نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 4-11-2013
السنة السابعة
العدد: 2257
الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (77)
الخلود والوعى الجمعى: فى “العادى” و”الصحة” و”المرض”
“يَحْسَب أَنَّ مَاله أَخْلَدَهُ “
تعلمت من العلاج الجمعى مالم أكن أعلم أننى يمكن أن أراه رأى العين، ثم سحبتنى دراستى النقدية الأخيرة إلى قراءة الموت والخلود من جديد، فارتبط هذا بذاك فوصلتنى رسائل متكاملة فرعبت منها لشدة ترابطها، وحبكة يقينها، طرحتها جانبا حتى لا أقدم على تناولها قبل الآوان، ورجعت إلى ما وعدت به فى بداية هذا العمل وهو أن أنشر بعض ما أنجزت بالنسبة لرسائل الماجستير والدكتوراه التى أشرفت عليها فى مجال العلاج الجمعى أو حتى أعرض أجزاء منها، فأكتشفت ما أعرفه وهو أن الخبرة التى أريد توصيلها يستحيل أن تقوم هذه المجلدات العلمية العظيمة بحملها إلى قارئها، وانتهيت إلى أن دور هذه الرسائل جميعاً قد يقتصر على إتاحة الفرصة لاقتطاف بعض مقاطع من هنا أو هناك تدعم بعض ما أعرض من الرؤى، أو الفروض، أو التفسيرات التى أقدمها فى ما يتتالى من فصول الكتاب.
رجعت إلى الموضوع الحالى الذى يملؤنى وقررت أن أخاطر بعرض الخطوط العريضة له مهما كانت المغامرة:
انطلاقا من النشرتين الأخيرتين بما فيهما من مقتطفات من النص الأدبى “ملحمة الحرافيش” و”حضرة المحترم” (نجيب محفوظ) وبعد استغراقى فى نشرات ملف “الادراك” حتى أصبح كتابا، ومع مواصلتى خبرتى فى ممارسة العلاج الجمعى والتدريب عليه، ثم الإشراف على العلاج النفسى الجمعى وغير الجمعى، بانتظام مثابر، جنبا إلى جنب مع ممارستى اليومية المستمرة فى عرض الحالات للزملاء ومعهم، وتفسيرها ومتابعتها، فضلا عن ممارساتى الخاصة غير القاصرة على الطب والتطبيب، أقول بعد هذا ومع هذا أستطيع أن اعيد تنظيم فروضى التى تكمل بعضها بعضا، وربما تنسخ بعضها عدداً أقل.
ذكرت فى النشرتين السابقتين كيف أن الوعى بيقين النهاية الفردية (الموت) قد يكون دافعاً للحياة الأكثر ثراء وصحة وعطاء، بل الأقدر على دورات تجديد الولادة إبداعا.
ثم إننى انتقلت بعد ذلك إلى معايشتى لتخليق هذا “الوعى الجماعى” وميزت بينه وبين “عقل الجماعة”، ورأيته رأى العين – كما ذكرت – كيانا يتخلق ليجمع الناس إلى بعضهم البعض حول قاسم مشترك أعظم مستقل ومسامىّ ومرنٍ ومتنامٍ فى نفس الوقت كما سبق أن أشرنا، وكنت قد شاهدت هذا الوعى فى حركيته الإيقاعية النابضة المتناغمة مع دوائر أصعد فأصعد من دوائر التناغم الكونى حتى وصلت إلى الفروض العشرين المساعدة التى نشرتها أمس.
شجعنى كل ذلك أن أعرض اليوم ما يعتبر بمثابة شرح على المتن، أو إيضاحات ضرورية فيما يتعلق بتشكيلات ما يسمى الخلود، والذى أفضل أن أسميه “النزوع إلى امتداد الحياة فى الكون إلى الله عرضا وطولا”.
