نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 9-12-2013
السنة السابعة
العدد: 2293
(87) الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى
العلاج الجمعى ينشط مواقف (مواقع) النمو الكامنة
(من تقمص إحدى حالات “مجموعة المواجهة”)
مقدمة:
لعدة أسابيع، ربما حتى ينتهى المؤتمر العالمى الذى سوف يعقد فى القاهرة من 14 إلى 17 يناير 2014 عن “العلاج الجمعى والعمليات الجماعية: الأمل فى أوقات عصيبة” Group Therapy and Group Processes Hope in Critical Times أقول من الآن وربما حتى 17 يناير سوف أكتفى بعرض حالات عن “مجموعة المواجهة” بالطريقة الجديدة التى اهتديت إليها الأسبوع الماضى، أعنى عرض الشرح متواصلا دون المتن، ثم إضافة المتن كله أو بعضه اختياريا كملحق منفصل.
أقر وأعترف أن هذا فيه تكرار سخيف، مع أنى أضيف الآن بعد التكرار بعض ما يتعلق بالعلاج الجمعى خاصة، علما بأننى أتصور أننا أحوج ما نكون إلى هذا التكرار خاصة وأنا أكاد أجزم أن ندرة من الأصدقاء هم الذين اهتموا بمتابعة العمل الأول “فقه العلاقات البشرية” وحتى لو كانوا فعلوا ذلك فغالبا لم يكن فى ذهنهم العلاج الجمعى كنموذج للوجود البشرى الواعد بتصحيح أخطاء العلاقات العصرية بين البشر.
ولعلكم تلتمسون لى العذر حين تعلمون أننى مشغول فى تحضير ثلاثة “أوراق” للمؤتمر السالف الذكر:
الأولى: عن العمليات الجماعية كبرامج حافظت على التطور.
PLENARY SESSION: Group Processes as preserving Evolutionary Program: Cultural Considerations.
والثانية: عن استعمال العقاقير فى العلاج الجمعى: من منظور نفسبيولوجى
The use of psychoactive drugs in group psychotherapy: A Psychobiological Approach
والثالثة: ضمن ندوة مشتركة عن التدريب فى العلاج الجمعى: عن الاشراف عن بعد
Distant supervision and learning : In a symposium titled: Training and Supervision in Group Psychotherapy
عذرا مرة ثانية، ولا يقدر على القدرة إلا الله.
ثم نعود إلى هذه الحالة:
الحالة:
مرة أخرى، ليست أخيرة، هى ليست حالة، وإنما هو صديق من المجموعة، وهو ليس صديقا بذاته، وإنما بعض موقفه هو الذى سمح لى بتقمص ما يمكن أن يفيد هكذا:
فى معظم حالات مجموعة المواجهة ظهر التركيز على تعرية الخوف من الاقتراب من الآخر (الموضوع)،أى الخوف من الحب بالمعنى الحركى الجدلى الذى قدمناه، وأيضا الخوف من الهجر، ومن كل ذلك معا، فى هذه الحالةالحالية مزيد من تأكيد ذلك.
التشكيل هنا لا يبدأ بالصد والدفع بعيدا بل بمبادأة الاقتراب لاختبار إمكانية العلاقة دون التخلى عن التوجس والخوف، هو ليس موقف “كرَ فر” صرف، بل إنه بمثابة محاولة نقلة متوجسة، وتذبذب خطوات تصف تنويعات متنوعة متبادِلة ما بين عدة مواقف فى نفس الوقت، طول الوقت، لكنها تنتهى – من فرط غلبة عدم الثقة والتوجس- إلى الموقف اللاعلاقاتى (الشيزيزى) بالانسحاب من المحاولة.
الصورة تبدأ بإعلان محاولة التراجع عن موقف “الكر والفر” (البارنوى) بالتقدم نحو الموقف العلاقاتى بشكل ما، كأنه يقدم أوراق اعتماده للآخر، لعله يراه بدوره “موضوعا بشريا” له حق الشوفان والاعتراف، وهو فى نفس الوقت يجس نبض وجود الآخر فى وعيه، وبالعكس.
هذا الموقف يجسد ما يسمى “الموقع البارنوى فى النمو” ذلك أنه حين يحاول الطفل أن يخطو خطواته الأولى للتعرف على الموضوع إنما يفعل ذلك بتلقائية حذرة، وهو يتحسس طريقه للحصول على صك الوجود من خلال أن “يُشاف”، أن يُعترف به، هذه هى البداية التى تتيح له فرصة أن “يكون” فـ “يتواصل” لعل وعسى.
يبدو أنه قد تبين لى من خلال خبرة مجموعة المواجهة هنا أن محاولة عمل علاقة مع صاحب هذا التركيب هى مغامرة تحتاج إلى مهارة علاجية فائقة، علاقة حقيقية تحتوى أوهام المطاردة ولا تكتفى بكبتها، وأيضا لا تتسطح بالنصائح والإقناع، فى خبرتى وجدت أنها مرحلة تحتاج إلى ما هو أكبر من العلاج الفردى، (بالإضافة إلى اللازم من عقاقير) لاحظت أن العلاج الجمعى، وكذلك علاج الوسط هما أقدر على احتوائها بإعطاء المريض فرصة اختبار أكثر من “موضوع بشرى واحد”، بما يزيد من فرصة نجاحه فى محاولته مواصلة مسيرة النمو.
