نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 3-11-2013
السنة السابعة
العدد: 2256
الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (76)
الوعى الجماعى من أصل الحياة إلى غيب المُطلق
استدرجتنى دراستى النقدية الحالية لبعض أدب محفوظ وهى التى اقتطفت منها الأسبوع الماضى ما يدعم فروض العلاقة بين الوعى الفردى والوعى الجمعى إلى الوعى الكونى إلى وجه الله، استدرجتنى إلى النظر فى امتداد الوعى الجماعى بالطول فى الجنس البشرى أساسا كما هو يمتد بالعرض كشبكة ضامّة فاعلة تربط الناس بعضهم ببعض “هنا والآن”، وبينما نحن نتعلم من العلاج الجمعى روعة وجوهرية فاعلية قاعدة “هنا والآن” إذا بهذه القاعدة نفسها توحى لنا بالامتداد الطولى – دون تأجيل – لهذا الوعى الجماعى الذى ظهر لى بوضوح أكثر أثناء دراستى النقدية الحالية.
هذا، وقد اكتملت المرحلة الحالية من هذه الدراسة وأضافت إلىّ ما قد يثرى رؤيتنا لهذا البعد الطولى للوعى الجماعى، فينعكس بالتالى على العلاج الجمعى حتى يغذى نقد النص الأدبى “نقد النص البشرى” وبالعكس.
وقد دعتنى دراستى النقدية المقارنة الحالية لنصىْ “ملحمة الحرافيش” و”حضرة المحترم” إلى الرجوع إلى النص البشرى من واقع خبرتى لأعيد النظر فى علاقته بالخلود.
وأبدأ باقتطاف ما جاء فى الدراسة النقدية عن تاريخى مع هذه الفكرة.
الجذور النفسية للنزوع للخلود
كنت فى تنظيرى النفسى السابق من واقع خبرتى الإكلينيكية أساسا (1) أفسر هذا النزوع، بما فى ذلك ضلالات “المهدى المنتظر”، إلى ما نحمله فى قاع وعينا بشرا من “الخوف من الموت جوعا”، لكن هذا الرعب الكامن كان يفسر لى الرغبة الممتدة، اللامتناهية (بلغة عثمان بيومى)، فى الجمع للجمع، وهو ما أطلق عليه عادة لفظ “التكاثر”، وهو تفسير يمكن أن يمتد إلى بعض انحرافات السياسة وأنواع معينة من الاقتصاد الجشع، لكننى اكتشفت أيضا من الخبرة أن هذا الجمع المتمادى بلا توقف مرتبط ضمنا بالعجز عن الارتواء، وأيضا باستحالة الشبع، وكذلك بإلغاء الزمن، وكل ذلك من دوافع النزوع إلى الخلود الخفى، الذى أهم وسائله فى الحياة العادية هو “المال” و”البنون”، بصراحة فى ملحمة الحرافيش لاحظت أن محفوظ لم يأل جهدا فى عرض بعض جوانب هذا “الجمع للجمع”، لكن ليس فقط فى مجال المال، وإنما، وربما أساسا، فى مجال السلطة والسيطرة (الفتونة).
ويمكن الآن أن أعرض لبعض الفروض الفرعية أو المكملة لعلاقة الوعى الجماعى بالخلود فى الحياة العادية والمرض النفسى والعلاج (الجمعى خاصة).
أولاً: إن البدء من تاريخ الحياة، يذكرنا باستعمال مصطلح “الوعى” من منطلق “أنواع العقول” كما استعمله دانيال دينيت (نشرة 2-1-2008 أنواع العقول) فقد كان عنوان الكتاب الرئيسى هو “أنواع العقول”، ثم وضع للكتاب عنوانا فرعيا هو “الطريق إلى فهم الوعى” Towards Understanding of Consciousness ، وهذا العنوان الذكى المتواضع يدعونا إلى سلوك هذا الطريق لفهم ماهية الوعى باحتواء العقول التى أشار إليها دينيت وغيره لفهم حركية النمو والمعرفة والتواصل.
ثانياً: إن امتداد الوعى من اللاحياة إلى الحياة يتضمن الدعوة لقبول فكرة كيف أن للجماد وعى، وأيضا لاحترام محاولات البحث عن ما هو وعى فى الروبوتات الحديثة.
ثالثاً: إن قوانين البقاء، خاصة قبل مرحلة الإنسان، هى قوانين بعيدة عن متناول الوعى بها فى ظاهر العقل والسلوك لسائر الأحياء، لكنها أثبتت أنها برامج فاعلة وناجحة لمن تبقى من أحياء امتدت إلى الإنسان.
رابعاً: إن اكتساب الإنسان القدرة على “الوعى بالوعى” لا يعنى أنه استطاع أن يحيط بتفاصيل دور وفاعلية الوعى البشرى وعلاقته بالنشاطات المعرفية الأخرى، فمازال الوعى أقرب إلى الإدراك الشمولى منه إلى التفكير أو الإدراك الحسى أو التعقيل المنطقى.
