نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 31-8-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4382
الكتاب الثانى:
“جدلية الجنون والإبداع” (1) (الحلقة التاسعة)
……….
……….
مآزق:
على الرغم من أننى أعيش هذه الدراسة بما هى فعل يومى منذ سنين عددا، فإنى أعلن أنى واجهت صعوبات شخصية متحدية وأنا أحاول تسجيل بعض معالمها، كما حاولت اقتحام مناطق كنت أحسب أننى قد اعتدت ارتيادها، إلا أنها بدت لى جديدة ووعرة وواعدة فى آن. وقد تصورت وأملت أن يشاركنى القاارئ مثل ذلك وغيره، فقدرت أن أسجل فى نهاية هذه الدراسة بعض ما أعده مآزق تتطلب موقفا بقدر ما تلقيه فى وجوهنا من تحديات، ثم أردف ذلك ببعض الإشارات الواعدة بتطبيقات محتملة، علها تخفف عنا ما يمكن أن تخففه لنواصل المحاولة.
1 – المأزق الأول:
هو ضرورة مراجعة المنهج الذى نتناول به قضايا الإبداع، والجنون، والعلاقة بينهما، تلك العلاقة التى تحتد وتتعقد فى أول انبعاثات العملية المشتركة، وهى مرحلة كما ذكرنا بعيدة عن التناول المباشر، حتى لصاحبها، كما أن الوحدة الزمنية التى تحدث خلالها هى أقصر من أن تكون فى متناول الدراسة أصلا، كما أنها - أخيرا- من المحال إعادتها للتحقق منها، فلا الملاحظة مفيدة، ولا الذاكرة مسعفة، ولا الألفاظ الشارحة مستوعِبَة أو كافية، ذلك لأن العملية الإبداعية برمتها تتم بعيدا عن متناول الدراسة ولا يصلنا منها إلا بعض ما يرصده المبدع أو يسنتجه الناقد فى منطقة الخبرة بإبداع مواز، فلا سبيل إلى هذه المنطقة أصلا، مهما صدق واجتهد الباحث، دون إنكار فضله فى إضافة إشارات دقيقة على هامش المسألة.
لا يغنى فى حل هذا التحدى أن تتجه الدراسات إلى الاهتمام بالمسودات (برغم أنها خطوة فى الاتجاه الصحيح)، لأن المسودة مرحلة لاحقة للإرهاصات الأولى بشكل أو بآخر، إذ تظهر ـ على الرغم من تشوشها المبدئى ـ بعد قليل من تخطى المنطقة الضبابية التى تبدأ منها حركية المسارين. وأخيرا فإن التذرع بما يسمى المنهج الفينومينولوجي-كما تعودت أن أفعل- هو حل وارد لكنه صعب، وقد يختلط بالذاتية والشخصنة بجرعة تزيد أو تنقص، إن هذا المنهج ـ الفينومينولوجى ـ هو عملية إبداعية قائمة بذاتها، بحيث يصعب تصنيفه بنفس لغة ما يسمى “المنهج العلمى” عموما، مع أنه منهج علمىّ معرفى أساسى.
2 – المأزق الثانى:
هو كيفية إنقاذ المسيرة البشرية من طغيان مستوى ظاهر من الوعى والسلوك على بقية الوجود. وهو ما أشرنا إليه منذ البداية من خطر تغليب قيمة الحياة الكمية – إذ أننا نعلى من قيمة ناتج الإبداع على حساب قيمة الإبداع ذاته. وقد عرضنا فى هذه الدراسة (ومن قبل فى دراستنا عن الإيقاع الحيوى) (2) مدخلا للنظر فى “الإبداع اليومى للإنسان العادي، فلعلنا ننتبه من خلال ذلك (من خلال التفرقة بين عملية الإبداع وبين ناتجه المنشور أو المرموز) إلى أننا فى معظم الدراسات الشائعة لانقارن عادة بين حالة الجنون وحالة الإبداع (بالتحديد الذى أوضحناه لكلمة “حالة”)، وإنما نحن نقارن – فى الأغلب- بين ناتج الإبداع التشكيلى الرمزى وظاهرة الجنون المرضية “القائمة”، وأحيانا ما نقارن بين صفات كل من المجنون والمبدع وقدراتهما، حالة كونهما بعيدا عن حركية العمليتين أساس التفاعل والمقارنة. ولعل ذلك -هو المسئول جزئيا عن اختلاط نتائج الأبحاث فى هذه المسألة وتداخلها وتعارضها، فالانتباه إلى أن الإبداع هو عملية، وحالة، وناتج أحيانا، وأن الجنون هو عملية وحالة، مع ندرة ناتجه خارج مايلحق بذات المجنون وسلوكه، لابد أن يلزمنا بتحديد مستويات المقارنة ابتداًء حتى لايختلط الأمر.
