نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 13-10-2013
السنة السابعة
العدد: 2235
الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (70)
فروض المعنى الإيقاعى الحيوى للتسبيح (2):
من الجماد إلى تخليق الوعى الجمعى إلى الغيب إلى وجه الله
نبذة: مرة أخرى: “القرآن الكريم لا يحتاج شهادة من خارجه، وما يلي في هذه النشرة ليس تفسيرا علميا لأى من آياته الكريمة، بل هو استلهام معرفى أضاف إلى معرفتى بربى وبالإنسان”.
مقدمة
ورد الأسبوع الماضى عن ما هو “فرض التسبيح” ما يلى:
إن التسبيح هو برنامج معلوماتى يمكن أن يرجع إلى اتساق أصل الحياة، وبلغة الإيمان: إلى كيف نظمها به خالقها، وهو يتصف بقدرته على تنشيط فتماسك الوحدات المكونة للوحدة لحفظ الاستمرار والتناسق والتفاعل مع الوحدات الأخرى فى امتداد نابض أبدا، مع درجات مختلفة من الوعى، حسب موقع وطبيعة الكائنات والأشياء: حية وغير حية.
يضعنا هذا الفرض فى إشكالية منهجية ضخمة، لا تقتصر على غموض وتشعب تعريفات اللغة المستعملة وإنما تمتد إلى ضرورة تحمل البحث فيما نحتاجه أشد الاحتياج، وفى نفس الوقت لا نستطيع إثباته باليقين المنطقى العادى، برغم بداهة حتمية حضوره، وضخامة آثار ذلك.
الفرض يستعمل لغة قديمة/جديدة حين يتكلم عن تناسقية هارمونية الحياة المتصاعدة، بل حين يتكلم عن الوعى أصلا، ثم يمده عرضا إلى “دوائر الوعى”، ويغوص به طولا “فى امتداد نابض متجدد”، بما فى ذلك الإشارة الضمنية إلى أن المادة الحية قد يكون لها ما يسمى الوعى، مع التذكرة بالمباحث الأحدث جدا التى تتكلم مؤخرا عن “وعىٍ للحاسوب”.
تطورات الفكرة ودعائمها
(1) هذا الفرض لم ينبع من فراغ فبمجرد أن تكلم “توم ستونير” صاحب كتاب (التاريخ الطبيعى للذكاء “ما بعد المعلومات”) عن ذكاء المادة حتى وجدت أنه من الأفضل بالنسبة لهذا الفرض أن أبدأ بالعام ثم الخاص، وبالمادة ثم الأحياء لأختم بالإنسان، هذا علما بما يلى: أولاً: إن التسبيح لا يحتاج إلى ذكاء، وثانياً: إن هذا ليس تفسيرا علميا للقرآن كما اتفقنا.
(2) ذِكْر التسبيح جاء غالبا بصفة التعميم حين يشمل “ما” فى السماوات والأرض مثل: “يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ (الحشر 24)”، “يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ” (الجمعة1)”، “يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ“ (التغابن1)”، “سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (الحديد1)، “سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ“(الحشر1)، وقد التقطت أن ما فى السماوات والأرض تشمل الأحياء وغير الأحياء، فقد جاء فى سياقات أخرى تخصيص التسبيح لـ “من“: من فى السماوات والأرض مثل: “تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ” (الإسراء 44)، “أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ” (النور 41)، ثم خصص أكثر الذين عند ربك “فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ” (فصلت 38).
ثم يتأكد التعميم على كل شىء، مع افتراض أن “الشىء” من الموجودات: ما كان جامدا لا حراك به، ما ليس حيا (1) وهو يشمل الجماد وغير الجماد: “وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ” (الإسراء 44)
(3) مع كل هذا التعميم، وهذا التنويع، يستحيل أن نتصور مجرد تصور أن التسبيح هو عملية واحدة ونقصرها مثلا على “تنزيه الله سبحانه عما يصفون” لأنها بما قدّمنا، كما أبلغنا ربنا، تصدر من المادة ومن الأحياء، من جميع “ما” و “من”،ومن “فيهن” وبالتالى لا يمكن أن يكون ما يوصف بأنه “تسبيح” هو عملية واحدة تجرى بلغة واحدة، “كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ”، “وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ”.
إذن ماذا يجرى بالضبط؟
(4) نلاحظ بعد ذلك أن تسبيح ما هو غير حى – المادة – أتى مرة يذكرنا بالقوة والعظمة والهيبة فى آن مثل الرعد “وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ … “(الرعد 13)، لكنه جاء أكثر من مرة يؤكد الشموخ والثبات والعلو: “الجبال” “وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَالْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ..” (الأنبياء79).
