نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 2-12-2013
السنة السابعة
العدد: 2285
الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (85)
العلاج النفسى (الجمعى) والأيديولوجيا
من أصعب ما يواجه الطبيب النفسى أن يعالج “أصحاب المبادىء الثابتة”، ليس مهما أن تكون المبادئ سليمة، أو صحيحة، أو أصح، ولكن الصعوبة تأتى من أنها ثابتة، والمتابع لقراءاتى فى مواقف ومخاطبات مولانا النفرى وهو يعلمنا خطورة العلم المستقر، وأيضا خطورة الجهل المستقر، لابد أن يكون قد بلغته خطورة هذا الاستقرار الجاثم على حركية نمونا، وبالتالى على توجهنا إلى الله تعالى، الجاثم بالعلم أو بالجهل فما بالك بالفكر المستقر، والنظرية المستقرة التى هى مرادفة للأيديولوجيا.
إن ما يهمنا هنا هو ذلك الإنسان المريض الذى جاء يعانى لأنه قد سبق له أن تورط فى تقديس هذه المبادئ التى هى أصلا لا تستحق “أى تقديس”، ثم نكتشف أن هذه المبادئ قد استعملها صاحبنا يتماسك بها حتى راحت تحمى تماسكه شخصيا بنجاح، كآلية دفاعية أساسا، أكثر منها كموقف أو كمذهب عام قابل للاختبار سعيا إلى إقامة العدل وتحريك التطور على أرض الواقع لكل الناس؟ هذا الشخص كان – غالبا– يستعمل النظرية الأيديولوجيا تماما كما يستعمل شخص متدين الدين المؤسسى، ليس لتسهيل رحلته إلى الإيمان كدحا إلى وجه الحق، وإنما يستعمله ليستقر فى موقعه بعيدا عن حركية نموه التى هى موازية – غالبا – لما أسماه كارل يونج: تجربة الرب، هنا يصبح الدين آلية دفاعية Mechanism تماما مثلما تصبح الأيديولوجية الاشتراكية المغلقة آلية دفاعية، وطالما نجحت هذه الآلية هنا أو هناك من قبل أن يمرض صاحبها، أو دون أن يمرض أصلا فليس للطب النفسى ولا العلاج النفسى حق حتى فى مجرد نقدها، إنما ينشأ الإشكال حين يأتى صاحب هذه الآلية (فى الدين الجامد أو الأيديولوجى المقدسة)، ويعانى نفسيا، فيجد الطبيب نفسه مضطرا إلى التلميح أن هذه الآلية التى قامت بالواجب فيما قبل المرض، معرضة للفحص والنقد وإعادة النظر، مثل أية آلية أخرى،
هنا يقفز عامل آخر، وهو ما ألمحنا إليه فى مواقع أخرى كثيرة. هذا العامل هو: ماذا عن أيديولوجية المعالج نفسه، وكيف يمكن أن تكون عاملا فاعلا بعلمه أو يغير علمه فى مسيرة العلاج، وهل يمكن أن يزعم المعالج أنه محايد فى حين أن داخل داخله قد يحكم على أيديولوجية مريضه بالزيف أو بالفشل أو بالعبث أو بالاغتراب أو بغير ذلك؟
فى البلاد المتقدمة يتجنب هذا الحرج الممارس حين يمتنع الطبيب – بنفسه أو بالعرف أو بالقانون – أن يسأل مريضه عن دينه أو عن توجهه السياسى، وكأن مجرد تجهيل هذه المنطقة عند المريض، مع تصور الطبيب أنه أخفاهما أيضا بالنسبة لنفسه (إيش أدراه؟) يمكن أن يصبح العلاج أكثر موضوعية، طبعا هذا كلام يحتاج لمناقشته (1)
إذن ما العمل؟
