نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 29-12-2013
السنة السابعة
العدد: 2312
الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (92)
تقمص من مجموعة المواجهة
محاولات دائبة، وألم متجدد، والحذر من الانسحاب للفرجة ….!!
فى هذه الخبرة قد نلاحظ بعض الفرق بين برنامج “الدخول والخروج”، in-and-out program وبرنامج الكر والفر، fight-flight علما بأن هذه الحالة لم تكن تمارِس أيا منهما، بشكل واضح وإن كانت أقرب إلى الدخول والخروج على مستوى تحسس الطريق.
فى الكر والفر دفعٌ حتى الطرد، أو انسحاب حتى الهرب، وهما يتبادلان،
وفى الدخول والخروج، إقدام إلى الآخَر والموضوع والواقع، ثم انسحاب إلى الرحم والاختفاء، وهكذا بالتبادل
الحالة هنا تعلن شيئا آخر، هى تُظهر أن الخوف من الاقتراب له تشكيلات وتجليات متنوعة من أدقّها: هذا النوع من الإقدام الحذر المتوجس، يتبادل مع الإحجام الناقص، على خلفية من الشعور بذنب ما، وفى نفس الوقت الرغبة فى أخذ “الحق فى القرب”، فى الحب، فى الاعتراف، التى تترجح مظاهرها فى تجليات خاطفة ما بين السرقة، والاستجداء، والخوف، والتردد:
حين تُحرم من حقك فى القرب، سواء كان ذك نتيجة لهذا الموقف المترقـِّب المتردد، أو لأنهم نسوك أو تجاوزوك أو أهملوك، أو: نتيجة لكل ذلك معا، قد تضطر إلى أن تحصل عليه بما يبدو أنه خطف أو سرقة، هذا الموقف الذى بدأتُ به واصفا هذه الحالة يشير إلى أن الإقدام على عمل علاقة “بآخر”، حتى ولو بخطفها سرقة، لا يكشف تحايلا للحصول على غير حقك، بل هو يعلن جوعا لا يعرف طريقا للإرواء غير ذلك، جوعا للحصول على حق لم يصل صاحبه.
الواضح من هذه الحالة هو أنه بالرغم من الجوع الشديد إلى الآخر، فإن ثم شعورا حقيقيا بأن المسئول عن ذلك ليس بالضرورة هو الآخر وحده. هذا الشعور، فى هذه الحالة، كنموذج، ينبع أساسا من صعوبات صاحب هذا الموقف أكثر مما أنه نتيجة لرفضٍ يأتيه من خارجه.
الشعور بالذنب لدرجة الاعتراف بإثم لم يرتكبه الشخص أصلا، قد يكون هو العائق لاستقبال رسائل إيجابية من الآخر تعفيه من الاضطرار لسرقة العواطف أو خطفها هكذا، كما تعفيه من الاستجداء ومن غير ذلك مما سيأتى ذكره، هنا لا يوجد إثم اصلاْ يحتاج أن نشعر إزاءه بذنبٍ ما، هذا هو الغالب عند معظم البشر كمرحلة من التطور إلى البشرية الأكثر حرية ووعيا ومعيّة، إذن نحن لا نحتاج لاستعارة قصص وأساطير لتفسير هذا الشعور الأساسى بالذنب فى التكوين البشرى المعاصر، إلا إسقاطا لتفسير تكوين أساسى.