للخروج من مأزق طغيان المستوى المفاهيمى المصقول الظاهر على بقية مستويات الوجود البشرى، علينا أن نرجع ـ ما أمكن ـ إلى بدايات حركية الجدل، لنتبين أن إهمال جانب من جوانب التناقض (خوفا من ناتجه السلبى) هو المسئول عن اختزال الإنسان إلى ما آل إليه، وأنه لا سبيل إلى الخروج من هذا المأزق إلا بالانتباه إلى اللغات الأخرى والعلاقات الأصعب (غير المعلنة مباشرة).
3 – المأزق الثالث:
هو ما تفرضه علينا ضرورة انتباهنا إلى حتمية الحركة، ومن ثم حتمية الجنون، أو بتعبير أكثر لطفا، وأقل دقة، حتمية اختراق الجنون، فإذا قبلنا أنه لكى يكون الإبداع إبداعا حقيقيا لابد أن تكون ثمة مخاطرة بالتفكك (بلا ضمان مسبق)، وهذا ما أشرنا إليه بوصفه جنونا، وإذا كان هذا التفكك لايحدث فى أمان نسبى إلا فى جوف نشاط الحلم، وإذا كان هذا غير كاف فى بعض الحالات، فعلينا أن نعيد النظر فى موقفنا مما هو تفكك = جنون، لا لنبرر استمراره إلى مايهدد به، وإنما لنتحمل مسئولية اختراقه بما يتصاعد بمسيرة النمو، كما أسلفنا.
وإذا كان أغلب الإبداع هو من نوع “الإبداع البديل”، ومن ثم فهو ليس بالضرورة اختراقا للجنون وجدلا معه، بل هو إبعاد له وحلول محله، فإن علينا أن نخفف قليلا أو كثيرا من الاحتفاء به، خشية أن يوردنا التمادى فى ذلك إلى إغفال الإبداع العادى (اليومى للشخص العادى بلا ناتج منفصل عنه) من جهة، وتجنب الإبداع الفائق، من جهة أخرى. ولا أنصح فى ذلك بداهة بالإقلال من شأن هذا الإبداع البديل، أو الخوف من إعاقته لخطى التطور (3). فهو تنسيق أصيل، ورؤية مستطلعة، وجمال مضاف، فضلا عن أنه أفضل من بديله: الجنون (المقابل) على الأقل.
4- المأزق الرابع:
لو أننا قبلنا أنه لكى يكون إبداع فائق فلا مفر من اختراق الجنون، لواجهنا مسئولية ضرورة تهيئة الظروف المناسبة- دينيا وسياسيا واجتماعيا وتربويا- التى توفرجرعة بالغة الدقة من السماح والضبط، بما يواكب المسيرة، ومرونة النبضة، ورحابة الاستيعاب. وبألفاظ أخرى ننهى هذه الفقرة بأنه:
لمّا كان الإبداع حتما، ومواجهة الجنون من خلاله ضرورة خطرة، والعدول عنه جمودا، وإجهاضه تشويها، واستمرار معاودته -هكذا- معاناةً لا يقدر عليها واحد وحده، كان لزاما علينا أن نحيط المسيرة بما يوفر ترجيح الناتج الإيجابى للجدلية الجارية، ومن ذلك:
مساحة الحركة، وضمان المرونة، وضبط التوقيت، واستمرار الإبداع المُوَاكب على مستوى السامـع والمحاور والمجتمع من خلال التخاطب المتعدد القنوات، كل ذلك فى إطار حرية (لا تستثنى البيولوجى) تتناسب مع حركية الجدل وقوانينه (4) (انظر الكتاب الثالث).