ليس عندى اهتمام مباشر بالعمل السياسى، وإن كنت – مثل أى شخص – يعيش فى مجتمع تنظمه سلطة ما تدير أمور ناس مختلفون، ليحققوا تعاونا جماعيا فى اتجاه ما، سياسى رغم أنفى، تقفز لى هذه القضية بشكل شخصى حين اضطر، ولو بينى وبين نفسى أن أتساءل عن موقعى الشخصى من هذا المذهب السياسى أو ذاك، وأيضا عن موقفى من هذا النوع من التدين أو ذاك، وهى قضية تحتد حين أواجه بمريض صاحب مذهب واضح محدد، أو صاحب أسلوب فى التدين راسخ جامد ثم يأتى يسألنى النصح، فيقفز لى – غالبا أنه لو كان على صواب فى مذهبه هذا أو فى طريقة تدينه، لما مرض، ولما جاء يستشيرنى – وهكذا أسأل نفسى بشكل مباشر أو غير مباشر أين مذهبه مما حدث له، وأين أنا من هذا المذهب؟
لا يجوز أن يجرى الأمر كذلك، وفى هذه الحالة (حين أضبط نفسى متلبسا بهذا الموقف)، أتصور أننى كان يمكن أن أعفى نفسى من هذا الحرج بأن أدعى الحياد، لكننى عادة لا أستطيع فأتقدم خطوة لأعامل هذا الموقف الأيديولوجى الجامد أو طريقة التدين المستقرة بلا حراك، أعامل هذا أو ذاك باعتباره ميكانزم معرض للاهتزاز مثل أى ميكانزم، وهكذا تنتقل القضية من منافشة المحتوى (مضمون الأيديولوجى، أو مضمون طريقة التدين) إلى العمل على إنجاح أى منهما كما كان ناجحا فى الحفاظ على تماسك صاحب أيهما متوازنا غير مريض، فإذا فشلنا، فالأمر يحتاج إلى إعادة نظر، لإطلاق مسيرة النمو، وهو نفس ما نلجأ إليه فى التعامل مع أى ميكانزم.
هناك بعد آخر ينبغى وضعه فى الاعتبار بشأن المريض، قبل وبعد تعلقه بمنظومته الدفاعية، أيديولوجية كانت أو دينا، ذلك أن بعض المرضى الذين يحضرون للعلاج يعلنون أن ما ألمّ بهم من مرض أو إعاقة إنما يرجع إلى تدهور قيم المجتمع عامة، والظلم السائد فيه، والاغتراب الغالب عليه، وكذا وكيت، وكأن الحل ليس فى أن يشفوا هم، حتى يستطيعوا أن يواصلوا تغيير ما يعترضون عليه بالثورة أو الإبداع أو الإصلاح أو أى دور يرتضونه، بل إن بعضهم يلح على الطبيب أن يفهم أنه لن ينصلح حال مرضه، ولن يشفى إلا إذا انصلح حال المجتمع، وكأنه بذلك يبلغ الطبيب ضمنا أن مهمته – حتى يشفيه – هى أن يُصلح حال المجتمع، ويقيم العدل، وربما يعيد توزيع الأرزاق، طبعا المريض لا يقول هذا صراحة، ولكنه يحيل أية معاناة إلى مثل هذه الأسباب ويلقيها فى وجه الطبيب وينتظر.
فى كثير من هذه الحالات لاحظت كيف تحل المناداة بالمبادىء المثالية، سماوية كانت أم إنسانية، محل الحياة الواقعية اليومية، وتبدو المبادىء التقدمية أو الاشتراكية أو اليسارية أكثر إغراء للشباب من غيرها، فكنت كثيرا ما أتبين أن المناداة بهذه المبادىء بكل هذا الحماس، وبكل هذا الكلام، فى الموقف العلاجى، هو نوع من إعلان ضمنى بعدم الالتزام بالمشاركة فى تحقيقها، وبرغم ذلك، فقد لاحظت من أصحاب هذه المبادئ أنهم أحيانا يحضرون وعندهم تصور عن أيديولجية أو دين المعالج (من مقال قرأوه للمعالج، أو حديث سمعوه منه، أو شاهدوه فى التلفاز أو خبر تناقلوه …إلخ)، وحين يكتشف الواحد منهم أن المعالج ليس كما تصور (ليس اشتراكيا، ليس مستشيخا، ليس مثاليا …إلخ) تهتز ثقته، وقد يتراجع، أو قد يواصل متحديا (هاديا أحيانا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر أحيانا أخرى) وما لم يأخذ المعالج حذره بأن المسألة العلاجية قد تنقلب إلى مناقشات سياسية أو اقتصادية أو فقهية، تضيع معالم المهمة العلاجية، وتبهت محكات قياس التقدم فى العلاج.