تشكيلات الخلود:
إذا صح أن التهديد بالموت جوعا، وبالفناء نوعا هما الدافعان المسئولان عن درجة من الوعى بالنهاية عند البشر، وأيضا عند من هم دون البشر، إلى التحرك البقائى (الذى يعزوه دانيال دينيت إلى مستويات أبكر من الوعى)، فإن هذا الوعى يتجلى بشكل مباشر أو غير مباشر فى صور مختلفة سوف أحاول اليوم أن أعدد ما وصلنى منها سواء من النقد الذى قمت به مؤخرا أم عبر طول ممارستى التى فصّلتها حالا.
وفيما يلى بعض ما حضرنى من تشكيلات الخلود البشرى بمختلف درجات الوعى واللاوعى فى مختلف الحالات والأحوال على طيف ممتد بين “الصحة” و”العادية” و”المرض” و”الإبداع”:
أولاً: الخلود فى الذرية: هذا هو أبسط وأوضح أنواع الخلود، وهو إن كان يتخطى الخلود الفردى إلا أنه يظل منغلقا فى ذاتوية الأسرة النووية، وقد يكون – إذا زاد أو استبعد غيره – أخطر من التركيز على الخلود الفردى من حيث أنه قد يكون أكثر إعاقة للأولاد، ونحن نلاحظ ذلك فيمن يعتبر ذريته ليست إلا امتدادا له: يكمل بهم نقصه، أو يعوض بهم إحباطه أو على أحسن الفروض يكملون طريقه بمعنى الاستمرار الفردى وليس حمل الرسالة، وهذا ما يجعل الذرية بمثابة مشروع استثمارى منغلق قد يعوق استقلال الجيل التالى فالتالى، كما قد يترتب على محاولة مواجهة مضاعفاته ما نسميه “الصراع بين الأجيال” كما قد يؤدى أيضا إلى وأد الإبداع فى الجيل التالى فالتالى، وهكذا.
ثانياً: الخلود فى المال (وبالمال): “يَحْسَب أَنَّ مَاله أَخْلَدَهُ”
وهو الذى يتجلى فى صورة الجمع للجمع والإثراء للقوة والسيطرة، وكأن القوة والامتلاك هى القادرة على هزيمة الزمن، ولو لم يعلن ذلك وتحجج بما يعن له حتى لا يبدو هذا السلوك مرتبطا بالخلود بشكل صريح.
ثالثاً: الخلود بالسلطة وفى السلطة: وهذا مكافىء ومتكامل مع البند السابق حين يصبح المال وسيلة للسلطة وبالعكس، وقد يرتبط هذا الخلود بالنوع الأول فيتفرع منه نوع ثانوى هو الخلود بتوريث السلطة كما فى النظام الملكى التاريخى أو النظام العربى الأحدث (اشكالة التوريث) أو النظام القبَلى التقليدى…الخ.
وقد يتجسد هذا النوع مع سابقه فى مؤسسات منغلقة على نفسها وكأنها أجسام غريبة ناشزة تنمو وتتعملق على حساب سائر البشر، فيسرى عليها ما يسرى على الفرد من حيث الجشع الذى لا يرتوى وإلغاء الآخرين، وإغلاق باب التطور، وربما هذا هو ما كان وراء ما شاع فيما يسمى “نهاية التاريخ” أو ما يجرى حاليا تحت مسمى “النظام العالمى (العولمى)، الجديد”.
رابعا: الخلود فى نفع الناس: وقد يتخذ هذا أشكالا جيدة متنوعة حين ينتقل الثرى أو صاحب السلطة من مرحلة التركيز على ذاته لذاته (أو لجماعته أو فرقته) إلى أن يكرس حياته ومهاراته وقدراته وماله، وربما آله، لما ينفع الناس فعلا ويمكث فى الأرض على أى مستوى، من أول الصدقة الجارية حتى العلم الذى ينتفع به،
أما على المستوى السياسى فقد يخلد الزعيم الصالح فى ناسه وعصره فى فترة تاريخية معينة ويجعل من حياته فردا ما ينتقل بناسه وشعبه إلى مرحلة أبقى وأطول وأنفع وأرفع تحضرا.
