نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 10-8-2019
السنة الثانية عشرة
العدد: 4361
الكتاب الثانى:
“جدلية الجنون والإبداع” (1) (الحلقة الثالثة)
……….
……….
إيضاحات، وتحفظات حول طبيعة التنشيط ومراحل التنظير
نحن إذْ نوافق أريتى من حيث المبدأ على ما ذهب إليه من أهمية الصورة بما هى مادة أولية، ثم على أساس التعامل مع المكد بوصفه كتلة معرفية، مدغمة وضبابية وضاغطة فى آن واحد، نتوقف قليلا، خوفا من أن تنتقل هذه الرؤية وهذه الموافقة بطريقة تجزيئية، تختصر عملية الإبداع إلى ما يبعدنا عن مسئولية الإحاطة بها بما هى، علينا أن نضيف بعض الإيضاحات المكمّلة، والتحفظات الواجبة، قبل النظر فى هذه الوحدات الأولية، وطبيعة العلاقة فيما بينها، وفى مستوياتها، فنقول:
إن كلا من الصورة، والمكد، وسائر الوحدات المعرفية الأولية، إنما تنشط، وتتحرك، وتُـحرك فى مستوى من الوعى يمثل كلية شاملة، ويتفاعل بهذه الكلية مع مستويات أخرى “. ومن خلال تبنى المفهوم الأحدث للبصم، (2) واعتمال (فعلنة) المعلومات (3) على مستويات متعددة، نستطيع أن نفهم العلاقة الوثيقة بين الإدراك الجشتالتى، والذاكرة الكلية، وتعدد التنظيمات البيولوجية (بنيات الوعي)، من جهة، ومفهوم تعدد الذوات من جهة أخرى. وأهمية هذه الإطلالة هى أن هذا التعدد يمثل:
أولا: الثروة الأساسية التى يستمد منها الإبداع مادته،
وثانيا: أن الإبداع يخلق من هذه المستويات المتبادلة فىالأحوال العادية بنية جديدة، من خلال تآلفها الجدلى النشط.
أى أن الإبداع ينشّط أكثر من مستوى من مستويات الوعى (على أساس أن كلا منها تنظيم كامن، وليس مجرد مفردات أو معلومات متجاورة)- ينشطها من كمونها إلى ما هى، وفى الوقت نفسه إلى ما تتفاعل به مع غيرها من مستويات وعى آخر ليتخلق منها معا وعى أعلى فلا يكتفى أى مستوى مفرد بأن (أ) يحضر دوريا، (ب) أو أن يتنحى”تبادلا ” أو (جـ) أن يستدير منغلقا فى دائرة مغلقة (4).
ثانيا: إن مستويات الوعى بما هى، “تركيبة كلية شديدة التداخل” لا تُرادِفُ تلقائيا ماهو تعدد الذوات (5)، فهى بنيات موازية ومتداخلة. إن الذى ينشط ليتفاعل فى جدل الإبداع ليس فقط مجرد وحدات أولية غامضة، مع لبنات مفاهيمية مصقولة، ولكنه أيضا مستويات وعى وذوات كلية متضاعفة فى الوقت نفسه.
ثالثا: ثم تأتى قضية دافع التنشيط، فهل نستسلم لرؤية تقول إن التنشيط إنما يأتى نتيجة لضغط المعرفة الأولية الملحة للظهور، بسبب ما أصابها -وتعانيه- من إنكار، وكبت؟ أم أن ثمَّ سببا آخر وطبيعة أخرى (دون إنكار هذا الضغط اللحوح)؟
هنا: يجدر بى أن أثبت أنى مررت – من واقع معايشتى خبرتى وخبرة مرضاى ومحاولاتى النقدية جميعا- بأربع مراحل إزاء هذه القضية.
1- فقد رأيت باكرا أن التنشيط إنما يحدث فى حالة أزمة الانتقال من مستوى أدنى للصحة النفسية إلى مستوى أعلى (نتيجة لإخفاق مرحلة التوازن الأدنى للصحة النفسية، وذلك إذا استنفدت المرحلة الجارية أغراضها، أو أنهكت، أو نتيجة لجرعة رؤية زائدة، أو لفقد التوازن البيولوجى… الخ.) (6) هذا بالنسبة لما يحدث على مسار النمو المتصل للفرد. وقد بدا لى كذلك أن خبرة إبداع ما هو ناتج رمزى خارجى مثبت (على فترات) هى بمثابة خبرة مؤقتة، وبديلة، لهذه النقلة النمائية، بمعنى أن الإبداع هو محاولة لإعادة التوازن على مستوى أعلى، ذلك التوزان الذى هزته أزمة النمو حين استنفدت مرحلة سابقة للنمو أغراضها، ولم تعد تكفى للحفاظ على التوازن بالقوانين الأدنى.
إلا أن هذا الفرض لم يحدد طبيعة التفاعل بين أى مستوى وآخر، بل أكد ترجيح وسيلة (قدرة) توازن على أخرى مما هو مفترض أنه موجود أصلا منذ البداية، وذلك بعد أن رتب المؤلف مراحل النمو فى ثلاث مراتب (أ) مرحلة غلبة التوازن بالدفاعات (ب) ثم مرحلة غلبة التوازن بالبصيرة (المعقلنة) (جـ) وأخيرا مرحلة غلبة التوازن بالولاف الجديد (الإبداع).
هذه المرحلة الباكرة من تنظيرى (1968) إنما تصف نوعية فكرى التى كانت آنذاك والتى غلبت عليها جرعة ليست يسيرة من مفاهيم ما يسمى “علم النفس الإنسانى” الذى يؤكد هيراركية النمو، وإيجابية صفات إنسانية بذاتها، دون أن يعمق تفاعل وحدات وجود بيولوجى حركى يسعى إلى التكامل، كذلك كنت واقعا تحت تأثير غلبة فكرة “تنمية قدرات الإبداع”، وكأنها ملكات خاصة يتمتع بها كل فرد قليلا أو كثيرا ويمكن أن تزيد “كمًّا” بالتدريب أساسا.
بالرغم من تراجعى النسبى عن تفاصيل هذا الفرض، فقد أضاف لى بُعدين ما زالا يمثلان ركنا أساسيا فى فكرى الحالى: فمن ناحية أكد أن الإبداع هو احتمال قائم عند كل فرد، أيا كان، بعيدا عن تخصيص ملكات بذاتها لفئة بذاتها، ومن ناحية أخرى أظهر كيف يكون الإبداع حاضرا فى الفعل اليومى والنمو الذاتى، دون حاجة إلى تسجيله فى ناتج تشكيلى رمزى.
ومع كل ذلك فقد ظلت تلك المرحلة تمثل فكرا: بعيدا عن الأساس البيولوجى، مغفِلا الوحدات الأساسية للمعرفة البشرية وصورها التركيبية المختلفة، مهمِلا طبيعة حركية العلاقة الإيقاعية الجدلية المنتظمة والمنظِّمة للوجود البشرى، وأخيرا، وهو يبدو بطئ الإيقاع (بما يشيرإلى سكونية نسبية، ربما كانت تحيط بي آنذاك بشكل ما).
2 – اقتربتُ بعد ذلك من قضية الإبداع من خلال بعد بيولوجى أعمق. ذلك بأنى عدت أنظر إلى التنشيط ونتاجه الإبداعى من مدخل غريزة العدوان والجنس من زاوية مختلفة، حيث رجحت أن التنشيط إنما يحدث ليستوعب طاقة غريزية فى سعيها إلى الالتحام بالكل الأرقى والأكثر تعقيدا، يستوعبها بها، وليس على حسابها، وهو ما ينتج عنه بعد ذلك إبداع تشكيلى بديل (ناتج إبداعى)، أو إبداع حياتى متصاعد (= نمو جدلى). وقد كان احتوائى لنظرية دافعية الغرائز فى هذه المرحلة مرتبطا أساسا ببحثى عن صورة جدلية ولافية وقادرة على احتواء الغرائز دون الاكتفاء بالإبدال الأرقى (التسامى)، الذى تمادى فرويد فى تأكيد أنه الوسيلة المثلى للتحكم فى غريزة الجنس بصفة خاصة. من هذا التوجه أمكن التمييز بين الإبداع البديل (بالتسامى) والإبداع الجدلى المشتمل على فعل الغريزة فى أرقى درجات تكاملها، سواء فى جماليات التواصل النابعة من حفز الجنس فالالتحام به، أم من أصالة الإقدام المُواجِهِى، النابعة من جدل العدوان بالمعرفة الأحدث (7).
هذا المنظور يركز على دافعية الإبداع، وأيضا على أن للغرائز فى ذاتها دورا إيجابيا يسهم فى صورته الأرقى فى عملية الإبداع دون إبدال أو تسام. لكننى تبينت بعد ذلك كيف عجزت حتى ذلك الحين عن أن أتبين طبيعة وحدات التفاعل الأولية، وأيضا تفاصيل العملية الجدلية المتعددة المستويات.
3 – انتقلتُ بعد ذلك خطوة أخرى فى اتجاه آخر، مقتربا من بدايات النمو النفسى من ناحية (حيث يبدأ الكائن البشرى خطواته الأولى مطروحا بين جرعات متراوحة من “الأمان والتوجس” معا)، ومقتربا فى الوقت نفسه -من ناحية أخرى- من تناول بعض مسألتى الإبداع والمرض النفسى من خلال حركية جدلية أكثر عمقا، وأدق تفصيلا. فقد ميزت -فى عمل نقدى مقارن بين رباعيات الخيام، وسرور، وجاهين (8) – بين شكل ناتج الإبداع ومحتواه لدى كل منهم بما يتناسب مع ترجيح جرعة الأمان أو التوجس وطبيعة العلاقة بينهما، وافترضت فى ذلك احتمالات ثلاثة:
* فرأيت أن “نقص الأمان “ إذا كان هو الدافع إلى الإبداع أساسا أنتج إبداعاً مثل “رباعيات الخيام”.
* وجعلت الاحتمال الثانى، وهو “فرط التوجس”، مبررا ودافعاً لنوع الإبداع ومحتواه كما ظهر فى”الهجوم الدفاعى المتلاحق “فى رباعيات سرور.
* وأخيرا جعلت الاحتمال الثالث، وهو “تناسب جرعتى الأمن والتوجس، مع غلبة الأولى، وحركية الاثنين معا حركة نشطة دائبة “هو ما يفسر طبيعة رباعيات جاهين وتشكيلها من حيث هى….. وقد وضعت المقابل لكل من هذه الاحتمالات مرضا نفسيا بذاته، أوعدة أمراض (9).
وقد أشرتُ فى هذا العمل نفسه إلى ما أعنيه بطبيعة الأمان، من أنه ليس هو المفهوم السائد بمعنى “الحب ” أو “الحنان ” أو ” الأمومة “، لكنه “تناسب العطاء (نوعا، وكمًّا) – مع الاحتياج (نوعا وكمًّا”)، كما أكدت علاقة الإبداع بهذا “العطاء” الكافى، وأن طبيعة هذا العطاء تشمل ما هو “معلومات ” (بالمعنى الأعمق لرسائل المعنى) كما تشمل حضور الموضوع فى الوعى (الرِّى العلاقاتي).
وقد خَلُصْتُ فى بعض جوانب هذا النقد إلى أن “… عدم الانتظام والتناسب فى جرعات المعلومات المؤمِّنة لاينتج عنه بالضرورة مرض نفسى، بل يمكن أن ننظر فى وجهه الآخر لنجده هو هو وراء بعض أنواع الإبداع… “ (10). ومن ثم تمت هذه النقلة/الإضافة- دون التنازل الكامل عما سبقها – لتعلن بدايات نظر أعمق فيما هو دافعية وجدلية معا، حتى أننى أشرت إلى ذلك مباشرة فى ذلك العمل نفسه، وكيف أن حركة التناوب بين الفرح والاكتئاب (فى صورتها الإبداعية، وبدرجة أقل فى صورتها المرضية) ليست حركة بين قطبين متنافرين كما يبدو من ظاهر اللغة وشائع الاستعمال.. ولكنها حركة بين نشاطين ينشأ كلاهما (وخاصة فى وجههما الإبداعي) من توازن الأمان والتوجس فى حركية فاعلة (أكرر: وليست حركة تسوية ساكنة). يتأكد المنظور الجدلى هنا من القول بأنه “… لكى يسمح بهذا التجاوب الخلاق فإننا نتوقع أن تكون جرعة الأمن (مع وجود جرعة التوجس) حقيقية وعميقة، وفى الوقت نفسه ناقصة وواعدة.. “.
وصلتُ فى النهاية من خلال هذه الدراسة إلى أن ثمَّ منبعا مشتركا للمرض والإبداع فى حالة جاهين بصفة خاصة، وهو الأمان المسنود بدعم التوجس، وأن ثمَّ مصبا أعلى”… يتأكد من منظور النمو الجدلى ” كما ظهر فى إبداع رباعيات جاهين أيضا.
وقد حددتْ هذه المرحلة من فكرى إضافة دالة، جاوزت “التوازن القدراتي”، و”الدفع الغريزى ” (دون رفضهما)، لتقتحم عمق حركية “المعلومات “الناقصة وغير المستقرة وطبيعتها الساعية إلى البسط الولافى” فى علاقتها بالآخر (الموضوع). لم أكن حتى ذلك الحين قد تكشفت لى الطبيعة البيولوجية الإيقاعية الأساسية فى إسهامها فى عمليتى الإبداع والجنون.
4- انتبهتُ أخيرا إلى أن هذا التنشيط لمادة الإبداع لايحتاج بالضرورة إلى مثير بمعنى الدافع الخاص، سواء كان هذا المثير نقلة من مستوى توازن صحى أُرهق أو استُـنْـفِدتْ أغراضه، أو كان ضغطا من غريزة أُهملت أو كبتت أو شاركتْ، أو كان نتيجة لعدم كفاية أو توازن جرعتى الأمن والتوجس.
أخيراً تبين لى أن التنشيط عموما هو فى الأساس جزء لايتجزأ من عملية بيولوجية مستمرة، تحدث تلقائيا كل يوم وليلة فى الدورة الليلنهارية (اليوماوية= السركادية Circadian)، بما يشمل دورات “الحلم/ والنوم” (11) (أنظر: الكتاب الأول)، وأن صور الإبداع تختلف باختلاف الناتج الذى ليس قاصرا على ما نعرفه من إبداع خارجى مسجل كنصوص متاحة. ومن ثم فقد وصلتُ إلى أن: الإبداع هو دورة حياتية طبيعية لها صور مختلفة، ليس أقلها إبداع الشخص العادى الذى يبدو فى صورة استمرار سلاسة ومرونة وجوده المتصاعد، مخترقا ومستوعبا أزمات نموه، والذى يصب فى اطراد فى سلسلة الترقى المحتمل لنوعه (البشر).
ارتبطتْ هذه النقلة الأخيرة برفض التمييز الطبقى لمن هو مبدع من ناحية، ورفض تصور ضرورة صدور الإبداع، من قدرات خاصة متميزة من ناحية أخرى، ذلك لأن الإبداع بدا- من هذا المنظور المرتبط بالإيقاع الحيوى ـ أنه نتاج طبيعى لدورات حياتية منتظمة ومطردة وحتمية للحركة البيولوجية المتناوبة المتفاعلة أبدا. من خلال ذلك تبين لى كيف أن المسألة لا تحتاج إلى غرائز مستثارة ليحتويها الإبداع، ولا إلى فقد التوازن ليعيده الإبداع، وإنما ثمَّ فيض من المعلومات ناقصة التمثيل، يتحرك فى إيقاع منتظم أثناء تنشيط الذوات الكامنة، حيث تتاح الفرصة لاستيعابها فى نبضة إبداع جديدة من خلال حركية النمو المنتظمة، وبتعبير آخر: انتبهتُ إلى أن ما يتنشط تلقائيا ودوريا ليقدم مادة الإبداع الأولية:
* ليس هو -أساسا- ما أُهمل أو كُبت (معرفة أولية مكبوتة – أريتى) مما لم تتح له فرصة الظهور للتعبير.
* كما أنه ليس مجرد الدفع الغريزى الباحث عن احتوائه فى شكل أرقى.
* كما أنه لا يتعلق -بالضرورة- بعدم تناسب جرعتى الأمان والتوجس الأوليينْ.
وإنما هو: كل نتاج حركية ما “لم يُـتمثل“ تمثلا كاملا (بيولوجيا) فعجز عن أن ينمحى تماما فى كلية النمو، فظل قَلِقا ضاغطا يبحث عن فرصة جديدة مع كل تنشيط دورى جارٍ (إيقاع حيوى)، ليجد مكانه الغائر فى (والملتحم بـ) باستمرار.
وهى عملية لا تتوقف أبدا لأن النمو والتمثُّل لا يكتملان أبدا.
هكذا وصلت إلى ما اسميته عملية الإبداع اليوماوى الحيوى (12) التى هى دفع للنمو المستمر، والتى قد لا تكون كافية لاستيعاب كل ما تنشط من معلومات وذوات، فيحتاج الأمر إلى نشاط إبداعى يظهر فى تشكيل منتـَج، وهو ما يتاح لنا مما اعتدنا أن نسميه دون غيره ”الإبداع”.
على أن هذا لا يعنى أن كل من لا يعيش خبرة الوعى الظاهر ذى الناتج الإبداعى تشكيلا رمزيا مسجلا، هو مبدع حيوى تلقائيا وحتما (اللهم إلا على مستوى تطور النوع) كما أنه لاينبغى أيضا أن نتصور أن تأكيد تلقائية التنشيط ونوابية الإيقاع الحيوى يتضمنان أى ترجيح لإلغاء دور الإرادة الفردية، أو تحمل مسئولية الرؤية، أو الفروق الفردية فى التركيب الشخصى، ذلك أن:
التقاط التنشيط، بل السعى إلى استثارته، والمشاركة فى توجيهه، ثم تحمل مسئولية الوعى به، والحيلولة دون إحباطه، فالصبر على عدم الإسراع بإجهاضه، بالإضافة إلى تعهده فصقله، ورفض الهرب أمام إرعابه، ثم النهوض بثقله، فاكتشاف نقصه وحوار نقده – كل ذلك وغيره هو وظيفة التوجه الإبداعى الإرادى الفردى لكل مبدع على حدة (13)
وهكذا انتهيتُ إلى ضرورة أن أخطو خطوة جديدة فى اتجاه دراسة طبيعة التفاعل بين وحدات هذه المادة النشطة والمنشَّطة، بما يسمح بفهم بعض جدلية محتملة بين ما هو إبداع وما هو جنون.
لكن ثم تحذير واجب ابتداء، يعرفه كل من اقترب من هذه المنطقة فتصور إمكانية الكتابة أصلا عن الجدل، ذلك أن “.. الكتابة عن الديالكتيك (هى) ضده، أو هى مستوى من مستويات إشكاليته” (14) أو بصيغة ثالثة أقول إن هناك مسافة بين الوعى الجدلى والكتابة الجدلية”. لقد انتبهت إلى ذلك منذ زمن (15). وحتى هذا المقتطف السابق وقفت منه موقفا يعلن أنه “.. لامفر من المغامرة، ولتكن الكتابة عن الديالكتيك -كما قال المقتطف -هى حركة فى فعل الديالكتيك ذاته، إذ هى ضده حالة كونها تكتب عنه: لكنى رفضت أن تكون ثمة مسافة بين الوعى الجدلى والكتابه عنه. ولعل ماوصلنى هو الفرق (وليس المسافة)، والمواجهة المتداخلة بين الوعى بالجدل والكتابة عن الجدل، فالوعى لايكون جدليا أو غير جدلى، فهو جدلى بالضرورة، والكتابة لا تكون جدلية أو غير جدلية. الكتابة هى اغتراب ضرورى يضحى بجزء من الوعى (الجدلى) فى سبيل التواصل الآنى، ولتأمين نقل الخبرة الإنسانية عبر التاريخ” (16).
[1] – هذا هو الكتاب الثانى باسم “جدلية الجنون والإبداع” نشرت صورته الأولى فى مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986 ص( 30 – 58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، وهو الفصل الثانى من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 بمكتبة الأنجلو المصرية، وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net ، وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى ثلاث كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو الثانى.
[2]- المفهوم الأحدث للبصم Imprinting من حيث رصده حالة حدوثه كما ورد فى مرجع يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجي” (1979) دار الغد للثقافة والنشر- القاهرة. وليس فقط من حيث إطلاق السلوك المبصوم (لورنز & تنبرجن).
[3] – يستعمل بعض الزملاء والمترجمين تعبير “معالجة المعلومات” ترجمة لعملية الـــInformation processing إلا أن المؤلف يتحفظ بالاستمرار فى استعمال “فعلنة” على الرغم من أن “معالجة” تفيد بعض المعنى وذلك للأسباب التالية: (أ) إن المعالجة تقابل ما هو Treatment فى حين أن العملية المعنية أكثر تفصيلا وتكثيفا من ذلك، (ب) إن الفعلنة تفيد التعامل مع المعلومة باعتبارها مشتركة فى الفعل التنظيمى التركيبى فعلا ظاهرا أو كامنا فى حين أن المعالجة تفيد ضمنا: استعمال المعلومة سلبا، (جـ) إن المؤلف يستعمل هذا التعبير فى تنظيره السابق وتغييره مؤخرا قد يخلط الأمر على متتبع أعماله طوليا. بالرغم من كل ذلك، فقد اقتنعت مؤخرا بتعبير “اعتمال المعلومات”، فهو يشمل العمل بشكل فيه زخم التلقائية والتنظيم (إن الكريم وأبيك يعتمل، إن لم يجد يوما على من يتّكل) ، لكننى أفضل مرحليا أن أواصل استعمال لفظ فعلنة بجوار الاعتمال.
[4] – يحيى الرخاوى: “إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبى” ص41 المجلد الرابع، العدد الأول (1983) مجلة فصول، تمَّ تحديثها فى كتاب: “تبادل الأقنعة” هيئة قصور الثقافة 2006.
[5]- يحيى الرخاوى ”الوحدة والتعدد فى الكيان البشرى” ص 19-33، عدد أكتوبر (1981) مجلة الإنسان والتطور.
[6] – يحيى الرخاوى: (“مستويات الصحة النفسية” من مأزق الحيرة إلى ولادة الفكرة) الطبعة الأولى 2017 والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.
[7] – يحيى الرخاوى: ”العدوان والإبداع” ص49-80 المجلد الأول العدد الثانى (1980) مجلة الإنسان والتطور (الفصل من هذا الكتاب) وأيضا بالموقع www.rakhawy.net
[8] – يحيى الرخاوى: “رباعيات ورباعيات” (الطبعة الأولى 1979، والطبعة الثانية 2017) منشورات جمعية الطبنفسى التطورى
[9] – نفسه، ص: 52، 53.
[10] – نفسه، ص: 53.
[11] – الفكرة الأساسية فى هذا المنحى ظهرت باكرا فى: يحيى الرخاوى: “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” ص67-91 المجلد الخامس، العدد الثانى(1985) مجلة فصول، ثم تحدثت فى الكتاب الأول..
[12] – Circadian
[13] – أنظر الكتاب الثالث: “عن الحرية والإبداع” نشرت صورته الأولى “مستويات توجه حركية الوجود بين حالات الجنون والإبداع والعادية” فى مجلة فصول– المجلد الحادى عشر – العدد الثانى 1992 ص( 196 – 230) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، وهو الفصل الثالث من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، فى طبعته الأولى 2007 .
[14] – محمد الزايد (1981): الديالكتيك إجابة أم إشكالية. الفكر المعاصر.
[15] – يحيى الرخاوى: “مقدمة فى العلاج الجمعى” ص 176 (1978) دار الغد للثقافة والنشر، القاهرة. “….وأنا أعترف أن استيعاب الجدل أمر شديد الصعوبة مالم يمارس فى خبرة ومعايشة، أعترف أننى لم أعرف الجدل بحق إلا حين عشته من احتكاكى بهؤلاء الناس (المرضي) ونفسى، قبل أن أقرأ عنه”.
[16] – يحيى الرخاوى: “مقتطف وموقف” ص 41، المجلد الثالث، العدد الأول (1982) مجلة الإنسان والتطور.