نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 16-6-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4306
الكتاب فى حلقات:
حركية الوجود وتجليات الإبداع (1)
[جدلية الحلم والشعر والجنون] (2 من ؟)
ما زلنا فى الفصل الأول بعنوان: “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”
……….
……….
فرويد بين “تفسير الأحلام” و” السيرة الذاتية”
مازال كتاب تفسير الأحلام لفرويد (2) يمثل أساسا لكثير من محاولات فهم الحلم وتفسيره. لاشك أنه عمل رائد جيد، ربما لغرض آخر غير ما استُـعمل فيه، ولسبب آخر غير ما شاع عنه، فقد خاطر فيه فرويد، بتعرية نفسه – بدرجة ما- مما أضاف إلى رصيد شجاعته الكثير. وتتضاعف قيمة هذا العمل-عندى- إذا أخذناه بوصفه إبداع شاعر واعترافات قاص (وهذا ماحاول فرويد نفيه طوال الوقت!) (*)
(*) – يقول فرويد “… فإذا رويت أحلامى. لم يكن مفر من أن أطلع نظرات الغرباء على أكثر مما كنت أود أطلاعهم عليه….. (ثم يضيف).. ومما يـلزم فى العادة كاتبا هو من رجال العلم وليس بشاعر” (3).
هنا أود أن أعلن من جانبى رأيا مناقضا لما يقوله فرويد: إن عطاء فرويد شاعرا هو العطاء الذى بقى، وأن بعض من يتصور أنه يعلى من قدره إذ ينفى عنه هذه الصفة (صفة الشاعر) قد يكون سائرا فى الاتجاه العكسى تماما، حتى لو استلهم هذا النفى من تأكيد فرويد نفسه.وقد ذهب “جاك لاكان” إلى مثل هذا الرأى بشكل ما حين قرأ فرويد مبدعا كنص بذاته أكثر منه عالما فى التحليل النفسى.
غير أن فرويد قد جعل من “نظريته” وصية على أحلامه وتداعياته، فإذا به يجعل الحلم الظاهر: تمويها وإخفاء، ويجعل الحلم الكامن: رغبة وإلحاحا، فيعارضه “كارل يونج”، إذ يعد الحلم كَشْفا لا إخفاء. يأخذ يونج الحلم الظاهر- بلغته الخاصة- مكملا لحياة اليقظة على طريق التكامل الفردى “التفرد” (*)، ولكن يتفق الاثنان (مثل غيرهما)، على أن الحلم “لغة” خاصة.
(*) – التفرد، هى الكلمة الشائعة ترجمة لمصطلح يونج Individuation، وأنا لا أرتاح لهذه الترجمة، بل إن المفهوم الأصلى عند يونج لا يشير إلى التفرد بمعنى تحقيق الذات بقدر ما يوحى إلى أن الرحلة تتخطى هذه الفردية البدئية إلى “عملية التكامل الحتمي للذات بمستوياتها معا فى تشكل مستمر”، وإلى أن نجد حلا فى ترجمة أصلح، وجب التنويه دعوة للاجتهاد، ولعل استعماله لما أسماه بعد ذلك “تجربة الرب” يؤكد ما رجحناه من تجاوز يونج لحدود الذات والتأكيد على تحقيقها إلى تكاملها مع ما بعدها إلى ما يمكن من دوائر الهارمونى.
الصدمة:
منذ انتشر استعمال رسام المخ الكهربائى وماهية الأحلام تتضح فسيولوجيا. إمكانية تحديد ظهور النشاط الحالم بإيقاع حتمى منظم (20 دقيقة كل 90 دقيقة أثناء النوم) برصدها تخطيطا أحدثت أثر الصدمة على المفسرين والمحللين(*).