(5) ثم يخص الطير بشكل واضح: “أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ” (النور 41) كما جمع الجبال والطير معا “وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَوَالطَّيْرَ“ (الأنبياء 79).
(6) ثم نلاحظ بعد ذلك أن تخصيص التسبيح للإنسان بالذات قد جاء إما فى صورة إيحاء: “فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً” (مريم 11)، أو أمر: “وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً” (الأحزاب 42)، “وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُوم“ِ (الطور 49)،“وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا” (طه 130)، “وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ” (طه130)، “وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ” (غافر55)، “وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ” (ق31)، “وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ” (ق 40).
(7) ثم حين حدد نوعا منهجيا معجزا من التسبيح كان ذلك فى سياق نبى بذاته هو يونس عليه السلام (ذو النون)، وهو فى بطن الحوت: “فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ” (الصافات 144)، “فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ” (الأنبياء 87)، وهذا له وضع خاص لن أعرج إليه الآن.
خلاصة مرحلية:
نلاحظ برغم اختلاف اللغة، والحياة، ودرجات الوعى طبعا، اختلافات بلا حصر إلا أن كل التسبيح يتوجه إلى وجهة واحدة، وكأنه يتجمع برغم كل هذا الاختلاف فى بؤرة واحدة.
(8) وأخيرا ثمة ملاحظة أخرى من نوع آخر وهى عن تحديد أو تفضيل توقيت التسبيح وهو يتماس مع الإيقاع الحيوى اليوماوى بشكل أو بآخر، (بكرة وعشيا، بكره وأصيلا..إلخ) “فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً” (مريم 11)،“وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً” (الأحزاب 42)، “يسبح له بالغدو والآصال” (النور 36)، “وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً” (الفتح 9)، “وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُوم“ِ (الطور 49)، “وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا” (طه 130)، “وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ” (طه 130)، “وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار“ِ (غافر 55)، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ “(ق 31)، وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (ق 40).
إن تحديد هذا التوقيت المتواكب مع الإيقاع الحيوى يمكن أن يدعم هذا الفرض من جانب آخر من حيث التركيز على الإيقاع والعلاقة بالطبيعة فى نمو مضطرد.
(9) فإذا أضفنا إلى ذلك تسبيحنا له فى الركوع والسجود فى صلواتنا الخمس ومواقيتها منظمة تنظيما شديد الدقة والاتساق مع الإيقاع الحيوى اليومامى، ونحن نتذكر قولنا فى الركوع “سبحان ربى العظيم”، وفى السجود “سبحان ربى الأعلى”، وربما يضيف ذلك إلى الفرض بعدا آخر، خاصة مع ملاحظة اختلاف محيط الدوائر فى الصلاة من الوقوف إلى الركوع إلى السجود.
وبعـد
إن ما وصلنى مما يجرى فى العلاج عامة، والعلاج الجمعى بوجه خاص، وبالذات فيما يتعلق بثقافتنا الإيمانية المتميزة، هو مرتبط تماما بما اسميته تخليق الوعى العام، وعلاقة ذلك بالتواصل المتناغم مع مستويات الوعى المتعددة والمتصاعدة، سواء مستويات الوعى البين-شخصى الثنائى، أو مستويات الوعى البين جماعى المتعدد، أقول إن هذا الذى وصلنى كان هو مصدر الهامى بالمعنى المتعدد للتسبيح من كل هذه المصادر بكل هذه المستويات التى لا يجمعها إلا توحّد بؤرة التوحيد، واتفاق “التوجه” بكل لغة من كل حدب وصوب.
على أنه من الضرورى التأكيد على ضرورة الموافقة على أن نفس العملية تجرى فى ثقافات أخرى ربما بنفس الآلية لنفس الهدف فى العلاج الجمعى وغير العلاج الجمعى، ولابد أنها تسمى تسميات مختلفة، وعلينا أن نحترمها ونحن نتمسك بثقافتنا، وننطلق من خبرتنا، ونتكلم بلغتنا، وسوف نتلاقى حتما -نحن البشر- متى صدق العزم فى السعى إليه.
[1] – كما أن الشىء جوهر أو كيان مجرد يدل على حدث أو فعل، ثم إن الله سبحانه قد “أحسَن كلّ شيء”: أحكمه وأتقنه (سورة السجدة، آية 32)، “خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ شَيْءٍ” أَيْ كُلَّ مَا لَهُ وُجُودٌ مُثْبَتٌ مُتَحَقِّقٌ .(البقرة آية 284)، كما أنه تعالى: “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ “.