نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 14-10-2013
السنة السابعة
العدد: 2236
الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (71)
هل يمكن للذكاء البشرى أن يفلت من قيود التشريح وطغيان البرمجة الخبيثة لخدمة الاغتراب؟
مقدمة
فى مؤتمر الاسكندرية العالمى العاشر للطب النفسى (10 – 12 أكتوبر) ألقيت المحاضرة الافتتاحية عن “مستقبل الطب النفسى والعلاج الجمعى”، وقد بدأتها بالتأكيد على الحذر من استعمال مصطلح “المستقبل” هربا من مسئولية “هنا والآن” التى هى عمق وسر ممارسة العلاج الجمعى، وأن المستقبل إن لم يبدأ الآن فلا مستقبل. وقد أوضحت ابتداء: (1) إن الطب النفسى هو ”صنعة“ مواكبة الطبيعة البشرية المعاقة أو المنحرفة، لدفع تسييرها أو لتصحيح مسارها وذلك بممارسة فن: المواجهة :المواكبة: ”المسؤولية: (م.م.م)، مستعملا كل معطيات العلم والخبرة تحت مظلة رحمة وقدرة رب العالمين وبعونه. (2) وأن مهمة العلاج فى الطب النفسى هى تعديل مسار هذا الانحراف، وحث مواصلة النمو. (3) وأن العلاج الجمعى هو جامع لكل هذا الفن والعلم معا، يساهم بخبراته الأحدث فى استيعاب احتمالات التوجه السليم لمستقبل البشر، وليس فقط مستقبل الطب النفسى وذلك من خلال حسن تفعيل العلوم الحديثة وخاصة العلم المعرفى العصبى الحديث والعلوم الكمَوية.
ومن ناحية المبدأ كان التساؤل الأساسى يدور حول ما إذا كان المستقبل – عموما – ”يسير نحو مزيد من العولمة المالية الاستغلالية المفترسة؟ أم أنه ثقافى بيولوجى جدلى نوعى فى تفاعل خلاّق بين مختلف الثقافات لتحقيق إنسانية الإنسان تطورا نحو الوعى المطلق إلى وجه الله؟
ثم إنى أشرت إلى ما وصلنى من خبرة العلاج الجمعى وكيف أن الأصل هو تجمع الأحياء فى مجموعات حامية لبعضها متكاتفة لبقائها، متكافلة مع الأنواع المتكافلة معها، وأن البشر يختلفون عن أغلب ما قبلهم فى أمرين أساسين:
الأول: احتمال التمتع بدرجة من الوعى ببرامجهم الحيوية البقائية إذا لم تكن قد طمستها البرمجة المصنوعة الأحدث لأغراض أغلبها اغترابية معطلة،
والثانى: القدرة على التفرد أى أن تكون فردا مستقلا حرا مع انتمائك إلى المجموع دخولا وخروجا طول الوقت،
ثم إنى قد استشهدت بالبيت الذى نسجته على نهج ما نسج زملاء والدى فى الجامع الأحمدى الذين نسجوه بدورهم على نهج بيت من بيوت ألفية بن مالك فى النحو (نشرة 30-9-2013 والأصل فى الوحْداتِ أن تُجَمَّعا)، وإذا بى وأنا ألقى المحاضرة أعدّل البيت إلى ما يلى:
والأصل فى الأحياء أن تُجَمَّعاَ وجوّزوا “التفريد” ما دمنا معا
وكان الشطر الثانى يحتاج إلى شرح أن التفريد هو “أن تكون فرداً”، وقد وجدت من المناقشات بعد انتهائى من المحاضرة أن هذا التعديل كان ضروريا، وأن البيت فى صورته الأخيرة يتفق أولا: مع ما وصلنى فى العلاج الجمعى وهو أن فكرة أن نتجمع هى الأصل الذى يحفظ الأحياء ويطورها، لكن البشر بعد أن أكتسبوا الوعى بالوعى استطاعوا أن يحتفظوا بهذا الأصل وأضافوا إليه حق الانفصال للاتصال، وحق التفرد للحرية التى تسمح بالعودة اختيارا إلى المجموع، ومن هنا: ربما نشأت مشكلة الحرية الإنسانية التى لا تحلها إلا حركية الدخول والخروج التى جاءت فى شطر البيت الثانى، وأيضا فى هذا ما يتفق مع رأى وينيكوت “أن تكَون وحيداً معً “To be alone with، وهو تعديل للمبالغة المستوردة من الثقافة الغربية التى تبالغ فيما يسمى “تحقيق الذات” وإثبات الذات، ثم تكاد تكتفى بالمواثيق المكتوبة (الملتبسة) مع تهميش التوجه البشرى الجماعى العام إلى خالق الوجود لحفظ الجماعة فالحياة فالتطور.
*****
رجعت إلى الكتاب الأخير الذى شدنى عن “التاريخ الطبيعى للذكاء” (1) فوجدته يؤكد هذا الأصل للتجمع بين كل الأحياء، فاخترت مقتطفا تحت عنوان “النمل الاجتماعى” صفحة 78، وما بعدها، وشعرت أن من المفيد أن أنقله بحروفه هنا لأهميته القصوى.
يقول المقتطف:
“.. يتكون معسكر نمل الجيوش من حشرات النمل الحية، وقد تعاونت لتشكل تجمعا مجوفا له شكل أسطوانى بدرجة أو أخرى، وهذا هو “العش”. وقد يتدلى العش من غصن منخفض كخيوط أو شرائط من النمل، تتماسك معا بأرجلها كالخطاطيف. واللقطة جد القريبة تطرح وكأن هناك نوعا ما من حيوان يكسوه “فراء” زاحف هو بالطبع حشرات النمل نفسها وهى تعمل بمثابة النسيج الخارجى للعش. ويتكون هذا النسيج الخارجى من الشغالات الكبيرة والمتوسطة، بينما تتركز الصغيرة حول الملكة فى الداخل. وبالرغم من وجود تراوحات لها قدرها فى درجة الحرارة عند أرضية الغابات الإستوائية المطيرة، إلا أن حشرات النمل لها القدرة على تنظيم درجة الحرارة داخل العش فى حدود الاختلاف بدرجة مئوية واحدة عن الدرجة المثلى. ومن هذا العش يشن النمل غارات يومية بحثًا عن الطعام. وتستطيع مستعمرة النمل من نوع “إكيتون” الإبقاء على اتجاه ثابت كالبوصلة، بحيث إنها فى كل يوم تقوم بغارتها فى اتجاه مختلف – وذلك على مسافة 200 متر من العش، ويتغير اتجاه الغارة فى كل يوم ليدور حوالى 123درجة، وذلك لتجنب الإغارة على نفس المناطق فى يومين متتالين،، ويستمر ذلك طيلة 15 يوما تهاجر بعدها المستعمرة كلها إلى مكان جديد.
…………………
…………………
وقد برمج ما لدى كل حشرة من ذكاء محدود ليستجيب الاستجابة الصحيحة لكل اتصال. ولنأخذ مثلا الحفاظ على درجة حرارة العش، وهذا أمر مهم للتنامى السريع الطبيعى لليرقات الذى يحدث فى أوقات محددة تحديدا دقيقا. وكما يوضح فرانكز فإن مئات الآلاف من النمل تولد حرارة بقدر أكثر مما يكفى، كنتيجة لنشاطها الأيضى.
وإذا انخفضت درجة الحرارة الخارجية، فإن أفراد النمل الأكثر برودة الموجودة خارج العش تهرول محتشدة للداخل تجاه المركز لتغلق فتحات التهوية وترفع درجة الحرارة، ويحدث العكس عندما ترتفع درجة الحرارة من خلال استخدام خوارزم (2) بسيط: إذا كان هناك صنف من فريسة محمولة فى قافلة تتحرك بسرعة أقل من السرعة التقليدية للرجوع، وأنت لا تحمل أى فريسة، يكون عليك أن تقدم العون، وإلا “فلتستمر فى طريقك.
ولا ينضم أفراد النمل إلى فريق النقل إلا إذا كانت سرعة الفريق جد بطيئة عما يلزم، ويتجاهل الأفراد حشرات النمل الأخرى ما دامت تسير بالسرعة المناسبة، وتتكون كل الفرق من أفراد قد انتخبوا أنفسهم. فكل نملة لها من الذكاء ما يكفى لأن تحكم بما إذا كان الفريق يحتاج إليها أم لا. وعلى النقيض فهى ليس لديها الذكاء الكافى لأن تبقى على حياتها لو حدث لها أن أصبحت منعزلة. ومن الناحية الأخرى فإن للمستعمرة القدرة على الإبقاء على حياتها وعلى التكاثر إلى ما لا نهاية (بشرط ألا تجابه بكارثة إيكولوجية).
وهذه الظاهرة خاصية تميز معظم الحشرات الاجتماعية. فبالنسبة للنمل الناسج مثلا، نجد أن هولدوبلر و ويلسون (1977) قد سجلا أن أفراد النمل تؤدى ما لا يزيد عن خمسين فعلا سلوكيا متميزا – وأغلبها يتضمن الاتصال – إلا أن هذا يؤدى إلى خلق وحدة عمل ذات كفاءة عالية ولها قدرة عظيمة على البقاء: وقد عثر فى شرق إفريقيا فى عام 1963 على حفرية مستعمرة ترجع إلى ما يزيد عن 15 مليون سنة مضت. وكما يوضح المؤلفان فإن كفاءة المستعمر يتم التوصل إليها عن طريق البرمجة الصارمة لمكونات السلوك الفردى البسيطة نسبيا، وهذا يضمن نمطا مركبا من التعاون أثناء الأنشطة الاجتماعية، وإن كان نمطا محدد الخطوات.
ويلخص فرانكز اتجاه تطور ذكاء الحشرات على أنه يكون كالتالى: الابتداء بوحدات فردية هى وإن كانت ذات إطار جامد إلا أنها وحدات معالجة من مرتبة راقية، ومثال ذلك الزنابير المنفردة، ثم وصولا إلى مجتمعات ذات أعداد كبيرة تتكون من أفراد أكثر بساطة ترتبط بأنماط للاتصال تتزايد رقيَا. ونمل الجيش بمثل ذروة هذا الاتجاه.
*****
وبعد
بالله عليكم هل يوجد تجمع أجمل وأقدر من مثل هذا التجمع للحياة والتعاون والبقاء والتطور؟
*****
وتحت عنوان “التوليف وإعادة التوليف” صفحة 185 إلى 186 وجدت مقتطفا مكملا فى نفس الكتاب يقول:
“.. إن هذا هو أحد الملامح الرئيسية للعمليات التى تحكم تطور الذكاء: وحدات بسيطة تنضم معا فى أشكال تظل دائما تتزايد تركبا. وتطور الذكاء ليس هو وحده الذى يتأسس على هذه العملية، وإنما يتأسس عليها أيضا تطور الكون نفسه. فالجسيمات الأساسية للمادة تنتظم فى نيوكليونات (3)، والنيوكليونات تنشأ عنها الذرات، وهذه بدورها تشكل الجزيئات. والجزيئات قد تتجمع فى بلورات، والجزيئات التى تحتوى على كربون تنشأ عنها جزيئات فائقة ومبلمرات توفر مادة النسيج لأصل الحياة كما نعرفها. والكائنات الحية البدائية ذات الخلية الواحدة (والنواة الكاذبة) تنضم معا لتخلق أنواعا راقية من الخلايا (ذات النواة الحقيقية)، وهذه بدورها تنضم معا لينشأ عنها كائنات متعددة الخلايا. والإسنفج هو الحيوان الأكثر بدائية بين الحيوانات متعددة الخلايا. ونجد فيه أن تجمع الخلايا جد سائب بحيث يمكن فصل الخلايا باعتصار الإسنفج خلال قطعة قماش ذات ثقوب دقيقة. ولو تركنا هذه الخلايا الفردية لوسائلها الخاصة بها، سيتم تلقائيا أن يعود للانضمام معا مزيج من هذه الخلايا الفردية لتشكل الطبقتين اللتين يتميز بهما المعيار الأساسى للإسنفج (طبقتا الأديم الظاهر والأديم الباطن).
……………
وإذن، فإن هذا هو القانون الأساسى للطبيعة، والنظم البسيطة تتجمع لتشكل نظما تنتظم بطريقة أكثر تركبا. وإذا كان هذا التركب فعالاً، بمعنى أنه أكثر قدرة على البقاء أو التكاثر أو إنجاز الهدف. فإن الضغط الانتخابى سوف يكون بحيث يثبت تثبيتا دائما من هذه التجمعات. والتكامل يؤدى إلى أشكال أرقى من التنظيم، وهذه هى الطريقة التى يجب أن نفسر بها زيادة محتوى المعلومات فى الكون، وما يعقب ذلك من تطور الذكاء على هذا الكوكب. وسيكون من غير المنطقى أن نصر على أن هذه العملية قد توقفت.
…………………..
…………………..
إن ذكاءنا البشرى الفردى حبيس داخل جماجمنا، وسوف يثبت أن هذا هو عامل القصور بالنسبة لتنامى ذكائنا الفردى فى المستقبل. على أن الذكاء البشرى قد أمكنه منذ زمن طويل أن يفلت بالفعل من قيود تشريحنا بأن طور ذكاءً جماعيا فعالا.
وبعد
هل أمكن الذكاء البشرى أن يفلت فعلا ليس فقط من قيود التشريح بأن طوّر ذكاء جماعيا فعالا (وهو ما أسميته أنا تخليق الوعى الجمعى) أم أنه مازال قابعا تحت قشرة ذكاء النصف الكروى الطاغى الذى تتمادى برمجته لخدمة كل ما هو ضد الطبيعة وضد الفطرة وضد البقاء وضد الله؟
حتى لو كانت الإجابة بالنفى وأننا لم نفلت تماما من كل هذا، فإن تحركات الوعى الجماعى عبر العالم تشير إلى حركة مقاومة جماعية تبدو قادرة على المدى البعيد بعون الله، ومن ضمن هذه التحركات أنشطة العلاج الجمعى ليس كعلاج معين كجزء من مهنة معينة، وإنما أيضا كضوء متواضع قد يضىء بعض جوانب المسألة.
[1] – كتاب (ما بعد المعلومات “التاريخ الطبيعى للذكاء”)Beyond Information The Natural History of Intelligence – تأليف: توم ستونير، ترجمة: د. مصطفى إبراهيم فهمى – الناشر: المجلس الأعلى للثقافة (المشروع القومى للترجمة) سنة 2000
[2] – الخوارزم: مجموعة محددة من الإجراءات المنطقية أو الرياضية البسيطة تتبع لحل مشكلة أو مسألة فى عدد محدود من الخطوات. (المترجم).
[3] – جسيمات نواة الذرة، أى البروتونات والنيوترونات التى تتكون من كواركات. (المترجم).