(*) – فكرة علاقة الأحلام بالدورة البيولوجية قديمة قبل اكتشاف رسام المخ أصلا، وقد نبه إليها فرويد حين ذكر أن فيلسوفا شابا هو “هـ. سفوبودا” حاول أن يستخدم فكرة الدورة البيولوجية التى اكتشفها فليس Fliess (صديق فرويد).. وقال بأن المادة التى يتألف منها الحلم ينبغى تعليلها باجتماع جميع الذكريات التى تختتم إحدى”الدورات البيولوجية”.وبرغم بساطة الاقتراح فالفكرة لابد أن تعطى حق السبق بعد الاكتشافات الحديثة التى ثبتت برسام المخ الهربائى ورصده ما يسمى “حركة العين السريعة” أثناء النوم النقيضى Paroxysmal Sleep الذى سمّىَ أيضا: النوم الحالم. وقد استهان فرويد بهذه الفكرة فى حينها، بل خاف منها على الأحلام وعلى نظريته حيث قال “… ولو صحت آراؤه (فرويد يقصد آراء الفيلسوف سفوبودا) لنفقـت أهمية الأحلام سريعا”، بل إن فرويد قد فرح حين تراجع سفوبودا عن فكرته فقال: إنه (الفيلسوف) قد أرسل يعلنه فيها أنه لم يعد يأخذ نظريته هذه مأخذ الجد (4)
على أن مخاوف فرويد وتراجع سفوبودا لا تلزمنا بالتراجع معهما، ذلك أننا بمراجعة النظريات الأقدم التى أوردها فرويد وفندها يمكن أن نجد كثيرا منها قد عاد إلى الظهور بشكل يحفظ له – بالرغم منه – حق السبق، مثل ما أورده فرويد عن: نظرية اليقظة الجزئية، أو الاستيقاظ الفارقى (5) .
ويهمنا هنا أن ننبه على مبدأ عام يسمح باستقبال أفضل لما يضيفه المبدعون، وهو أن تراجع صاحب النظرية التى لا تملك وسائل إثباتها فى حينها، لاينفى صحة النظرية التى أعلنت دون دليل آنذاك، وإنما قد يعنى دعوة لبحث متواصل لعلنا نجد لاحقا أدوات ومناهج إثباتها، وهذا ماثبت فى كثير من الأحيان حتى فيما يتعلق بأول عمل لفرويد الذى تنكر له فرويد شخصيا ورفض نشره باسمه حتى أنه لم ينشر إلا بعد وفاته، وهو ما يسمى “المشروع” The Project، وهو ما ثبت صحة كثير من أفكاره بعد امتلاك وسائل البحث النيوروفسيولوجية الأحدث وخاصة التصوير المقطعى التشريحى والوظيفي C.T. , SPECT & PECT.. etc.
فرويد يقصد بتعبير أن الحلم حارس للنوم: أن الحلم يحدث ليستوعب المؤثر القادم من البيئة الخارجية مباشرة، والذى يهدد النائم بالاستيقاظ، فيتخلق الحلم فورا ليحتوى المنبه فى أقصوصة أو رؤية فلا يستيقظ النائم بفضل أنه يحلم بما يحتوى مثل هذا المؤثر، وهذا قد يحدث فعلا، ولكنا نتحفظ على التفسير الفرويدى، بمعنى أن حالة النشاط الحالم هى سابقة ولاحقة للمؤثر الخارجى الذى قد يثير ترابطات خاصة متعلقة بنوعه، وكذلك بمعنى أن تأليف الحلم أثناء الاستيقاظ فى وجود هذا المؤثر يحمل فرصة أن يحتويه لا أن يكون نتيجة له (انظر بعد).
إن من أهم ما أثبته هذا الاكتشاف هو إقرار أن الحلم يحدث حتما، سواء تذكرناه وحكيناه، أم لا، وأن الحلم ليس - أساسا- حارسا للنوم كما قال فرويد (*)، بل لعل النوم هو خادم الحلم، أى أننا لانحلم لنحافظ على استمرار نومنا، وإنما الأصح أننا ننام لنحلم أساسا، وبانتظام راتب، وأننا إن لم ننم، فلن نحلم، ولن نعيد تنظيم معلوماتنا وتشكيلها.
لقد تأكد من خلال تجارب الحرمان من النوم، ثم من تجارب الحرمان من الحلم (من النوم الحالم) أن وظيفة الحلم هى وظيفة تنظيمية، تعزيزية تعليمية أساسا، الحلم ليس مجرد تنفيث أو تفريغ أو تحقيق رغبة، كما أنه ليس مجرد حارس للنوم، وقد أدت هذه الصدمة المعرفية إلى التقليلٍ من التركيز على محتوى الحلم لحساب الاهتمام أكثر فأكثر بدوره فى تحقيق التوازن النفسى والتنظيم التركيبى فى الصحة والمرض.