تبدأ هنا المحاولة انطلاقا من موقف التوجس الحذر، بمراجعة الأمر عبر الاحتمالات الأخرى، وذلك من خلال طرح تساؤلات بديلة عن أن الموضوع (مَنْ هو “ليس أنا”) يمثل خطرا طول الوقت، الشخص فى مسيرته النمائية فى هذه المرحلة لا يكل من التساؤل عن ما إذا كان “مرغوبا فيه” أم لا (عايزنّى!!؟). وهو بذلك يحاول أن يتجاوز يقينا سابقا كان يبرر له كَرَّه وفرَّه طول الوقت: هذا الموقف الدائم فى موقع “الكرّ – الفرّ” لا يُحتمل، وهو لا يدوم فاعلا ظاهرا إلا أن ينقلب مرضا عضالا، فصاحبه يتململ منه ثم إنه لا يريد أيضا أن يطيل موقف تصُّور “أن أحدا لا يريده، لا يعترف به، لا يراه، لا يرغب فى التعرف عليه“، فهو يغامر بخلخلة كل ذلك، ولكنه يتساءل – يسائل نفسه أساسا – يا ترى ما الذى جدّ ، فيه أو فيهم، بحيث يشجعه على المضى فى المراجعة ربما يصله أنه أصبح “مرغوبا فيه الآن بعد طول البقاء فى موقف الرفض أو الإنكار أو الهجر”.
من الطبيعى أنه يلزم للإقرار بالرغبة فى قبول “وجود” آخر، أن تعترف بهذا الآخر انت أيضا، أن ترى حقيقته الكلية ابتداء ما أمكن ذلك، أو تحاول ذلك على الأقل، الحاجة إلى “الشوفان” إلى الاعتراف ، لا تتطلب مجرد الإعلان التقريرى بالسماح بالعلاقة أو حتى باستجدائها! إن الأم تريد ابنها بداهة و”تعوزه”، لكن هل هى تريده وتظل تراه وهو فى طريقه أن يكون كيانا مستقلا منفصلا عنها بشكل حقيقى؟ أم أنها تراه غالبا، أو تماما، امتدادا لذاتها وكأنه ما زال قابعا فى رحمها؟ هل هى تراه “كله”، أم ترى الجزء الذى يظهر منه ويسمح لها بامتلاكه؟ حتى الطفل فى هذه السن الباكرة يريد أن يُرى كله، وأن يُعترف به كما هو، له، وليس باعتباره شيئا مضافا إلى ملكية الأسرة، إلى ملكية الأم بالذات، هذه المرحلة، هى طبيعة بيولوجية حيوية، وهى تستمر حتى نقضى.
اختفاء هذا الموقف البارنوى من ظاهر الوعى هو أمر طبيعى حتى نواصل حياتنا، لكنه يظل كامنا غائرا، بدرجة ما، عند كل منا.
السماح هنا ليس سماحا حقيقيا بقدر ما هو تسليم لمختلف الإجابات عن الأسئلة اللحوح: “عايزنى؟؟” – بقى حد شايقنى “أنا” – أنا أطلع مين..؟
إن الاشتراط الضمنى الذى يربط “العوزان” بـ “الشوفان” بهذا القدر من الموضوعية، والكلية، قد يبدو أنه للتعجيز أكثر منه مطالبة حقيقية بالاعتراف، يبدو أن المناورة هنا تهدف للوصول إلى تبرير تجنب الخوض فى علاقة حقيقية، إذ كيف يطالب الإنسان - فى هذه المرحلة- الآخرين أن يروا داخله أيضا، أن يروه كله، فى الوقت الذى يبذل فيه كل جهده لتحقيق عكس ذلك !!!
وصل الأمر بأحد مرضاى من الصعيد جدا أنه كان يطلب من زوجته أن تجيب على أى سؤال يطرحه ..بنفس الإجابة التى فى ذهنه بنفس الألفاظ جدا، مثلا : إذا كان فى ذهنه أنها سوف ترد بالإيجاب بـ “حاضر“، فهو ينتظر هذا اللفظ تحديدا دون أية لفظ آخر مثل “ماشى“، أو “موافقة“، أو “تمام”، وكانت إذا لم تأت باللفظ المحدد الذى فى ذهه، يرفض إجابتها، وقد يعطيها فرصة أخرى وأخرى حتى إذا عجزت تماما ثار واعتدى عليها عدوانا بدنيا قاسيا تحت زعم أنها لا تراه، ولا تحس به، ثم يتطور الأمر إلى ما هو أخطر فأخطر حتى الاتهام بالخيانة.
