نشرة “الإنسان والتطور”
الاحد: 22-12-2013
السنة السابعة
العدد: 2205
الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (90)
“السدود” على طريق “جدل الحب” والنمو (1)
استهلال:
أحياناً أشعر أن العلاج الجمعى يجمع بين ألعاب كثيرة كنا نلعبها أطفالاً، حضرنى منها الآن لعبة “السلم والثعبان” ثم لعبة “بناء البيوت” ثم أيضا لعبة “قفز الحواجز”، كل ذلك ربما كان مواكبا لتجربة كنا نكلف بها من مدرس “الأشياء والصحة، وهو يعلمنا فكرة بلورة السكر النبات، وكيف نعده فى منازلنا وهى التجربة التى أشرت إليها هنا فى هذا الكتاب حين أرجعت النزوع إلى التجمع حتى فى المادة غير الحية “السكر النبات”، والأصل فى الأشياء أن تجمعا وجوزو التفريد ما دمنا معا”.
هذه حالة أخرى من حالات “مجموعة المواجهة”: حين تقمصتها بكل مستويات تفاعلاتها وجدت نفسى وسط تقاطعات متحاورة بين الذات الغاوية الظاهرة، وبين الفطرة الطفلية الطازجة الجاهزة المتخلـّقة معا، برغم النهاية الفاشلة المأساوية (وهى لم تحدث فى المجموعة، لكننى عريتها وكبرتها، وبشّعُت نهايتها أملا فى تجنبها) وهى حالة تنبه إلى أن الاكتفاء بمستوى واحد من التواصل (بين حالات الذات، أو مستويات الوعى) على حساب حركية التكامل مع المستويات الأخرى، هو حب زائف، أو على أحسن الفروض حب مسطح قصير العمر،
تراجع واعتذار:
حين أعلنت فى فصل سابق “الشغل فى المستحيل” نشرة 11/11/2013 ترحيب بعض الأصدقاء بنشر الشرح دون المتن، كنت أتصور أن التجربة سوف تنجح بشكل أكثر إفادة، إلا أن ما جاءنى بعد ذلك من نفس الأصدقاء حين عدت فنشرت المتن الشعرى كملحق متكامل، أن ما وصلهم من المتن كان أكثر اتساقا واختراقا، فعدت إلى الأسلوب الأول مهما اضطرنى ذلك إلى التكرار.
مقدمة:
فى خبرتى المحدودة، كدت ألاحظ فى كثير من الحالات (فى الصحة والمرض) تناسبا عكسيا بين فرط التجمل والاهتمام بالشكل الظاهرى، (والديكورات، والإكسسوارات، والميك اب)، وبين مدى الانسحاب الداخلى، والعجز عن التواصل المتعدد الأعمق للتكامل، (دون تعميم طبعا) هذه السدود التى نبنيها حولنا ثم داخلنا طبقة وراء طبقة، ليست سدا واحدا كما نتصورها من خلال التركيز على مستويين للوجود هما الشعور واللاشعور، اللغة البيووجودية التى نتكلم بها هى لغة تتحدث عن “مستويات وعى” متمثلة فى وجود عيانى فى شبكات دماغ نيورونية (مخية)، مرتبة هيراركيا بحسب تاريخ التطور من جهة، وتاريخ النمو من جهة أخرى،
الذين يتناولون قضية التواصل بين البشر وكأنه تواصل بين اثنين أساسا فقط، ثم يصنفون الحب على هذا الأساس، لهم وجهة نظر سليمة، لكنها فى نهاية النهاية “محدودة” (بما فى ذلك بعض تصنيفات إريك فروم فى “فن الحب”) مع أنك تستطيع أن تقرأ حدسهم بهذا التعدد دون إعلانه مباشرة، وهذا ما يجعل بعض تصنيفاتهم مقبولة، ومفيدة.
حقيقة حركية الحب هى نوع من التفاعل المتكامل المتصاعد النابض بين عدد (حتى يشمل الكل) من مستويات الوعى، وعدد آخر، لا يفضل فيها مستوى عن الآخر اللهم إلا فى مرحلة من مراحل التفاعل، ثم تنشيط مرحلة أخرى أو مراحل أخرى، وهكذا.
حالة اليوم تـُظهر بعض هذا التعدد المتداخل فى محاولة عمل علاقة حب: حيث يظهر مستوى صفقة الغواية الخارجى، فى مقابل مستوى البحث عن الكيان الخائف الأكثر أصالة، ثم نرى حوارالمقاومة، وأيضا مناورات الخوف، والاستبعاد،والاختزال، والأمل، وإلاحباط الختامى (لتجنّبِهِ).
سوف نقوم اليوم بتعرية المستويات الثلاثة الأولى، من المستويات العشرة السابق ذكرها فى نشرة “الشغل فى المستحيل” نشرة 11/11/2013
المستوى الأول: الجذب النداء، والانجذاب الذاهل.
