى محور للشر وآخر للخير. إن مواكبة كل هذا العنف والقتل والتدمير ليس له عائد يخدم الشفافية أو يحفز المقاومة ما دام يجرى بكل هذا الإصرار والتحيز والتكرار والبلادة. إن الناتج قد يكون غير ما تصوره لنا الدعايات عن الشفافية وكيف تخدمها تكنولوجيا الإعلام ومن ذلك: تصورت أن الناتج يمكن أن يتراوح بين التبلد، والتعود، واليأس، والعجز، والإهانة، والتهميش. وهذا بعض ما اكتشفته من تجربة خبراتية أعايشها فى برنامج (ثقافى) لتحريك الوعى.
ذلك أن قناة النيل الثقافية (المصرية) قد أتاحت لى فرصة إعداد وتقديم برنامج باسم “سر اللعبة” أحاول أن يتم من خلاله بعض الكشف التلقائى الخبراتى، فالتدريب على التفكير النقدى وتحريك الوعى بعيدا عن النصح والفتاوى وعبارات التلقين و”فى الواقع…”، وفى “الحقيقة”.
منذ أسبوع بالتمام كنا نلعب فى هذا البرنامج لعبة “الغضب”، (تواكب ذلك مع استكتابى هذا المقال للاشتراك فى هذا الملف، وكنت قد أعددت الألعاب قبل ذلك بيوم أو أكثر-وكان التسجيل يوم 4 أغسطس 2004). اللعبة تتمثل فى جملة ناقصة يكملها الضيوف الأربعة، وشخصى، بأكبر قدر من التلقائية، ثم نتحاور حول استجاباتنا، لعبة بلعبة.
كانت اللعبة الخامسة (التى علينا نحن الخمسة أن نكمل عبارتها الناقصة) تقول: “هُمَّ بيورّونا الدم والهدم والقتل دا كله فى التليفزيون ليه؟ عشان نغضب؟ ولا عشان نتعود عليه؟ دانا حتى…” كان على الضيف المشارك أن يكمل الجملة بأسرع ما يمكن مع أقل قدر من التفكير. جاءت أغلب الاستجابات كما توقعت: دالة تلقائية مؤلمة خطيرة، أذكر منها على سبيل المثال إجابة ضيفة رقيقة، أكملت “… دا انا حتى ما عنتش باحس باللى باشوفه”، أما إجابتى شخصيا فأذكر أننى قلت “..دانا حتى ما عنتش بافتح التليفزيون من أصله…”. كان ذلك قد حدث فعلا من سنتين، امتد الأمر من تجنب مناظر الدم والقتل والعنف فحسب، إلى الأخبار الأخرى فالأغانى فالتليفزيون كله. وقد أسفت لما حدث لى هكذا دون ادعاء احتجاج أو رفض، فقط: لم أعد أستطيع، هذا كل ما فى الأمر. أصبح التليفزيون بالنسبة لى مثل “الفزاعة”، ثم تطور حتى كدت أرى أشلاء الأطفال وحرائق المخيمات وتجريف الأرض، حتى حول الصغيرة عجرم وهى تغنى، إذا لمحتها عابراً، ولم ينفعنى أننى مازلت محتفظا بسلامة البصيرة طول الوقت.
هذا الحل الفردى (الشخصى) الهروبى الانسحابى ليس حلا أصلا، ومع ذلك، فلعل فيه احترام لأمرين: عدم القدرة على التحمل أكثر، والعجز – ولو مرحليا – عن الرد أو إبطال الجارى أو توجيه الغضب إلى الفعل.
فى هذه الحلقة أيضا كانت هناك لعبة تقول: ” الواحد حا يغضب على إيه ولاّ على مين، أنا أحسن لى……” وكان على المشاركين أن يكملوا، وجاءت الإجابات دالة أيضا تعلن أن الأغـلبية أكملوا ما يفيد أن الأحسن لهم أن يتمادوا فى التبلد أو “التطنيش” (الطنبلة)… الخ
كل هذه الآليات الدفاعية، حتى الانسحاب، هى لحمايتنا من الألم، وقد أظهر النقاش، حولها بعد اللعبة أنها مجرد خدعة مؤقتة، فانتبهنا إلى أن كل ما نفعله إزاء ما يعرض علينا (أو يراد بنا) هو أننا نكتم ما يعتمل بنا حتى لا ننفجر الآن، ننجح ظاهرا مرة فمرة فمرة فمرات حتى نتبلد أو ننسحب أو نتكلم فى التاريخ، أو فى الآراء ووجهات النظر، ودمتم.
فى لعبة أخرى – فى نفس حلقة الغضب أيضا – قرب نهاية البرنامج كانت العبارة الناقصة تقول ” أنا لو سمحت للغضب إللى جوايا إنه ينطلق لآخره يمكن…” واحد منا قال”يمكن انفجر” الآخر قال ” يمكن أطُبّ ميت…” وأذكر أنى قلت: يمكن أقتل.. إلخ
إن ما وصلنى من هذا ومثله، هو أننا نتعامل مع هذه الرسائل الإعلامية الدموية “الشفافة”على أكثر من مستوى، وأن ما نعترف به ونقره هو ما يسمح به مستوى وعينا الظاهر لا أكثر، أما تشكيلات الوعى على مستويات أخرى فهى عرضة لأن تمارس أشكالا من البرمجة والكمون والعكس إلى ما لا نهاية له من تشكيلات، ليست فقط على مستوى الذاكرة الخفية والميكانزمات الدفاعية، وإنما هى قد تغوص حتى تصبح انطباعا بيولوجيا غائرا (مشوها فى الأغلب).
إذا تمادى مثل ذلك، وانتشر عبر العالم، وغاص، وتثبت فى البيولوجى فعلا، فإن الإنسان لن يعود إنسانا أصلا، هذا إذا بقى على هذه الأرض دون انقراض.
أكتفى بهذا المثال، وإن كنت لا أستطيع أن أنهى المقال دون الإشارة إلى مثال آخر يحتاج لمقال مستقل، ذلك أنه يتعلق بمقدس نتصور أنه أبعد ما يكون عن اللعب ( بالوعى أو بغيره). إن مايسمى البحث العلمى حين تتولى أمره تلك السلطة النشاز المضادة للتطور، لم يعد – فى كثير من المجالات – بحثا ولا علميا، بل لعبة أخرى تخدم نفس التوجه نحو الانقراض.
فى مجال التطبيب والتداوى، يتم اللعب فى وعى الأطباء بشكل يبرمج أداءهم كله تقريبا ليكون فى خدمة سوق الدواء لا أكثر ولا أقل، بل إنه يتم صرف مليارات الدولات لحجب الأبحاث التى تبين أضرار ومضاعفات الأدوية الجديدة الباهظة الثمن، والنتيجة: ليست فقط حرمان الأفقر من التداوى حتى الموت أحيانا، وإنما يمتد الخطر إلى تشكيل وعى الأطباء بعيدا عن الطبيعة وعن العلم الحقيقى وعن مرضاهم وعن أنفسهم. ثم إن الخطر لا يقتصر على ما يلحق بوعى الأطباء من تشويه تحت ما يسمى “البحث العلمى” ولا ما يلحق المرضى من مخاطر التداوى الخاطئ والمضاعفات، بل إن الأمر يمتد إلى دور شركات الدواء (مع شركات السلاح) فى الإسهام فى القرارات السياسية المدمّرة، وتدعيم آليات الانقراض الشامل، ذلك أن أمثال هذه الشركات هى من أهم أعضاء السلطة العالمية النشاز والخفية التى اشرنا إليها فى بداية المقال.
ولهذا حديث آخر.