المأزق:
لا مفر من التسليم بالمعطيات الفسيولوجية للنشاط الحالم، ولابديل عن الإقرار، فى الوقت نفسه، بخبرة الناس، والمبدعين، والمفسرين، فيما يتعلق بالمحتوى، وبالتالى: فلابد من حل يخرجنا من هذا المأزق. هذا بعض ما تحاوله هذه الدراسة، وبيان ذلك:
إن ظاهرة الحلم المسجلة، فسيولوجيا، هى النشاط الحالم الحيوى المتناوب مع نشاط اليقظة من ناحية، ومع طور بقية النوم (غير الحالم أساسا، وليس تماما) من ناحية أخرى، هذا النشاط الحالم يقوم بتحريك الكيانات الداخلية، أى أنه يقوم بقلقلة المعلومات التى لم تـُمَثل تماما، أى: بتفكيك البنية القائمة نسبيا بهدف تحقيق درجة أكبر من التوازن والتكامل والتمثل والاستيعاب. يتكرر هذا النشاط إيقاعيا، فى محاولة دائبة لاستكمال مهمة التوازن والنمو البيولوجى التى لا تكتمل أبدأ مادامت الحياة تنمو باستمرار.
الفرض (فيما يتعلق بالحلم أساسا):
من خلال ما تابعته فى الممارسة الإكلينيكية، وأيضا من الخبرة الشخصية تبين لى أنه حين يستيقظ النائم ـ أو يوقظ فى أثناء هذا التنشيط الإيقاعى المسمى النوم الحالم (أو النوم النقيضى: أنظر بعد) فإنه يواجَـه -“وهو يستيقـظ”- بكم غامر من مفردات (معلومات) تم تحريكها أثناء هذا النشاط (الحالم). وهو حين يحكى الحلم إنما يؤلف بين بعض هذه المعلومات بطريقة لفظية مَرْوِيّة حتى يمكن للغة الحكى أن تستوعبها، بدرجة ما، ومن ثَـم يمكن أن تنقلها إلى آخر، أو أن يتذكرها الحالم أو يسجلها لنفسه، ويتم التأليف (قبل التسجيل) – فى جزء من ثانية- بطريقة غير طريقة التفكير والتأليف فى أثناء اليقظة، ليكون الناتج هو هذه الصورة المكثفة المتداخلة، بما تحمل من سرعة نقل، وتدوير للزمن، أو عكسه، أو تقطيعه.(أنظر بعد).
انطلاقا من هذه المقدمة، التى هى جزء لا يتجزأ من الفرض يمكن أن يصاغ الفرض الأساسى لهذه المداخلة على الوجه التالى:
1- ثَمَّ نشاط بيونفسى (6) يسمى الحلم، وهو نشاط يشير إلى العملية الناتجة عن النشاط الإيقاعى الذى يمكن تسجيله برسام المخ، فيما يسمى نوم حركة العين السريعة. وهذا النشاط يشمل عمليات: القلقلة والتفكيك فإعادة الترتيب والصقل.
2- إن هذا النشاط الأساسى ليس هو الحلم الذى نحكية (فيفسره لنا ابن سيرين، أو فرويد) ولكنه المصدر الحركى للحلم المحكى، أو هو معمل أبجديته.
3 – تمثل المعلومات المُقَلْقلَة المُفكَكة المادة الخام (الأبجدية) التى نسج منها الحلم المحكى.
4- يتم تأليف الحلم أثناء (لحظات) عملية الاستيقاظ، لا قبلها.
5- إن الحلم المحكى ـ بناء على ذلك ـ هو نتاج عملية إبداعية هائلة السرعة، تتم فى جزء من الثانية، أو فى بضع ثوان(*)، فى حالة بـينية من الوعى، لاهى وعى الحلم، ولاهى وعى اليقظة.