خامساً: إن هذا التجذير لنشأة الوعى الأشمل فى أصول تطور الحياة والأحياء إنما يسمح بامتداد الفرض إلى تصور امتداد الوعى طولا مستقبليا فى النوع البشرى، وهو احتمال قائم وبقائى ومفيد (ما لم تحول دون ذلك عوائق ومضاعفات مصنوعة بغباء تطورى أو بطفرات سلبية).
سادساً: يصبح النزوع إلى الانتقال من الوعى الفردى إلى عقل المجموعة Group Mind إلى الوعى الجماعى Collective Consciousness هو صفة بشرية خاصة متعلقة بما اكتسبه الإنسان من السماح له بالإسهام فى مسيرة تطوره سلبا وإيجابا، يصبح هذا النزوع طبيعة بشرية ممكن رعايتها أو تصحيحها اذا انحرفت.
سابعاً: بالانتقال من هذا البعد العرضى إلى الامتداد الطبيعى فى النوع البشرى نجد أنفسنا أمام إشكالة الإدراك الظاهر لحتمية “الموت” ومن ثم “الوعى الساعى للنزوع إلى الخلود”.
ثامناً: إن حدوث الموت كنهاية حتمية للوجود الفردى أصاب الإنسان برعب كيانى ليس فقط على نهاية حياته فردا وإنما أيضا على احتمال انقراض نوعه.
تاسعاً: الإنسان من واقع صراعه ضد هذا الفناء الفردى راح يبحث عن حل يحول دون أن يكون الفناء الفردى مرادفا لـ…، أو دليلا على حتمية الفناء الجماعى، أو فناء النوع.
عاشراً: حلت الأديان المختلفة هذا الإشكال بفضل الله بعرض الحياة الأخرة الأبقى بشكل دائم.
حادى عشر: حين فصَلت التفسيرات اللفظية والسطحية الدنيا عن الآخرة، وفصل الاغتراب والذاتوية المنغلقة الفرد عن جماعته، بدأ الفرد فى مواجهة الصراع ضد الموت، والسعى للخلود الفردى، أو على أحسن تقدير فى الأسرة.
ثانى عشر: ظهرت أشكال هذا النزوع للخلود فى الحياة العادية فى تشكيلات الجمع للجمع وتراكم الامتلاك وتضخم القوة الذاتية بمضاعفاتها السلطوية والرأسمالية والاستغلالية والاحتلالية والاستهلاكية، والشرك بالله بالعبودية للمال والأولاد كمثال محدد واضح.
ثالث عشر: ظهرت أشكال النزوع للخلود فى المرض فى صورة الضلالات العدمية (فمن يُعْدِمُ الحياة ينفى نهايتها) وضلالات المهدى المنتظر وضلالات القوة المحركة للعالم المتحكمة فى الزمن، ضلالات السيطرة على العالم ..الخ.
رابع عشر: على مستوى الحياة العادية السليمة بدا أن الحل الممكن – بطريق غير مباشر – لاح: بالوقاية (بالنظم العادلة والإنسانية وكدح الإيمان وفرص الإبداع والتواصل) وعلى مستوى التطبيب والعلاج بدا أن الرجوع بالوعى الفردى حركية الجماعة بتخليق الوعى الجماعى الإبداعى الضام الممتد هو الطريق الصحيح لاستعادة صحة المسار وتحقيق هدف برامج البقاء.
خامس عشر: كما أن الوعى الفردى أدرك كيف يتهدده الفناء بالموت إن لم ينضم إلى الوعى الجماعى فى حركيته النامية، فإن الوعى الجماعى قد يتهدد بنفس التهديد إن لم يلتحم بالوعى الكونى إلى الوعى المطلق إلى وجه الله فى الغيب بلا حدود ولا نهاية.
سادس عشر: معظم العلاجات الصحيحة تتحرك فى هذا الاتجاه ولكن بأبجدية مختلفة وفروض مغايرة، وسماح ضمنى بجدل مستويات الوعى الإنسانى مع بعضها البعض دون وصاية تنظيرية اختزالية محددة.
سابع عشر: هذه الفروض تتجلى فاعليتها أكثر فأكثر بأسماء مختلفة بشكل مباشر فى علاج الوسط والعلاج الجمعى، والعلاج المعرفى.
ثامن عشر: إن العلاجات الأخرى لها مكانها فى عمليات تنظيم مستويات الوعى بالتبادل، أو بالتعاون أو بالجدل، بشكل يسهل كسر شرنقة الوعى الفردى نحو المشاركة فى تشكيل الوعى الجماعى إلى التناغم مع الوعى الكونى إلى وجه الله.
تاسع عشر: إن الفروض والأطروحات الجديدة المتضمنة فى “ظاهرة” إن المخ يعيد بناء نفسه “هى أقرب الفروض احتراما لتلقائية النزوع البيولوجى التلقائى إلى التنظيم الممتد من أصل الحياة إلى غيب المطلق (الخلود).
عشرون: إن ارتباط هذه الفروض بالنظرية الإيقاعية التطورية من جهة، وبالإيمان التواصلى الضام الكادح إلى وحدة التوجه من جهة، يعد بآمال أكبر من مستوى التطبيب النفسى والعلاج النفسى.
[1] – التى أصبحت اعتبرها نوعا من النقد أطلقت عليه اسم “نقد النص البشرى”