لاحظت فى العلاج الجمعى بوجه خاص أن أكثر أفراد العلاج اغترابا عن التفاعل النشط فى ”’هنا’ و’الآن'” هم الجاهزون بهذه الأفيشات البراقة، وحين كنت أصر أن أجذب بعضهم إلى اللحظة الراهنة، كان الواحد منهم يكاد يطلق عدوانه بلا هوادة احتجاجا على “رجعيتى”، وقد يشك فى محاولة غسيلى لمخه لأخلع عنه أيديولوجيته.. الخ” وبالتالى قد يتردد فى وضع الثقة، أو حتى فى استمرار العلاج احتجاجا على بعدى عن التعاليم المقدسة (أيديولوجيا أو دينيا) التى يؤمن هو بها”..، وقد يشترك مريض أو أكثر فى نفس الإيديولوجيا (من قبل أن يحضروا العلاج أو أثناء فترة العلاج)، وهنا يدعم دفاع أحدهما الآخر فتظهر ظاهرة التزاوج Pairing التى وصفها بيون Bion.
وكما يستغرق الشخص الرأسمالى فى جمع المال، ويكتمل اغترابه حين ينسى أن هذا المال ليس إلا وسيلة لتحقيق فرص أوسع لحركية نموه، وإطلاق حيويته، وتأمين وجوده.. ومن ثم اكتساب حرية داخلية آملا أن تعقبها فاعلية الخلق والعطاء، كذلك فإن مثل هذا الشخص “المبادئى كلاما” قد يستغرق فى تكريس الأفكار والمبادىء وتسلسل المنطق والدفاع النظرى عن ايديولوجيته ليحقق الانتصار “النقاشى”، فيكتمل اغترابه بالابتعاد المنظم عن ذاته وعن أرض الواقع الفردى وعن مواجهة مشاكل الوجود الجماعى فى نطاقها الحى، كل هذا قد يكون مقبولا ومفيدا فى مجال آخر غير مجال العلاج، لكن متى ما احتاج الأمر إلى طلب المشورة والمساعدة المهنية، بما فى ذلك من إعلان اهتزاز هذه الحيلة الأيديولوجية الدفاعية، فإن الحسابات تختلف، والمنهج يختلف، والمحكات تختلف.
حاولت أن أسائل نفسى عن هذه السكينة الظاهرية التى يتحلى بها بعض أصحاب هذه الآراء ووجدتها أحيانا أقرب إلى اللامبالاة نتيجة “لتصور ” حل كل شيء بمجرد الحديث عنه .. أو إعلان أن “كذا هو الحل” (سواء كان هذا الـ “كذا” هو كلمة الإسلام – أو الديمقراطية – أوالاشتراكية أو الثورة – أو التنوير ..الخ)، ليكن، ولكن الأمور لابد أن تختلف حين تظهر أعراض المرض حيث لابد أن تبدأ المراجعة مع ظهور المرض أو أثناء العلاج .. وما يكاد التغيير يعرض نفسه من خلال إحياء حركية الاختبار اليومى عبر المواجهة العلاجية حتى تبدأ وظيفة هذه الأفكار تتعرى، ويلوح أمل فى العودة إلى إطلاق حركية النمو لمن يواصل فيغامر بمخاطرة التغير، بمواكبة المعالج الذى يواصل دوره العلاجى مع كل فرد على حده، وفى نفس الوقت مع المجموعة ككل وأيضا مع نفسه طول الوقت.
[1] – تناولناها فى موقع آخر: (نشرة 12 – 2 – 2008 صعوبة الحياد وضرورته فى العلاج النفسى “والحياة”)
وآخر: P.P “العوامل الثقافية والأخلاقية فى التعامل مع المريض النفسى والمدمن”