نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 5-1-2014
السنة السابعة
العدد: 2319
الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (94)
“نيجاتيف” إنسان، وتعرية قاسية صادقة
هذه الحالة (مرة أخرى: التى هى ليست حالة مريض ولا شخص بذاته) تصف ظاهرة بشرية معاصرة لما يحدث للإنسان حالا من اغتراب حتى لا يعود إلا ظل كيانٍ خال من المعالم، مجرد رقم مفرغ من وجوده الذاتى تماما، “كأنه هو”، مشروع لم يكتمل “زى نيجاتيف صورة مش متحمضة”، هى تشكيل لموقف “متفرج يائس عنيد”، أعدم أية بارقة أمل من هول الألم، واكتفى برؤية ورصد بشاعة وجوده الممثل لما يراه الوجود العصرى الغالب فى مرحلة الإنسان الحالية، حين يعجز أن يحوّل الألم إلى طاقة تدفعه لمواصلة التحدى، الكلام على لسان صاحب الصورة نفسه.
صاحبنا يعرى هذا الموقف الاغترابى بشجاعة، وهو يعلن بكل وضوح أن الألم الساحق يمحق الوجود البشرى النابض ويقلبه شبحا بلا حضور، ثم هو ينسحب إثر ذلك رافضا أى مزيد من المواجهة أو التعرية، فلم تعد ثمة مساحة لتحمل ألم جديد، شجاعته فى آخر جولة قبل إعلان الهزيمة هى أنه قادر على إعلان موقفه الرافض لأية حركة تلوّح بحتمية مزيد من تحمل الحقيقة العارية للانطلاق منها، ولذلك فهو يبحث عن وسيلة (آلية= ميكانزم) يعمى بها من جديد، وينبه الذين لم يخوضوا التجربة حتى النخاع مثله، أن يبتعدوا عنه، حتى لا يسدوا عليه سبل هربه الذى لم يعد أمامه إلا أن يلجأ إليه تجنبا لمزيد من الرؤية، أى مزيد من الألم بالصراحة والشجاعة نقول بصدق: راح اسيبكم تحلموا، آنا من كتر الألم بطلت حلم، صرت حلم، صرت نيجاتيف صورة مش متحمضة.
الحلم هنا يشير إلى معنى آخر، غير معنى حلم الليل أثناء النوم، هو ظل الشخص أو صورته المسطحة التى تحل محله، برغم أنها تحمل اسمه، ويا ليتها صورة، بل هى “نيجاتيف” هذه الصورة، ويا ليته “نيجاتيف” يكتسب مشروعيته من أنه قابل للتحميض ليصبح صورة، بل هو مشروع مجهض من فرط التعرية مجرد ظل باهت يحل محله. إن المطروح الوحيد على أى منا، إذا أفرغوه، أو أفرغ نفسه من ذاته، هو أن يستمر “كأنه هو”، فى حين أنه غير موجود أصلا، وكلما همَّ أن يحقق بعض “ما هو” بمزيد من البحث والرؤية، لحقه ألم المواجهة ساحقا حتى يفسد المحاولة، التى تشلها شدة جرعة الرؤية الصارخة “حاكم النور – مانت عارف- بوًظ التحميض يا عم”.
قمة هذا النوع من اليأس هو الموقف العدمى المشوِّه حين يصبح الوجود مجرد “عفريته” لإمكانية وجود لا يتحقق، يحدث هو أقرب إلى صورة نفسه المشوهة بداخله.
بألفاظ أخرى: إن الذات الداخلية، إذا بلغت درجة بشعة من التشويه، من فرط ما لحقها من إنكار، وإلغاء، وإهمال، وإيلام، وسحق، لا يكون هناك حل إلا إخفاءها تماما بميكانزمات شديدة التغطية، “بكره حاتحمض فى أوضه” مظلمة، إسمها أودة العمى“، التى تخفى صورة النفس المشوهة هى الحيل الدفاعية (العمى)، وحين تتراجع هذه الحيل أو تضمحل وفى نفس الوقت تشتد البصيرة يعجز الإنسان عن أن يخفى على نفسه هذا الإدراك المؤلم، وفى نفس الوقت يعجز أن يعيش مجرد صورة – مثل سائر الناس – وايضا هو يعجز أن يواصل مختلفا ليكون كيانا حيا متطورا.
نحن نتربى غالبا على أن تحقيق حلمنا المشروع أن نكون بشرا كما خلقنا الله يكاد مستحيلا “لما قالوا الحلم دكهة مستحيل يبقى حقيقة”، برغم الزعم بالدفع نحو تحقيقه لتتحقق أسطورتنا الذاتية، فلا يعود أمامنا إلا الاستسلام بأن نلغى وجودنا لنصبح هذا الحلم الشبح: نيجاتيف الصورة، وكأن الآية انعكست لتصبح “الحقيقة الماثلة هى الحلم”.