فى أطروحتى عن الشعور بالذنب، ربطت بين الوعى بالوعى، وبين الوعى بانفصال الإنسان كائنا واعيا مستقلا نسبيا عن الوعى الكلى، عن الوعى الهيولى الهلامى الأصلى، قدمت تفسيرا لهذا الشعور الأساسى أنه: إعلان لورطة اختيار الإنسان أن يكون كائنا متفردا له وعى مستقل، لا يحتاج الأمر- إذن، كما ذكرنا حالا ونكرر- لتبريرات لاحقة، جنسية أو أوديبية أو محارمية، اللهم إلا كنوع من التفسير اللاحق لإسقاط هذا الشعور الأساسى على منظومات التحريم والتنظيم، الفرض الذى طرحته سابقا يوجز هذه القضية فى هذ الجملة:
“أنا موجود ، أنا لى كيان مستقل، أنا واع بذاتى منفصلا عنهم وعنه = إذن أنا مذنب، (دون أن اذنب)”،
هذا الشعور بالانفصال عن الأصل الكلى الهلامى، هو نفسه الدافع لمحاولة الوصل طول الوقت “ كل من انفصل عن أصله، يطلب أيام وصله”،
وهو أيضا الشعور الذى يكمن أيضا وراء مأزق السعى إلى المعرفة،
المعرفة هى فى ذاتها ذنب من هذا المنطلق الأساسى، ذنب رائع أيضا، وهذا هو ما يغلب على كثير من تفسير حكاية (أسطورة، فكرة) الأكل من الشجرة المحرمة فى الجنة، (بالإضافة إلى ما يقابل ذلك من محتوى الأساطير والإبداع الأدبى)، إن ما ترتب على الأكل من الشجرة المحرمة هو العقاب بإنزال الإنسان إلى ارض الواقع المسئول، مع منحه حرية الاختيار وأدوات التواصل الأساسية (الأسماء كلها)، وهى حرية شائكة، وأدوات ملتبسة، فهو قادر على الاختيار والكشف، وفى نفس الوقت خائف من المجهول والعجز.
لا يحل هذا الموقف، أو حتى يخفف منه مجرد اقتراب صادق من آخر، فالمسألة تحتاج تجربة ومثابرة لعل رسالة مطمئنة تصل بدرجة تسمح بعلاقةٍ ما.
التشكيل هنا يكشف من جوانب متعددة عن حركية الاقتراب المغامر إلا قليلا، يقابله الانسحاب الحذر إلا قليلا أيضا،
الجوع إلى العلاقة ليس دافعا تلقائيا للتقدم نحوها، بل كثيرا ما نجد أن العكس هو الذى يحدث،
فصاحبة هذا الموقف هنا ترفض الاقتراب حتى لو جاءت المبادأة من الآخر: وأنت كلما حاولت الاقتراب منها حاولت هى الابتعاد، ربما لتحافظ على مسافة، تعد ولا تفى ، لكنها (المسافة) لا تكفّ عن الوعد مجددا.
الحاجة إلى الاقتراب أو الحب قد تحتد حتى تبدو تسولا من بعدٍ معين، وهذا من أصعب ما يضطر إليه بشر لا يجد فرصة حقيقية للأمان والاعتراف، قد يظهر ذلك التسول فى شكل تنازل عن كرامة، أو قد يتم بصفقة سرية بها ظلم شديد عليه، أو قد يتجلى فى تنقل سريع بين مصادر الحب المحتمل، دون ارتواء حقيقى.
هذا الموقف قد يصل إلى ما يمكن أن يوصف بالتسول (للعواطف) تسول، مع إلحاق أن هذا التسول لا يحقق لصاحبه إلا فتاتا من فضلات لا تغنى، بل إنها قد تزيد الجوع حدة وسعارا.
هذا الموقف يبين كيف يمكن أن يترجح صاحبه بين خطف ما تيسر من عواطف، أو رائحة علاقة، أو إشارة اعتراف، وبين نوع من التسول الذى يصاحبه اعتذار أو استغفار عن الذنب الأساسى ، ذنب الانفصال عن الوعى الكلى سعيا إلى وعى ذاتى متفرد، وهو موقف لا يحل الإشكال من جذوره بقدر ما يعلن طبيعة هذه الوقفة فى هذه المرحلة، وصعوبة المحاولة، وللأسف، فإنه موقف إذا طال وتكرر بلا عائد، فهو ينتهى إلى نتيجة سلبية كما انتهت الحالة فى هذا المتن، ذلك لأن الذى تظهره الحالة هو أنه: إذا تذبذبت المحاولات إلى هذه الدرجة وطالت المدّة، فإنها تجهض جميعها فى النهاية مهما استمرت وتكررت، ومهما قفزت من موقف إلى موقف فهى ليست فى النهاية إلا نوع من الخطف أوالسرقة، ، ثم استجداء وتردد، فى مقابل الوعد بما لا يكون:
هكذا يتعرى هذا الموقف الذى لا يحله مجرد إعلان الإقرار بالوجود، أو التلويح بالإعفاء من مسئولية “سرقة الرؤية” و”تسول القبول“، هذه الحالة تكشف استمرار إصرار صاحبة الصورة على الحفاظ على نفس الموقف الحذر المتوسط المترجِّح بلا نهاية،
هذه الحالة تصف مرحلة انتقال حذرة، فهى تبدو نقلة حساسة من الموقف البارنوى إلى الموقف الاكتئابى، بالمعنى الذى أشرنا إليه سابقا موضّحين أن ما يسمى الموقف الاكتئابى (وليس الاكتئاب) هو موقف محاولة اختبار، وتقبل صعوبه العلاقة بالآخر بوعى متبادل مسئول. (لهذا اقترحنا تسميته بالموقف العلاقاتى الإنسانى) .