(*) – من أهم مايساعد فى فهم ما ترمى إليه هذه الدراسة هو تصور الوحدة الزمنية الأصغر وقدرتها على احتواء تأليف مكثف، يبدو ممتدا عند روايته. ولتوضيح ذلك أورد ملاحظتين: الأولى حلم اقتطفه فرويد (حلم مورى 1878) (7) “.. كان مريضا يلزم الفراش وإلى جواره أمه، فرأى فيما يرى النائم أن الوقت هو حكم الإرهاب فى عهد الثورة (الفرنسية)، وجعل يشهد بعض مناظر الموت المروعة، ثم دعى للمثول أمام المحكمة، وهناك رأى روبسبير، ومارا، وفوكييه-تانفيل وسائر الأبطال المفجعين لهذا العهد الرهيب، وسأله هؤلاء الحساب. ثم بعد عدة من التفاصيل لم يعد يذكرها، أدين وسيق إلى ساحة الإعدام، يحيط به جمهور لا حصر له. وصعد مورى على المنصة وشده الجلاد إلى العارضة، وانقلبت هذه، وهوى نصل المقصلة، وأحس مورى برأسه ينفصل من جذعه، فاستيقظ فى رعب، فإذا هو يتبين أن رأس السرير قد سقط، فأصاب عموده الفقرى عند العنق، مثلما يفعل نصل المقصلة .
أوردت هذا الحلم لسبب غير السبب الذى أورده فرويد وهو يحاول الربط بين الحدث الخارجى ومحتوى الحلم. إن هذا الحلم يظهر مدى التناسب الظاهرى بين الحدث المسئول عن محتوى الحلم وبين القصة الممتدة كل هذا الزمن، بمعـنى أن سقوط رأس السرير لم يستغرق سوى ثانية، أو بضع ثوان فى حين أن الحلم كما حكى، استغرق كل ذلك الزمن، بما يدعم فكرة تناهى صغر زمن الحلم، وعدم ارتباطه بالزمن المحكى فى محتوى الحلم، فضلا عن ترجيح ما سيأتى به الفرض من أن الحلم قد تم تأليفه كله مع لحظة الاستيقاظ بسبب سقوط رأس السرير.
الملاحظة الثانية من خبرات شخصية أورد إحداها كمثال:
كنت أقود سيارتى ليلا فى طريق مصر- اسكندرية الزراعى- وقبل كوبرى قليوب العلوى بعشرات الأمتار رأيـتنى وأنا أخطب فى جمع من الناس، وأنادى أخا لى، وأتوعد بعض المارقين، وأسمع أغنية سخيفة ثم أستيقظ فزعا- فقد كنت مازلت أقود السيارة - لأجد أن السيارة لاتزال تسير مستقيمة وبسرعة، وأنظر إلى جارى الممتلئ يقظة فلا أجده قد لاحظ شيئا، فأعلم أنى حلمت كل هذه الأحداث فى جزء من الثانية، أو أقل أو أكثر قليلا، فأحكى الحلم لجارى فلا يكاد يصدق. أوردت هذا المثال الشخصى لتأكيد زمن الحلم المتناهى فى الصغر من ناحية، وللإشارة إلى عدم ضرورة علاقة محتوى الحلم بالأحداث الخارجية من جهة أخرى. ويمكن ربط هذه الفكرة المزعجة (تناهى صغر لحظة الحلم/ الإبداع) بمفاهيم كثيرة شائعة وصعبة الاستيعاب، مثل مفهوم الميكروجينى (الذى اقتطفه أريتى من فرنر)، و”لحظة” الإلهام عند المبدعين، وربما أصل به لمفهوم “الوثبة” فى إبداع الشعر.. . مما لا مجال لتفصيله هنا.
فى عمل لاحق لى “ترحالات” (مزيج من أدب الرحلات والسيرة الذاتية) مررت بتجربة مشابهة أثبتها فى هذا العمل الجزء الثالث من الترحالات (ذكر ما لا ينقال) (8) فتأكدت أن الخبرة الأولى فى الطريق الزراعى لم تكن مجرد مصادفة أو تصورا من جانبى.
6- إن تذكر الحلم أو حكيه أو تسجيله هىعمليات لاحقة لما تم تشكيله من هذه المعلومات المُقَلْقَلة، بتأليف تال فى زمن آخر، يسمح بالحكى أو التسجيل.
