نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 16-9-2013
السنة السابعة
العدد: 2207
الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (63)
كشف الطبيعة البشرية لاحتوائها وتنشيط جدل النمو
جاء فى نشرة الإثنين الاسبوع الماضى ما يلى :
يبدو أن المطلوب فى العلاج الجمعى هو أن نتعلم كيف نحافظ على الفطرة البشرية التى تمثل أرقى ما نعرف مما خلق الله تعالى من خلال استعمال كل البرامج البقائية التى أوصلت الإنسان إلى موقعه المكرّم هذا بفضل الله. هل معنى ذلك أننا لا بد أن نعرف مسبقا طبيعة الفطرة البشرية، وأبعاد تلك البرامج البقائية التى وردت فى الجملة السابقة، الإجابة الجاهزة هى: “نعم لابد”، أما الإجابة الواقعية التاريخية التطورية فهى ليست كذلك بالضرورة، فقد استطاعت الأحياء الأدنى (التى قاومت الانقراض واحد من كل ألف) ، دون تعليم منهجى!! أو بحث علمى!! أو تنظير مسبق!! أن تعرف فطرتها التى فطرها الله عليها، وأن تحافظ على بقائها بدون كل هذا، ما العمل؟
جاءنى الجواب على هذا التساؤل أن الأفضل أن أواصل التعريف بما عرفت، بنفس الطريقة التى عرفته بها (ما أمكن ذلك)، بمعنى: أن أنشر ما تيسر من خبرات وممارسات وتجارب وملاحظات أولا، وأحيانا جنبا إلى جنب مع ما يلزم من تنظير تدعيمى أو لاحق.
لكننى أبدأ اليوم بإضافات محدودة على عشرة بنود من الفروض الأساسية التى طرحناها أمس مضافا إليها ببنط مميز ما يمكن أن يوضحها ولو قليلا حتى أستقر على المنهج الذى سوف أستمر فيه لأننى اشعر أننى اقترب رويدا رويدا مما لا يمكن شرحه بالألفاظ، خاصة كتابة، ألا وهو عملية الجدل النمائى” عموما، وفى العلاج الجمعى خاصة.
فقمت بإضافة بضعة أسطر على عشرة بنود مما قدمت أمس كتجربة لا أعتقد أنها نجحت للأسف،
لذلك قد أرجع الأسبوع القادم إلى طرح عينات الاستجابات للعبة الكراهية من أسوياء، وكتابة، وفى سياق جمعى آخر غير السياق العلاجى (المتطوعون فى برنامج النيل الثقافية)
الفروض الأساسية والتوجه العام
(1) لا توجد أية غريزة سلبية فى ذاتها، وإلا: لماذا خُلقَتْ، فالعدوان غريزة بقائية وبالتالى فإن الكراهية التى هى إحدى تجليات العدوان فى الوعى البشرى من حيث المبدأ هى ظاهرة طبيعية كذلك!.
من هنا يكون العلاج الجمعى كشف وتسيير معا، فهو يبدأ من أن كل ما نعرفه عن الطبيعة البشرية، هو مقولات قابلة للاختبار، ولا ينبغى أن نكون أوصياء عليها مهما بلغت قوة وقدرة السلطة الوصية، بما فى ذلك السلطة العلمية، فيصبح التعرف على الغرائز بما هى الآن هو بداية، وكذلك الوجدانات المتصلة بها بلا ترجيح ولا تسليم، وفى نفس الوقت لا قهر ولا وصاية ، اللهم إلا هدف إزالة الإعاقة ، ودفع مسيرة النمو، وهنا تختلف المقاييس بتواضع المحكات إلا اختفاء الأعراض، واستمرار التكيف، والإنتاج، وبدلا من التأكيد على “عدم الإيذاء” يمكن، من خلال هذا العلاج ومثله، الإشارة إلى محك “نفع الناس”، والتصالح مع دوائر الهارمونى المتصاعدة، وليسمها كلٌ بما شاء.
(2) الكراهية هى الوجدان المصاحب والمغلف لأغلب حركية نشاط “الموقف البارنوى” (مع وجدانات أخرى حسب توجه الحركية وغلبة أى من برامج التواصل).