المستوى الثانى: اللذة المشتركة بعض الوقت.
المستوى الثالث: اللعب الحر معا – أحيانا.
(كل ذلك بهدف تجنب التوقف عند هذه المستويات راضين بالصفقات الساكنة، فالعلاج الجمعى يتيح أكثر من ذلك كثيراً.
حالة اليوم تـُظهر بعض هذا التعدد المتداخل للذوات فى محاولة عمل علاقة حب: حيث يظهر أن مستوى صفقة الغواية الخارجية، هو السائد على حساب أى تطور للحوار الأعمق والأكثر تكاملا، وقد حذرنا من الميل إلى شجب هذه المستويات البدئية ، اللهم إلا إذا طغت حتى غطت على فرص التبادل والجدل مع سائر المستويات النابضة الأخرى. كما سوف نتبين مثل ذلك فى هذه الحالة، وبالذات قرب النهاية.
فى البداية ركزت على كيف أن تركيز النداء كان على مستوى الجذب والانجذاب، وهو ما يسمى أحيانا الكيمياء الوجدانية المتبادلة، وهو مستوى – كما أشرنا من قبل (نشرة 11-11-2013) – ليس مرفوضا من حيث المبدأ بل لعله بداية لازمة مهمة، ويبدو أن وسائل الجذب كانت تبدو فاعلة فى بداية القصيدة لدرجة ثقة “النداهة” بسحرها القادر على جذب السائر على شط الترعة حتى تسحبه إلى غير رجعة (هذا ما يُحكى عن الجنية النداهة فى بلدنا، وهو بعض ما استلهمه يوسف إدريس فى قصته النداهة). وهو ما خالج صاحبنا من أن هذا الجذب الساحر، يحمل وراءه الاختفاء الغامض، الذى يعقبه أو لا يعقبه أن يظهر فى القرية هائما على وجهه انجذابا أو جنونا أو حبا مجنونا.
الحالة هنا تبدأ بتعرية هذا المستوى من النداء والغواية، وهو مستوى قد يقابله بعض بدايات التعاقد فى العلاج النفسى الذى قد يتم بشكل مباشر أو غير مباشر بين معالج له حضور قوى يبعث على الثقة، وبين مريض يحتاج هذه الثقة فيستجيب لها بسرعة، وبأقل قدر من الشروط والحذر:
وعيون مكـْحُـولة مْـنَـدِّيــة. تِسْحِـَر وتشِدْْ. منديلْها على وش الميّة، مِـستنّى تمـدْ: إيدك، تسحبْـها تروحْ فيـها، ولا مينْ شـَافْْ حـدْ.
لابد أن لحكاية، أو اسطورة النداهة اصل شديد الغور فى النفس الإنسانية ، أسطورة النداهة من الأساطير العامة التى ظهرت بتكرار فى الثقافة الريفية المصرية، حيث يزعم الفلاحون أنها امرأة جميلة جدا وغريبة تظهر في الليالي الظلماء في الحقول، لتنادي باسم شخص معين فيقوم هذا الشخص مسحورا ويتبع النداء إلى أن يصل إليها ثم يجدونه ميتا في اليوم التالي، أو يلقونه وهو يهيم على وجهه جنونا، وقد يُسخط حيوانا عقابا له أنه ترك النداهة الغاوية فى عالمها السفلى بعد أن شدته إليه بغوايتها.
ماتكونشى يا واد الندّاهة؟ حركات الجنّية اياها؟ أنا خايف مـِاللـِّى مانـِيشْ عارْفُهْ. أنا شايفْ إِللِّى مانيش شايفُــهْ.………. وتلاحِـظْْ خوفى تْـطَـمّنى. وتقولّى كلام، قال إيه يعنى : ماتبصّش جوّهْ بـزْيادة، خلّــيك عالقَــدْ. شوف حركة عودى الميـّادَة، شوف لــون الخدْ
فى حين تؤكد الأسطورة على أنه حين يقترب صاحبنا من السطح، يكون منجذبا انجذابا خالصا لسحر الغواية، إذْ يبدو أنه يريد ما وراء ذلك بشكل ذاهل، نلاحظ فى هذه الحالة من البداية أنه منجذب بقدر ما هو خائف، يقترب ويرجو ما تحت السطح، فتنبهه الغاوية أن الصفقة ينبغى أن تقتصر على هذا المستوى، وأن عليه ألا يتجاوز الحدود، وأنه غير مسموح له أن يخطو إلى ما بعد السطح (ما تبصش جوه بزياده، خليك عالقد) ولتحقيق ذلك تذكره بجمال خارجها، وميادة عودها، ووردية خدودها.؟؟ إلخ، وهو يستمع إلى كل ذلك، لكن يأتيه همس من أعماقها أيضا، يناديه بلغة أخرى، وكأنه يستغل هذا الجذب المبدئى ليتعرف من وراء الظاهر إلى طبقة أكثر عمقا وتلقائية، وأقل صفقاتية وذهولا، وكأن على من يحاول أن يواصل حركية جدل العلاقة، أن يستوعب مستوى الجذب ليتجاوزه وهو يحتويه، لينطلق منه إلى نكوص مشروع، ولعب حر، وهو ما تعنيه هذه الفقرة من تنشيط ما بالداخل من براءة الطفولة، وتلقائية الفطرة، وحلاوة اللعب، وبهذا نقترب من المستوى الثانى والثالث (اللذة المشتركة، واللعب الحر معا) مع الحذر الواجب من احتمال التوقف عند الجذب والانجذاب واللذة المنفصلة
وأحس بهمْس اللى معاها، أنــوِى أقرَّبْْ. وأشوف التانية جُــوَّاهَـا، أحلى وأطيبْ. والخوف يغالبنى من ايـّاهـَا، لأْ. مش حَـاهـْربْ.