مستويات الحلم ومراحله:
أتوقف قليلا، لأعتذر للقارئ الأديب والشاعر والناقد، وبل القارئ عامة، لإقحامه بعيدا عن بؤرة ما اعتاده فى الحديث عن الأحلام أو الإبداع، إلا أنى أطلب منه أن يصبـر حتى يحكم على ضرورة هذه المقدمة وأهمية هذا الفرض فى التطبيقات المقترحة لقراءة الحلم وما يوازيها من كيفية قراءة (نقد) النص الأدبى.
يمكن تحديد المراحل (المستويات) التى يمر بها الحلم المحكى، من أول التنشيط الفسيولوجى، وحتى حكايته (حلما) (فى قص مسلسل أو صورة مشكلة) كما يلى:
-
تبدأ العملية بالظاهرة الأساسية التى تتمثل فى التنشيط الإيقاعى بالتناوب، الذى يسجل تحت مايسمى نوم الريم REM (*) وهو الحلم بمعناه الفسيولوجى، وفيها يتم التحريك، والقلقلة، والتناثر، للمعلومات.
(*) – كنت قد وضعت اختصارات عربية لطورى النوم، أسوة بالاختصارات الإنجليزية، وهى نوم “حرعس” REM sleep= Rapid Eye Movement Sleep اختصار لـ “حركة العين السريعة”، ثم نوم “بدون حرعس” NREM sleep اختصار الـ “النوم بدون حركة العين السريعة” REM = Non Rapid Eye Movement. لكننى تراجعت عن استعمال هذه الاختصارات فى هذه الدراسة على الرغم من تفضيلى لها، ذلك أن د. أحمد مستجير قد نحت مؤخرا كلمة نوم “الريم” نسبة إلى الحروف الإنجليزية، REM وهى كلمة أسهل مع أن بها – من وجهة نظرى – تغريبا نحن فى غنى عنه، ولكنها أسهل نطقا فتصبح أيسر استعمالا.
-
تتحرك الكيانات المكونة للدماغ/المخ (الذات) (*)، تأهبا للتأليف، والتمثل، والتعزيز. هذا المستوى المبدئى إنما يمثل حدة التنشيط الدورى فى طور البسط.
(*) – تستعمل كلمتى: المخ ـ الدماغ (ومؤخرا: العقل والعقول) بالتبادل كمؤشر دال على التركيبة البشرية الرائدة، بيولوجيا، إلا أنها ليست بديلة عن كلمات: الذات ـ الوجود ـ التركيب، باعتبار أن لغة هذا المقال تركز على كلية الكيان البشرى، وإن كان المنطلق المبدئى بيولوجيا كما اسلفنا.
-
إن المحتوى الفج الذى يتحرك فى هذا المستوى لايظهر أصلا فى وعى اليقظة، فهو بالتالى أبعـد عن أن تتناوله قدرة الحكى من حيث المبدأ (فى الأحوال العادية)، فيظل رصده لا يتعدى رصد النشاط الكهربى الدال عليه، لكن آثاره التنظيمية، والتعليمية، والنمائية، هى التى يمكن قياسها، أما محاولة تسجيل المراحل الأسبق فتبدو مستحيلة بالأدوات، الحالية(*)
(*) – قمت بعد ذلك بتتبع خطوات بحث فى الأحلام تمهيدا لرسالة دكتوراه قام بها د. سيد حفظى وكنت المشرف عليها، وقد حاولنا تسجيل الأحلام فى أثناء الاستيقاظ، وبخاصة إذا عاد الحالم إلى النوم، وأيضا حاولنا التسجيل الفورى بالكتابة، والتسجيل الفورى صوتيا عقب الاستيقاظ بفترة ما، وكذلك التسجيل بالرواية لآخر، ثم الاستعادة…إلا أن نتائج كل هذاه المحاولات لم يقربنا أكثر من فروض هذا البحث ربما لاختلاف الوحدة الزمنية.
-
قد يظهر هذا النشاط الفج بأقل قدر من التأليف الضام أو المسلسل، وهو ما نستنتج بعض ملامحه فيما يظهر فى شكل ما يسمى “الأحلام الذهانية” أو شبه الذهانية، حيث يبدو محتوى الحلم مقطـعا وبدائيا وفجا ومتناثرا ومرعبا مشتملا على أجزاء الجسد، والكائنات الخرافية والنقلات المستحيلة، مما لا يمكن جمعه إلا لصقا متعسفا. إن ما يسمى الأحلام الذهانية ليس ذهانا (مرضا) ولا هى أحلام الذهانى، لكنها قد تعتبر فى بعض الأحيان إرهاصات بالنكسة أو إنذارات تفسُّخ قادم، على أن هذا النوع من التناثر هو نفسه الذى قد يكون المادة الأكثر أصالة لما سوف يسمى فيما بعد “الإبداع الفائق” أو “الخالقى”.
-
أغلب الأحلام المحكية يتم تشكيلها “أثناء” عملية الاستيقاظ، لا بعد الاستيقاظ الكامل، ولا هى ما حدث أثناء الحلم فعلا، ذلك أن الشخص وهو يعايش مرحلة استيقاظه يلتقط بعض معالم المادة المستثارة بدرجة تسمح له أن يؤلف منها حلمه الذى يحكيه على أنه الحلم.
-
فى كثير من الأحيان، وبعد أى مرحلة من هذه المراحل، قد لا يستطيع الحالم أن يحكى الحلم، وكثيرا ما ينكر أنه حلــم أصلا، وهذا لا يعنى أن ذلك صحيح، بل إنه قد يشير إلى غلبة ميكانزمات الإنكار والمحو والكبت التى تمنعه من مجرد حكى أحلامه.
يمكننا، إذن، صياغة عملية الحلم فى مراحل ثلاث أساسية، هى:
المرحلة الأولى:
يتم فيها الحلم، دون إمكان حكايته، وهى ما سوف نسميه هنا: “الحلم بالقوة”، أو الحلم الخام (حركية الحلم الأولية).
المرحلة الثانية:
يغلب فيها “الرصد” على “التأليف” مع احتمال حكاية بعض هذا الحلم. “هكذا”، بقدر هائل من تناثره وتكثيفه، ونسميها: “الحلم بالفعل”، أو “الحلم الحركى“.
المرحلة الثالثة:
هى المرحلة التى تسمى عند العامة وعند الخاصة أيضا ”حلما” من حيث إنها الحلم كما يحكيه الحالم تأليفا عادة، ونسميها: “الحلم بالتأليف” أو “الحلم المبدَع”، على أن هذه المرحلة الأخيرة ليست واحدة، عند كل الناس، ذلك لأن التأليف يختلف أصالة وتزييفا، بحسب درجة وصاية نوع التفكير االذى يقوم بعملية الإبداع ساعة اليقظة، أى الذى يتولى مهمة إعادة التشكيل من المادة (المعلومات) المتاحة عند الاستيقاظ مباشرة.
وتقل جرعة إبداع الحلم كلما اقتربت حكاية الحلم من اللغة العادية والتسلسل التتابعى العادى، حتى تصل بعض الأحلام إلى حد تكاد عنده ألا تكون لها علاقة أصلا بالنشاط الحالم الذى أثارها. مثل هذه الأحلام هى التى تستحق أن يقال عنها “الحلم بالتزييف”.
يمكن أن نتصور متدرجا ـ نظرياـ لإبداع الحلم، يبدأ فى أقصى ناحية من تصور أن المادة التى نُشطت يمكن أن يلتقطها الحالم كما هى (كالتصوير الفوتوغرافى العادى)، وهذا مستحيل كما أشرنا، وينتهى فى أقصى الناحية الأخرى، بتصور أن المادة المُنشطة سوف تختفى تماما من وعى اليقظة، وتحل محلها مادة بديلة أو مزيفة، وهذا ما يبدو فى صورة الأحلام التى تُـحكى متسقة ومنتظمة ومسلسلة وظاهرة الدلالة، والتى تشبه كثيرا أحلام اليقظة، أو أحداث اليقظة.
وكل مايقع بين هاتين النقطتين القصويين يمثل درجة ما من درجات الإبداع الذى يختلف باختلاف قدر تحمل المواجهة الغائرة التى تَعْتَعَها نشاط الحلم الأساسى.
بقدر اختلاف جرعة أمانة التسجيل من ناحية، ونشاط التأليف الضام للمادة المستثارة من ناحية أخرى، فى مقابل التسجيل المَلَّفق، دون وعى كامل: يبدو الحلم إبداعا أصيلا، أو تفسخا غامضا أو تسطيحا بديلا.