رصد الوجدان المصاحب للغرائز المعنية هو أيضا بداية مهمة تسمح بها آليات العلاج الجمعى، وهى تتجاوز البدء بتعريفات مسلم بها، أو نظريات ثابتة، أو مواقف أخلاقية براقة، فما هناك هو هناك، وهو فى نفس الوقت “هنا والآن”، وقد ظهر هذا جليا ونحن نتناول وجدانات تبدو سلبية، ويبدأ المشاركون بإنكارها بمجرد ذكر اسمها، مثلما الحال هنا فى “الكراهية”، وخذ عندك بعد ذلك وقبل ذلك “الحقد” أو “قبول الذل” (نشرة 17-2-2008 “لعبة الذل”)، أو “النفعية”، مما ورد قبل ذلك فى نشرات سابقة النشرة ثم انطلاقا من هذا القبول تُنشط التفاعلات، وتتحرك المواقف، وتتفاعل الحركيات المختلفة مما نعرف ومما لا نعرف، وعلى رأسها ما ذكرنا من الحركيات الثلاثة الأساسية. (الدخول والخروج، والإيقاع الحيوى، فالجدل)
(3) العدوان، مع أنه غريزة طبيعية مثله مثل الجنس ليس له منفذ طبيعى إيجابى معلن، (مقارنة بالجنس يومية 19-3-2008).
لعل أكثر الغرائز رفضا، وأشهرها تشوها، كانت غريزة العدوان، حتى عدها أغلب الاجتماعيين غريزة سلبية مكتسبة، وليست بقائية أو طبيعية، هذا بالإضافة إلى ان الحياة المعاصرة لم تتح الفرصة المناسبة للتعبير عن هذه الغريزة بشكل حضارى عصرى مناسب، لا بصورة مباشرة، ولا بصورة غير مباشرة، وقد تناولت كل ذلك بالتفصيل فى أطروحتى الباكرة عن “العدوان والإبداع” (عدد يوليو 1980 مجلة الإنسان والتطور)، مقارنة بغريزة الجنس وكيف أن مرحلة التفكيك فى العدوان هى التى تستوعب العدوان ليسهم إيجابيا فى التمهيد لإعادة التشكيل
(4) من أهم تجليات توظيف الكراهية هى إمكانية الاسهام فى الاستعداد لاستنفار الجانب الهجومى للعدوان .
حين تطلق طاقة العدوان الرفض والحذر والإبعاد كخطوة أولى قبل الهجوم أو التفكيك، وحين يصل هذا التوجه إلى الوعى فإنه يتجلى إما فى الغضب وإما فى الكراهية وعادة فى كليهما، ويبدو أن هذا أمر طبيعى قبل أو قبيل ان يتعرف الشخص على موضوع عدوانه بكل ما له وما عليه، وهذه المرحلة عادة لا تستغرق – فى حالات الصحة والنضج- وقتا كافيا يسمح بتفعيله فى عدوان بدائى منفصل.
(5) يترتب على ذلك أن تعتبر الكراهية جزءاً من برنامج بقائى أوّلى ربما يكون دوره أوضح من دور الحب بلغة البقاء، أو على الأقل أسبق وأعمق.
… ثم يتجلى احتمال توظيف الغريزة المعنية (بعد تعريتها والاعتراف بها) فى دور بقائى تكافلى أحدث، فلا أحد فى العلاج الجمعى يتوقف عادة بعد تعريته لقدرته على الكراهية، وأيضا شعوره بحقه فى أن يكره ، بل إن الكثيرين يكتشفون أثناء العلاج (وهذا ما سوف نرجع إليه لاحقا) أن الكره ليس مرادفا للرفض أو الإلغاء أو القتل بهذه المباشرة، وكثير منهم ينتقل دون قصد إلى توظيفه، وأحيانا إلى توليفه مع غيره من عواطف ليست بالضروة “الحب” كما جاء فى المقدمة.
(6) تعتبر الكراهية الذراع الصاد التوجسى فى برنامج الدخول والخروجin-and-out-program ، الذى قد يكتمل أو لا يكتمل بضلعه الآخر وهو الاقتراب للتواصل (الحب).
قبول توظيف الغريزة المعنية، خاصة لو كانت ذات سمعة سلبية مثل الكراهية ، فى موقعها التناوبى، مع الضمان المبدئى لاستمرار الحركية، هو الكفيل بمواصلة التحريك نحو توليف مناسب سواء مع ضدها أو ضمن التوليف العام فى تركيبة جماع الوجدان المتجاوز للتميز التجزيئى
(7) إن تجزىء الانسان (حته حلوه وحته وحشه) يسهـّل فصل الكراهية عن الحب ليصبحا ضدان على طرفى نقيض، مع أنهما ذراعان متكاملان فى جدل النمو كما سنرى.
يقوم العلاج النفسى بالمساعدة فى رفض هذا الاختزال التجزيئى والاستقطابي حين يعترف كل أو معظم المشاركين بهذا الوجدان الذى اشتهر بسلبيته ، إذ يبدوا أن كل واحد يأتنس باعتراف الآخر، وكأن التعرية الجماعية، تلغى السرية الحــُكمية التى صبغت هذه الوجدانات بالسلبية ، أو أنكرتها أصلا.
(8) التناوب بين الكراهية والحب يسهِّل أيضا الاعتراف بهما، الواحد تلو الآخر، مع اختلاف وظيفة كلٍّ منهما حسب طور (نوبة) ظهورهما بالتبادل غير المنتظم، وهذا مقبول، لكنه ليس غاية المراد، ولا نهاية المطاف.
الإيقاع الحيوى النمائى ليس دائرة مغلقة، وإلا فإنه يفقد قدرته على إعادة التشكيل والإبداع والتوليف، لذلك فإن تعرية العواطف ذات السمعة السلبية لا تتبادل بشكل دورى متباعد مع نقيضها ظاهر الإيجابية، ولو توقف الأمر عند هذه المرحلة فإن العلاج الجمعى يصبح أقرب إلى التفريغ منه إلى تنشيط الجدل فدفع النمو
(9) إن فصل ماهية الانسان عن تفاصيل سلوكه (أحب الناس وأكره طبعهم !) هو تجزىء أيضا يسهم فى فصل الكراهية عن الحب، وإن كان يمكن أن يكون تبريرا وجيها بعض الوقت.
طبع الناس الذى يظهر فى سلوكهم ليس إلا نتاج التركيب القائم لكينونتهم، والعلاج الجمعى يتعامل مع السلوك باعتباره التجلى الظاهر لكيان صاحبه، وبالتالى لا يمكن فصله عن صاحبه ، ورويدا رويدا، مع تقدم العلاج يقترب السلوك من الكينونة، أو بتعبير آخر يقترب الداخل من الخارج، وبتعبير ثالث يقترب الظاهر من الباطن، وحينئذ يصبح هذا الفصل التبريرى بين السلوك والكينونة مجرد مرحلة تسمح بالتعامل معها لحلّها بهذا العلاج معا
(10) إذا صحت الفروض 7،8،9 فإن اتساع الوعى البشرى وتعميقه على مسار النمو الفردى هو الذى يسمح بجدل بين الكراهية والحب، تتحدد من خلاله وظيفة “كل منهما معاً” لصالح بعضهما البعض، ومن ثم لدفع النمو، وإمكان الولاف المتجدد
هذا هو غاية الهدف الذى لا يمكن وصفه إلا بالانتقال بما هو “وجدان” إلى ما هو “وعى”، وهنا نجد أنفسنا فى حاجة إلى الرجوع إلى ما سبق نشره سنة 2008 فى سلسلة “ملف الحب والكراهية” (نشرة 21-5-2008 لعبة الكراهية)، (نشرة 28-5-2008 قراءة فى قيمة الكراهية)، (نشرة10-6-2008 وتعلم: كيف تكره (1) خبرة من العلاج الجمعى)، (نشرة11-6-2008 تعلّم كيف تكره (2) “يمكن لمّا أعرف أكرهك أقدر ..”).
وبعد:
أعتذر لاضطرارى تأجيل التعليق على الفروض العشرة التالية إلى الأسبوع القادم
أو ربما نواصل عرض استجابات مجموعة من الأسوياء من برنامج القناة الثقافية للمقارنة