خامسا: الخلود فى الإبداع وبالإبداع: وذلك حين يتماهى المبدع الأصيل مع إبداعه فيصل إلى جماع وعى الناس يغيرهم من خلال المشاركة بإبداع التلقى، أو حين يترسخ إبداعه فى وعى ناسه فيترك أثراً نافعا يظل يحركهم إلى ما خلقهم ربهم وما وعدهم به، يتم ذلك أثناء حياته وبعد رحيله فردا، والإبداع الحقيقى هذا قد يكون أسبق من زمن صاحبه (ذاته) وأبقى، وأوسع انتشار،
وقد تمثل الأسطورة نوعا من الإبداع الجماعى، وقد يظهر الخلود فى حكايتها بشكل مباشر بما يدعم، ويرمز إلى، ويؤكد دفع الخلود الجمعى (والفردى).
سادسا: الخلود فى النوع: وهذا النوع قد يكون أدنى من غيره إذا كان مجرد تفعيل لبرامج البقاء مشتركا فى ذلك مع الأحياء الأقل تطورا، وهو يكاد بذلك يبدو أنه لا فضل للفرد فيه من حيث فرصة الاختيار، أو مسئولية حمل الأمانة، وفى نفس الوقت قد يكون أرقى عند الإنسان حين يتصدى واعيا مختارا لأنواع الخلود السلبية (أنظر ثانيا وثالثا مثلا) التى تؤدى فى النهاية إلى انقراض النوع بشكل أو بآخر، وهذا يحتاج إلى الانتماء إلى الوعى الجماعى الإبداعى القوى المتحدى ربما عبر التواصل العالمى الكونى الجديد لمواجهة الحركة المضادة التى يقودها من: “يَحْسَب أَنَّ مَاله أَخْلَدَهُ”، وأيضا وأصلا من خلال ثقافة الإيمان الإبداعى المتجدد.
سابعا: الخلود فى الآخرة: وله وجهان أيضا، فقد يتلقاه الشخص مع التركيز عليه مع الفصل بينه وبين الحياة الدنيا تماما فيغيب عنه نبض الإيمان الممتد بينهما، ودعوة دخوله فى عباد الله قبل ومع دخوله جنته تعالى، وقد يكون امتدادا متكاملا للخلود الإيمانى فى الدنيا نتيجة الوصْل الحيوى بين الانتماء للوعى الجماعى الإبداعى المتصاعد فى الدنيا إلى الأعلى فالأعلى إلى وجه الله إيمانا بالغيب، إيقاعا مع نبض الكون كدحا إلى وجه الله.
ولعل هذا يدعم الفرض الذى وصلت إليه مؤخرا عن طبيعة “الموت” وكيف أنه يمكن أن يكون نقله من الوعى الشخصى إلى الوعى الكونى إلى وجه الله، ولعل هذا هو ما أشرت إليه أولاً، وودت لو تجنبت الخوض فيه إلا أنه شديد الارتباط بحركية الوعى الجماعى الذى عاينته فى العلاج الجمعى، وفى العبادات الجماعية، وفى السعى الصوفى الإبداعى، وفى غير ذلك مما لا أعرف.
ثامنا: الخلود يتجلى فى المرض: أفضل أن أتوقف الآن مكتفيا بالإشارات المحدودة التى وردت أمس عن بعض الأعراض التى تعلن تضخم هذا النزوع للخلود، وتفعليه الآن أو فيما بعد على أرض الواقع، وقد تضمنت التلميح إلى “الضلالات العدمية” التى هى تفعيل سلبى للخلود، أو “ضلالات المهدى المنتظر”، أو “ضلالات القوة المسيطرة على العالم” أو “ضلالات الألوهية”، وكلها تعلن يقين الخلود بشكل مباشر.
وحتى أعود إليها أكتفى بأن أقول أن كل هذه الضلالات نابعة من نفس المصدر “الخوف من الموت عموما، و– بالذات – الخوف من الموت جوعا، والعجز عن الارتواء أصلا”، والانفصال عن الوعى الجماعى فعلا.