هذه الأخرى التى تناديه من عمق أبعد من جذب منديل السطح، ربما هى الفطرة عروس البحر، ولكن من يضمن له إذ يتقدم إلى هذا العمق الأجمل أن تستولى عليه النداهة المرتبطة بالمنديل السطحى، فيختفى فيها ومعها دون أن يكمل مشوار الحب التكاملى الجدلى؟ (مستنى تمدّ: إيدك تسحبها تروح فيها، ولا مين شاف حد).
وحين يستشعر هذا الخطر، وتراوده فكرة التراجع يجد أنه لا سبيل إلى ذلك إن أراد لجدل العلاقة أن يتواصل، فيقرر أن يواصل: فيتراجع عن التراجع (لأ مش حاهربْ)
استجابة لهذا التصميم يأتيه نداء الداخل ، مع الحذر المناسب من الاقتراب، الحب بقدر ما فيه من قرب، فيه قدر مساو، وأحيانا أزيد من الخوف من القرب، يسرى ذلك على من يقترب، وعلى من يستجيب لمحاولة الاقتراب
والطفلة تشاوِرْ وتعـافرْْ، بتقـّربْ، ولاّ بـْتـِتاَّخـِرْ؟ وانّ مدّيت إيدى ناحيتها، بتخاف وتكشْ. والتانية تنط تخلــّـيها: تـهـْرَبْ فى العـِشْ. دى غيامةْ كــِدب وتغطــيّة، ومؤامرة غِشْ.
الوعى الداخلى، الطفولة المستجيبة، ضعيفة بطبيعتها ، بقدر ما هى جميلة بتلقائيتها، الظاهر الجاذب المكتفى بهذا المستوى حتى لو كان الاختفاء فى الذهول هو نهايته لا يتزحزح عن محاولته إفساد أية خطوة تحاول أن تنتقل به إلى داخل الداخل الصادق الواعد، بل إنه يكبت هذه المحاولة الأعمق حتى تنسحب الذات الأجمل والأعمق على أثر التخويف من الاقتراب الحقيقى، وبمزيد من الإغراء بالاستكفاء بظاهر الجذب فالانجذاب، وهما ليسا إلا بديل عن حقيقة العلاقة وعمقها، ومن ثم نفهم كيف أن هذا الإبدال أو التوقف ليس إلا: “غيامة كدب وتغطيّة، ومؤامرة غش”
تواصل السعى إلى الحوار والجدل مع المستوى الأعمق والأجمل، يرفض هذا الانسحاب من أثر الإحلال والتغطية، فهو لا يصدق أن المستوى الأعمق غير موجود، أو أنه كان وهما ، بل هو يعلن أنها – حلوة الداخل- لم تمـُتْ، لأنها لا تموت ، مهما بعدت أو اختفت :
وماصـدّقشى، ولا اسلّمشِى، أنا واثق إنها ما مَـتِـتْـشٍى أنا سامع همس الماسْكِـتْشِـى، مش حاجى، لو هيه ما جَاتْـشِى.
فهو يواصل الإنصات، ويشترط لمواصلة الحوار (الحب) وجودها ليكمل معها (وربما مع غيرها من داخل الداخل، لكن معها أساسا) “أنا سامع همس الماسكتشى” تلك الأخرى – على السطح – تتصور أنه وهو يقترب، يقترب منها هى ، استجابة لغوايتها، لكنه ينبهها، وربما ينبه نفسه أنه: “مش حاجى لو هيا ما جاتشى“، مهما بدا إغراء جذب السطح.
وبعد
لأن الرحلة كانت طويلة ومتداخلة نؤجل التكلمة إلى الغد مع وعد بأن أنشر المتن الشعر، فى النهاية يجمع بين النشرتين، وأيضا مع رجاء أن من يقرأ نشرة الغد يبدأ بإعادة قراءة هذه النشرة.