الموضوع (الآخر)، فى هذه النقلة هنا، لا يمثل خطرا يهدد وجودى، أو يقتحم هويتى، بل هو (الموضوع-الآخر) يحضر بداية بإقرار الاعتراف الحذر باكتشاف أن ما هو “آخر” هو مصدر حب ووعد بالتكافل معا للاستمرار دون أن يمحو أحدنا الآخر، وفى نفس الوقت هو يحمل – بطبيعته- تهديداً بخطر الترك أو الهجر، ووجود هذين الشعورين معا معظم الوقت يترتب عليه ما يسمى بتناقض الوجدان. هذا التناقض جدلى حركى وهو غير تناقض الوجدان المتصادم المًـشل فى الأحوال المرضية، حيث التضاد فى المرض لا ينتهى إلا بنتيجة صفرية فارغة. هذا بعكس التناقض النمائى هنا الذى إنما يعلن طبيعية جدل العواطف التى نختزلها عادة بالاستقطاب باستمرار.
هذا الجدل النابع من حيوية التناقض الإيجابى هو الذى يفرز طاقة الدفع إلى استمرار نبض الحركية نحو الآخر، محصلة ذلك إن استمرت هذه الإيجابية هى ظهور الألم البشرى الأرقى،
لاحظتُ – فى خبرة العلاج الجماعى خاصة، وأيضا فى لقاءات الفحص الصامت لإطلاق التعبير عن “الحق الألم” (أو الحزن)- مما قد أعود إليه لاحقا فى عمل مستقل مع احتمال عرض صور حيه- لاحظت أن هذا الموقف الذى تترقرق فيه العين باقتراب دمعة تلمعُ ولا تهطل، هو الموقف الذى تمثله هذه العبارة تحديدا، وقد ثبت أنه – فى تقديرى بعد عشرات أو مئات الحالات: “موقف يعبر عن الألم الإنسانى الناتج عن الإصرار على مواصلة التواصل مع آخر مختلف، وفى نفس الوقت وعى بأن هذا الآخر هو كيان مستقل منفصل يحاول نفس المحاولة، مع إدراك الصعوبة والتهديد فى آنْ”.
فى خبرة العلاج الجمعى (وأيضا فى اللقاء الإكلينيكى الصامت من حيث تجنب استعمال الكلمات المنطوقة) حين نصل (المريض وأنا) إلى مرحلة تعلن مثل هذا التواصل المؤلم، يتجلى هذا “الألم الحى” بعذوبته وصدقه فيما يعبر عنه عادة بتعبير هو ما يسمى: “اغرورقت عيناه بالدموع”،
هنا نلفت النظر إلى أننا لاحظنا مكررا أنه إذا امتدت هذه الخبرة حتى إدرار الدموع، فإن هذا البكاء يجهض المحاولة، وتنقلب العلاقة إلى مستوى آخر أقل فاعلية، بل ربما يكون سلبيا دفاعيا، الأمر الذى دعانى –غالبا- إلى اتخاذ موقف علاجى يحول دون أن ينقلب اغروراق العيون، إلى دموع منسكبة
هذا الموقف – حين أساعد أحد المرضى أن يسمح للألم بالظهور دون الإسراع بِلصْقهِ بسبب جاهز، وفى نفس الوقت ألا يسمح لنفسه بالتعبير عنه بالألفاظ حتى لا يجهض الخبرة – يبدو موقفا غير مألوف إذا قيس بتعبيرات علاجية سهلة مثل الفضفضة أو التنفيث، وكان بعض المرضى الآخرين، وبعض الزملاء والمشاهدين يستقبلون محاولاتى هذه باعتبارها قسوة مؤلمة، ولم يكن الحال كذلك عند أغلب المرضى من داخل التجربة، بل إن الناتج فى النهاية كان، ويكون، نوعا من الطمأنية الواعية بحقيقة صعوبات وأبعاد العلاقة بالواقع، وبالآخر، بل ويكون هو هو الدافع إلى استمرار العلاقة العلاجية إلى المرحلة التالية من محاولات تنـشيط مسيرة النمو التى هى غاية هذا النوع من العلاج.
إذن ما تحفل به هذه النقلة من تناقض الوجدان الإيجابى، بمعنى حضور اكثر من عاطفة فى نفس مستوى الوعى، بعضها يبدو عكس الآخر، إنما هو إعلان لحركية التعاطف المتبادل اختبارا، وتراجعا، وتقدما، وحذرا، (ومن ثم: جدلا)،
فى خبرتى أيضا لاحظت أن إطالة هذا الموقف هو مرهق لدرجة الخطر، لا أحد يستطيع أن يواصل كل هذا الألم الناشئ عن وعد لا يتحقق، وفى نفس الوقت لا يتراجع، وعد بعلاقة حقيقية، برؤية ما، باعتراف ما، بتواصل ما، أقول إن إطالة هذا الموقف دون أن يحقق أية درجة من الاقتراب الموضوعى الداعم الدافئ، إنما يؤدى فى كثير من الأحيان إلى الإنهاك فالتراجع عن محاولة الاستمرار فى هذا الجدل الضرورى لتنشيط دائم لعلاقة بشرية حقيقية.
العلاقة الحقيقية بين البشر هى حركة دائبة،
فالحذر هنا يصحبه احتمال الأمان،
والإحجام يسير جنبا إلى جنب مع محاولة الاقتراب،
والأمل فى وجود آخر رغم التهديد المصاحب لذلك هو أمل متجدد حقيقى وفعال.
وفى خبرتى – مصداقا لهذا التنظير – وجدت أن ظهور علامات هذه المشاعر المشتملة للألم والحزن والدهشة وقدر من الطمأنينة لجدية المشاركة، هو أكبر دليل على نجاح العلاج والتقدم على طريق النمو، وهذا يختلف تماما عن السائد من أن هدف العلاج هو “إراحة المريض”، أو حتى هو السماح له “بالتفريغ” أو “التنقيث”.
لابد من التنويه هنا إلى أن الحرص عل “بسط” Unfolding هذه المشاعر المؤلمة لا ينبغى أن يكون هدفا علاجيا فى ذاته، وإنما يلتزم المعالج بأن يضبط الجرعة والمدة المناسبة لمعايشة هذه الخبرة بما يحقق دفع عجلة النمو بالقدر البناء، ولا مانع من العودة إلى نفس الخبرة مع كل نقلة نمو لاحقة.
إذا أساء المعالج (أو أى آخر) حسبة الجرعة وطالت خبرة الألم بلا ناتج حالىّ أو واعد، تهدَّدَ الكيان النامى بالتفسخ من فرط الألم،
هنا- مع التهديد بالتفسخ- تقفز الحاجة إلى التغطية بأية آلية (ميكانزم) قديمة أو جديدة، بالكبت مثلا أو بالانسحاب تجنبا لهذا التفسخ المهدد نتيجة لفرط الألم بلا عائد، هكذا يعلنها النص:
فى العلاج الجمعى خاصة، وفى العلاج عامة، يمكن أن نقابل هذا الميكانزم الذى لا يكتشفه إلا خبير، أو ربما يتكشف نفس الميكانزم بعد بداية العلاج بفترة ليست قصيرة، وأحيانا يظهر بعد تحسن مؤقت، فتراجع منظم أو غير منظم،
هذا هو ما نسميه ميكانزم “الفـُرْجهْ”،
وهذا هو موضوع نشرة الغد.