برغم أن هذه اللوحة لا تصف حالة فصام بالذات، إلا أننا نتعلم من الفصام جذور إشكاله الإمراضى من داخلنا، هذه الرؤية تعتبر تمهيدا لإمراضية الفصام مع أنها يمكن أن تكون عامة وكامنة عند الأسوياء.
يقول “شولمان” فى كتابه “مقالات عن الفصام” أن مشكلة الفصامى هى أنه يسعى إلى المثالية المطلقة.. ويصر على تحقيق التكامل الإنسانى التام وإذا به يجد الطريق إلى ذلك مستحيلا وليس مجرد شاق، بعكس الثائر الذى يصر على تحقيق نفس الحلم ولكن بأسلوب واقعى متدرج”
فنضيف إيضاحا مناسبا يقول:
إن الإنسان (وليس بالضرورة الفصامى) حين يواجَهُ باستحالة تحقيق هذا التكامل الإنسانى المطلق، قد لا يقبل فكرة التدرج المتناغم المضطرد على مسار نبض النمو المتزايد، فيسارع بتشويه وجوده بأن يسقط أبشع ما فيه على العالم. ثم هو لا يستقبل إلا هذه البشاعة المشوهة ولا ترحمه بدرجة كافية الحيل الدفاعية التى تخفى هذه الرؤية المزعجة وهو بذلك يبدو وكأنه أكتشف حقيقة التشويه والإعاقة، وخطورة الموقف، نتيجة حدة البصيرة، لكنها بصيرة عاجزة، غير دافعة للتغيير، بل محدثه لمزيد من الألم الساحق والرفض العاجز فى آن، هذا الإنسان لا يقبل أن يعيش الحياة العادية بصورة جيدة، مقبولة والسلام، وفى نفس الوقت هو لا يستطيع أن يتكامل تكاملا مطلقا وفورا، فلا يتبقى له إلا وجود شائه.. يمثل جزءا من الحقيقة ولكن بلا فاعلية إطلاقا.
ثم إننى حين اشتغلت بعمق فى موضوع “الإدراك” ومحاولة تفسير الهلوسة بوجه خاص، وصلت إلى مايلى:
فى العلاج والعلاج الجمعى خاصة قد يبدأ الانطلاق من هذه البصيرة الحادة، العاجزة فى نفس الوقت، وبدور علاج نتأكد هذه الرؤية، وتثبت وتنغلق، وتدور حول نفسها، فيقوم العلاج بقبولها من حيث المبدأ، وفى نفس الوقت برفض دورها السلبى المنغلق، ورويدا رويدا، ومن خلال تفاعلات الجماعة تبدأ مراجعة المواضبع الداخلية الجاهزة للاسقاط للخارج، فيسمح المعالج بذلك كبداية لكنه يهزها أولا بأول ليبدأ الشخص مع آخرين فى التعرف جزئيا على ما فى العالم فى هذه الدنيا من خلال إسقاطاته، وجزئيا بواسطته بصيرته الحادة المعجزة معا، ثم مع تواصل النضج، يتراجع الإسقاط ويتواصل اضطراد إدراكنا للموضوع على أنه أكثر موضوعية = “موضوع حقيقى” Real Object هذا ما فهمته من دعوة السيد البدوى “اللهم أرنى الأمور كما هى”، ويتم الانتقال من استقبال الموضوع على أنه موضوع ذاتى إلى موضوع حقيقى ليس فقط على مسار النضج العادى الذى يتواصل أو لا يتواصل، وإنما يبدو أنه هو أيضا آلية رحلة الكدح إلى التناغم مع الوعى المطلق، إلى وجه الحق تعالى، أو لعلهما واحد، إذن يمكن القول أن المسألة هى عملية متصلة، مدى حياتنا المحدودة، تبدأ من إدراكنا الأمور بما هو داخلنا، وتنتهى (حقيقة الأمر أنها لا تنتهى، وإنما تستمر نحو…) أن نرى “الأمور كما هى”.
المعروف أن أفلاطون حين أدرك أن رؤية الأمور، والأشياء، والناس، والموضوعات “كما هى” مستحيلة، اعتبرها كيانات مجردة ثابتة بعيدة فى عالم “الماوراء” الذى أطلق عليه عالم “المُثل”. يقول أفلاطون: الذي نراه من هذا العالم الذي نلمسه، ونختبره من خلال الحواس هو عالم غير حقيقي، بل هو عالم مشابه او مستنستخ من العالم الحقيقي بصورة غير كاملة. اذن عالمنا ليس عالما حقيقيا لكنه عالم مبصومة أو مطبوعة عليه فكرة الحقيقة. لذلك يقول افلاطون: ان معرفتنا عن الحقيقة هي كمعرفة الجالسين في الكهف امام النار ويرون ظلال اشخاص يمرون من خلفهم على جدار الكهف، لذلك فالعالم المادي هو غير كامل، بل هو عالم النقص.إذا ما قورن بعالم المثل أو العالم الحقيقي”.