على أنه يجدر بنا فى هذه المرحلة أن نعيد النظر فى الاتجاه السائد لما يسمى “تنمية قدرات الإبداع”. ذلك بأن مثل هذا الاتجاه يصوِّر للإبداع قدرات متميزة كأنها تقع فى بعض جوانب الحياة العقلية لبعض الناس، والأوْلى بنا من خلال ما قدمنا أن نعطى نفس الأهمية وأكثر لما يمكن أن يسمى: “السماح بحركية الإبداع”، وهو الأمر الوارد عند كل شخص بطبيعة تركيبه الحيوى. وبألفاظ أخرى فإن المسألة ليست فقط قدرات ومواهب، تزيد أو تنقص، وإنما هى حركية جدلية حتمية تتوجه وتؤلِّفْ، أو تـجهض أو تُنكر (5).
لابد من إعادة النظر فى مسألة التربية- على النطاق الأوسع- من منظور حركية الإبداع وليس من منظور قدرات خاصة موجودة هنا، وناقصة هناك، مما يسمى أيضا “ملكات” أو “مواهب” أو ماشابه ذلك. إن الدور التربوى هنا لابد أن يهدف إلى ضبط الجرعة: بالممارسة على كل مستوى وليس بالتلقين – وهذا يتطلب:
(1) المرونة فى إطار متحرك،
(2) ثم المرونة دون شروط،
(3) ثم المرونة المواكَبة بالاختلاف الخلاق،
(4) ثم التحرك فى مساحة الغيب المفتوح،
(5) ثم العناية بالتواصل الأسرى والاجتماعى من خلال القنوات غير اللفظية-أيضا، (وربما قبلا)،
(6) ثم حركية الإيمان/ الدين الشعبى/ التصوف/ الإيديولوجيا/ المراجعة… إلخ،
(7) ثم حركية التلقى فى مجالات النقد المبدع على مختلف المستويات. وهكذا باستمرار وغير ذلك مما لامجال لذكره هنا الآن.
وغدا نواصل عرض التطبيقات المحتملة لهذه الفروض الجامعة والتوصيات العملية
[1] – هذا هو الكتاب الثانى باسم “جدلية الجنون والإبداع” نشرت صورته الأولى فى مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986 ص(30/58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، وهو الفصل الثانى من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net ، وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى ثلاث كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو الثانى.
[2] – يحيى الرخاوى: الكتاب الأول “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” منشورات جمعية الطبنفسى التطورى 2019 (تحت الطبع)
[3]- مررت بفترة كنت فيها أعد أى إبداع رمزى مسقط خارج الذات مهربا من مواجهة مسئولية النمو الذاتى، وكان هذا نتيجة لملاحظتى للارتباط التناسبى العكسى بين قرض الشعر مثلا ونبض “الحضور الفعلي” فى العلاج الجمعى، ثم رويدا رويدا عدلت عن ذلك، على الرغم من أنه مازال يمثل فى مختلف مراحل كتاباتى، أرضية فاعلة فى معظم الوقت- ورجحت أن من لا يستطيع أن يعيش ما يراه (إبداعا) فليكتبه لمن يستطيع (مستقبلا)، ورضيت بهذا التأجيل والتبرير.
[4] – أنظر الكتاب الثالث “عن الحرية والجنون والإبداع”
[5]- فيما عدا ما يسمى الزملة المخية العضوية Organic Brain Syndrome بما يشمل الذهان المصاحب لها، حيث تحدث الأعراض بما فى ذلك التناثر، ليس نتيجة لضغط مفكك، وإنما نتيجة لتقطع عشوائى بسبب إصابة أو تهتك أو ورم أو تسمم. ولايسرى على هذا النوع أى مما ذكرنا، اللهم إلا فى هوامش الأعراض التعويضية، وبدرجة طفيفة ومحورة لا أهمية لها فيما يتعلق بالفرض الحالى.