الحلم بالقوة
على هذا الأساس يمكن تقسيم الأحلام حسب موقعها على هذا المتدرج إلى مستويات حسب:
(أ) درجة التكثيف
(ب) فرط التداخل
(جـ) مستوى اللغة المستعملة
(د) نوع العلاقات.
-
فثم حلم شديد التكثيف، سريع النقلات، متعدد الطبقات، واهـى العلاقات، وهو الأقرب إلى ما أسميناه “الحلم بالفعل” (= الحلم الحركى) مع تذكر أن الحلم الخام، أى الحلم بالقوة، السابق للحلم بالفعل لا يظهر كما هو أبدا. فعل الإبداع (إبداع الحلم بالفعل) هنا قوى وصادق، لأنه ليس تصويرا بسيطا، ومن ثم فإن حكايته كما هو - لو أمكن - هى محاولة إحاطة ضامّة لتناقضات مواجهة، فى إطار مسئولية الوعى، وعادة ما يصعب أو يستحيل ترجمته حرفيا إلى لغة اليقظة، فهو لا يُحكى عادة بما هو، فإذا حُكى فإنه يحكى بشكل غامض ومتداخل واحتمالىّ، وليس بشكل حكى واضح مسلسل.
وقد تظهر لمحة منفصلة من هذا الحلم بشكل شديد التركيز يمكن أن نطلق عليه إسم: “الحلم اللقطة Shot تكون أكثر وضوحا وأقل تشكيلا لشدة قصر الحلم مما يخفف من غموضه وإن لم يقلل من عمقه.
-
كلما قلت جرعة التناثر وخف التكثيف وزادت غلبة التفكير العادى (التفكير من نوع: “حل المشاكل”) نبتعد عن عمق ما هو حلم بالقوة أو بالفعل، لنتجه نحو ما هو تأليف وإبداع فى حالة وعى متوسط بين النوم واليقظة.
-
ثم ينتهى المتدرج إلى الحلم المزيف (الحلم اللا حلم)؛ وهو الحلم الذى يكاد أن ينفصل عن جوهر التنشيط الحالم، ومن ثم المادة المفككة المستثارة؛ وكأنه استبدال للحلم الأصيل بحلم مصنوع بتأثير خيال يشبه خيال حلم اليقظة، وهو يتم فى وساد ما يمكن أن يسمى: الوعى المنشق (9) وهو وعى مواز لوعى اليقظة وليس متبادلا معه مثل وعى النوم ووعى الحلم الفسيولوجى ( الخام بالقوة).
قد نقابل هذا النوع من الأحلام المزيفة، عندما نوقظ النائم فى فترة النوم غير الحالم (بدون الريم) NREM، فنجده يحكى حلما يقال عنه إنه “مثل-التفكير المفهومى فى اليقظة” (10) ويقصدون أنه مرتب، منطقى، مسلسل، واضح. وهذا يؤكد ماذهبنا إليه من أن مثل هذا الحالم حين أوقظ لم تكن فى مواجهته مادة (معلومات) مفككة متزاحمة متحركة أصلا، وبالتالى لم تتحرك العين بسرعة لتتبعها، فانشق وعى اليقظة ونسج ما يتلاءم مع شقه الواعى، مثلما تعّود فى حالة اليقظة.
[1] – يحيى الرخاوى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع”[جدلية الحلم والشعر والجنون] المجلس الأعلى للثقافة الطبعة الأولى 2007- القاهرة، والكتاب يوجد فى الطبعة الورقية بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
[2] – سيجموند فرويد: “تفسير الأحلام” ترجمة مصطفى صفوان، (ص 31) دار المعارف (1981)، القاهرة.
[3] – أنظر هامش (2) (صفحة 31)
[4] – أنظر هامش (2) (صفحة 125)
[5] – أنظر هامش (2) (صفحة 109 – 110)
[6] – Psychobiological
[7] – أنظر هامش (2) (صفحة 64 – 65)
[8] – يحيى الرخاوى (الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”) (ص 202) منشورات جمعية الطبنفسى التطورى سنة 2000 – القاهرة
[9] – Dissociated consciousness
[10] – Castaldo V. Shevrin H. (1968): Different Effects of an Auditory Stimulus as a Function of REM and NERM Sleep Psychophysiology 5: 219، (After Hall J).