حين عدت أقرأ فكر أفلاطون من منطلق بيولوجى استطعت أن أترجمه إلى فكر تطورى نمائى بشكل أو بآخر، فأُنزل المثُل التى زعم أولويتها وأصالتها من سمائها إلى أنها مجرد “الموضوع الحقيقى” الذى نأمل أن نراه (ندركه) كما هو، وجعلت الصورة التى زعم أنها مجرد طبعة مستنسخة من الأصل المثال لتظهر لنا تقليدا للأصل فى العالم المادى، رأيتها أنها تقابل ما نسميه الآن “الموضوع الذاتى”، أى ما نبدأ به إدراكنا للأشياء من خلال إسقاطاتنا التى تتراجع بانتظام مع تراجع آليات (ميكانزمات) دفاعاتنا، فيقل الإسقاط باستمرار، ليتجلى الموضوع الحقيقى “هنا والآن” بالتدريج وحسب درجة النمو.
وهكذا نحن نأمل أن يحقق العلاج الجمعى بالذات هذه النقلة، عن طريق التطور والنمو، حتى نرى الأمور كما هى ما أمكن ذلك، فإذا افترضنا أن نفس العملية التى تتم بالنسبة لإدراك الخارج واستحالة إتمامها حتى نهايتها فى خلال حياتنا الفردية هى بهذا التدرج فإن الأمر قد يسير على نفس الدرب وبنفس الآلية بالنسبْة للمواضيع الداخلية (داخلنا) وفرص إدراكها “العين الداخلية”، وهو الفرض الأساسى الذى أصبحت أفسر به الهلوسة (وغيرها) باعتبارها نوعا من إدراك موضوعات الداخل، الأرجح أننا ندرك دواخلنا على مسار متدرج أيضا من “الموضوع الداخلى الذاتى، إلى الموضوع الداخلى الحقيقى“، وبالتالى، نحن معرضون لخبرة رؤية حقيقة داخلنا مرحلة فمرحلة، حسب كدح النمو، وتناسب المسئولية، فإذا اختل هذا التناسب يبدأ التخوف والتحذير واحتمال المفاجآت (كما ظهر فى المتن والشرح). وهكذا يمكن فهم كيف يتوقف الإنسان من فرط الألم عن مسيرة الكشف، ثم يرضى أن يكون معكوسا “يشبه الإنسان”، “نيجاتيف” غير قابل للتحميض أصلا، وفى نفس الوقت، يظل محتفظا ببصيرته الحادة بهذه الإضاءة الكاشفة.
ماذا يفعل العلاج الجمعى فى هذا الأشكال؟ وهل هو قادر أن يتدرج بالمريض (أو الشخص) من تطور علاقته بالموضوع من الموضوع الذاتى إلى الموضوع الحقيقى، وهل هى مسألة: إما موضوع ذاتى وأما موضوع حقيقى؟ الذى يحدث فى العلاج أن يتوالى هز الميكانزمات ليس فقط بهدف تعريه حقيقة العلاقات الصفقاتية والإدراك المُسقط، وإنما لكشف العالم الداخلى كما ذكرنا حالا، ومع بزوغ الموضوع الحقيقى فى الوعى الداخلى فالوعى البينشخصى يحيط به الوعى الجمعى المحيط دون مسخ أو تضخيم أو إرعاب، وذلك من خلال المشاركة الحقيقية من جهة، وايضا من خلال أن نفس العملية تحرِّك ما يقابلها فى مَنْ تيسر من أفراد المجموعة، ويتواصل الكشف تدريجيا مع تواصل النمو
هنا علينا أن نذكر ونتذكر أنه لصعوبة النقلة فلابد أن تحدث تدريجيا وعلى دورات، وأن من حق أى واحد أن يتوقف فى أى مرحلة يلتقط أنفاسه، ويعيد النظر أو حتى يتراجع (ليعود).
فى التنظير الذى وصلت إليه أخيرا، يكاد يستحيل تحقيق احتمال وصول موضوعية الإدراك إلى إمكانية رؤية الموضوع حقيقيا بشكل كامل، لأن هذا يعنى أن مستويات الوعى قد نجحت فى تحقيق “واحدية” بالجدل الخلاق، وهذا احتمال بعيد كل البعد عن الوجود البشرى، ومهما كانت هدفا للكيان البشرى النامى فإن هذا الوجود الواحدى شبه الآلهى يظل مجرد هدف طول الوقت، ولكى يظل الإنسان إنسانا فلابد ألا يتحقق، وإن كان من المحتمل أن يتحقق للحظات، ولعل شطحات الصوفية الذين زعموا “الحلول” مثل الحلاج بالذات كانت نتيجة وعيهم بتحقق هذه الواحدية لحظات عابرة حسبوها دائمة، فشطحوا فى العلاج الجمعى،
ومن منظور تطورى تعددى بيولوجى فإن كل ما يمكن تحقيقه هو الحفاظ على حركية الجدل ونوابية النبض، واستمرار السعى على طول الطريق بقبول التعدد الداخلى، والإسقاط الخارجى بالقدر الذى نظل به بشرا.
وغدًا نعرض هذه الحالة متنا شعريا مستقلا