حين تشتد الحاجة إلى الشوفان، بما فى ذلك الرغبة فى شوفان داخل داخله، فإن مثل هذا الشخص قد يرضى بأية علاقة حتى لو كانت سريعة، أو مؤقته، وهو قد يكتفى أن تكون من جانبه هو فحسب، ولو كبداية، ثم إنها حين تكون من جانبه بهذه المبادرة، فإنها قد تطمئنه مؤقتا طالما ظلّ هو المتحكم فى شروطها، وكانه يخطفها خطفا دون إذن صاحبها، هذا الموقف يطمئنه جزئيا برغم استمرار توجسه ورفضه، وهو موقف انتظار بشكل ما، فيه درجة من البصيرة، لا تمنع استمرار المحاولة بل إنه يدل على عدم فقد الأمل فى علاقة مهما كانت واهية أو مؤقتة أو مذبذبة، ما دامت المحاولة مستمرة.
فى العلاج الجمعى يتكشف هذا الموقف من البداية عند المرضى الذين يعانون من أعراض الشك والتوجس وسوء التأويل حتى يصل الأمر إلى ضلالات الإشارة وما أشبه، ويحتاج مثل هذا الشخص من المعالج أن يقترب منه بهدوء وحذر وبشكل تدريجى متصاعد، وأيضا أن يخفف من حماس أفراد المجموعة للاقتراب خاصة إذا كان اقترابا خطابيا حماسيا بلا عمق أو رؤية كافية، وبما أن هذه المجموعة هى مجموعة المواجهة فلم يكن مثل هذا الشخص ذى الموقف البارنوى المرضى الصريح فى أفراد المجموعة، لكن عموما: مع تقدم العلاج سواء فى مجموعة المواجهة أو المجموعات العلاجية، نلاحظ أن هذا الموقف البارنوى يقترب من السطح فى تذبذب حذر عند أغلب المشاركين دون ظهور أعراض بارنوية صريحة، ويعتبر العلاج فرصة لاستيعاب ما لم يتم إنجازه فى فترات النمو الطبيعية السالفة إذ يتيح له الفرصة أن يعايش الشخص نفس المواقف التى توقف عندها دون تمثل فى محيط أفضل بوعى أنضج وفى أمان أوثق.
لا أحد يتخلص من هذه المواقف الأساسية إلا بافتراض نظرى بحت وهو أن يتم تمثل كل المواقف التى لم يتم تمثلها، وكل الذوات التى تتبادل أدوراها، إذ لا يتم تحقيق ذلك إلا بجدل نمائى ناجح قادر على استكمال الواحدية (المستحيلة) التى ربما تقابل ما أسماه إريك بير الناضج المتكامل Integrated Adult، وهو ما أشار إليه إريك بيرن نفسه بأنه لم يستطع شخصيا أن يلم بأبعاد هذه الذات الناضجة المتكاملة إلا بوصف أنها تحتوى سمات “طفلية وجدانية” ناضجة أسماها pathosوأيضا سمات والدية أخلاقية سامية ناضجة أسماها ethos والرأى عندى أن التكامل المطلق غير مطروح عند الكائن البشرى الحالى، وسوف تظل هذه المواقف ومنها الموقف “البارنوى” كامنة قابلة للتنشيط فالتنشيط ما دامت دورات النمو مستمرة، ومن بينها ما يتاح فى العلاج الجمعى وخبرات النمو الأخرى.
هذه الخبرة وتلك الفروض يمكن أن تضيف إلى رؤيتنا للطبيعة البشرية وللعلاج الجمعى ما يلى:
1) إن التكامل البشرى لا يتحقق بشكله المطلق النهائى أبدا
2) إن مسيرة النمو يمكن إعادة تنشيطها فى ظروف ملائمة باستمرار
3) إنها مسيرة لا تتوقف
4) إن المطلوب بالعلاج الجمعى ومثله هو أن نخرج من كل دورة من دورات النمو بدرجة أكبر من التكامل وقدر أقل من تحوصل النشاطات القديمة المنغلقة.
5) إن حركية التقدم والتأخر، ونبضات دورات النمو الجدلية هى القادرة على مواصلة كل ذلك.
وبعد
فيما يلى الملحق، وهو الجزء الأول من المتن الشعرى بالعامية الذى ظهر بعنوان: “القط”
الملحق:
والعين الخايَفَةْ اللى بْتِلْمَعْْ فى الضَّلْمَهْ
عمّالة تِختبرِ الناسْ:
بِتقرّب من بَحْر حَنَانْهُمْ،
زى القُطّ ما بـَيـْشـَمـِْشمْ لَبَن الطفل بشاربُهْْ.
عمّالَـهْ بْتِسْأَل:
عـــايزينّى؟
طبْْ ليه؟
عايزينَّى ليه؟
……
بـِصحـِيحْ عـَايـْزِنَّـى؟
بقى حـَدْ شايـِفـْنـِى يـَا نـَاسْ؟
مِـشْ لازم الواحـِدْ منكم يعرفْ:
هوّه عـَايـزْْ مـِينْ؟
بقى حد شايـِفـْنـِى أنا؟
أنا مينْ؟
أنا أطلـع إيه؟ وازاى؟
طبْ لـِيه؟
الله يسامـِحْـكُمْْ. مـِشْ قصدِى .