نشرت فى جريدة الوطن
18/1/2001
القراءة المسئولة والتدليك الفكرى
الإنسان المعاصر حيوان قارئ
يظل كل من الكتاب والصحيفة والمجلة والقلم والورقة هم الأصدقاء الدائمين للإنسان المعاصر فى الحل والترحال. حتى تلك الوسائل التى ابتدعها أخيرا هى ليست إلا أدوات مساعدة للقراءة وليست بديلا عنها. نحن نقرأ الإنترنت، ونقرأ ما نبحث عنه على أقراص “السيديهات”. نقرأ المعلومات الجديدة بكل اللغات، حتى تلك المصورة منها تتحول فى النهاية إلى ‘قراءة’ بشكل أو بآخر. كل الأدوات تنتهى بنا إلى قراءة ما.
هذا عن القراءة (والكتابة) التى نعرفها كما شاعت بما يقابل عكس الأمية . لكن ثمة قراءة أخرى أسبق وأعمق. حين أنزل الله سبحانه وتعالى الوحى على نبينا الأمى [ كان أول ما أمره به هو أن “يقرأ”، تلك قراءة أساسية جذرية عميقة أولية، هى البداية، وربما تكون هى النهاية ، قراءة فى الكون وفى النفس، وبالتالى: قراءة فى الوجود. نحو الإيمان.
تذكرت هذه المعانى للقراءة، ومعان أخرى كثيرة مجازية نستعملها قديما وحديثا تفيد أن القراءة هى نوع من التمعن فى النظر والإحاطة، نحن نقول: قراءة فى ملف الانتفاضة، أو قراءة فى ظاهرة العولمة إلخ . تذكرت هذا وذاك بمناسبة قرب افتتاح معرض القاهرة للكتاب. هذه المناسبة الرائعة التى تلتقى فيها العقول العربية ببعضها البعض، فتتذكر ما نسيت، وتستعيد ما بعـد، وتتفق وتختلف، تستكشف وتتحاور، ليس فيما بينها وبين بعضها فحسى، نفعل ذلك ونحن نستنشق رحيق عقول الفكر البشرى من كل حدب وصوى، بكل حرف وصوت. هذا المهرجان ومثله تقليد عربى قديم، منذ سوق عكاظ وقبله حتى الجنادرية وجرش، مرورا بالشارقة وبغداد. ومع ذلك فالمسألة تحتاج إلى وقفة لنحافظ على إيجابيات مثل هذه اللقاءات، ونتجاوز سلبياتها.
لا يوجد شئ اسمه القراءة للقراءة. مهما أعليـنا من شأن القراءة حتى التقديس، أو زعمنا بأن الإنسان حيوان قارئ، فإن القراءة لا تعدو أن تكون وسيلة للحياة وليست غاية فى ذاتها. حين تصبح القراءة غاية فى ذاتها تصبح عبئا على الوجود وليست وسيلة إلى تعميقه وتحسينه. حين تكلمت فى مقال سابق عن بعض ما يميزنا أو ما ينبغى أن يميزنا، أشرت إلى أن البعد الإيمانى يتطلب أن نحرص على قيمتى “الامتلاء والامتداد”، الامتلاء يجعل وجودنا غير قاصر على ظاهر وعينا، وإنما يجعله مشتملا على كل ما خلقنا الله به من فطرة سليمة تتناغم مع بقية مخلوقاته، والامتداد هو الذى يحرر الإنسان من غباء تقزيم فطرته عند هامة رأسه بما وضعه فيها من علم قاصر. الامتلاء فالامتداد هما القيمتان اللتان تميزان الوجود الإيمانى الساعى إلى مواصلة الكشف إيمانا بالغيب وكدحا إلى الحق. فإذا أسهمت القراءة – مع وسائل أخرى كثيرة – بهذا الدور فإنها نعم القراءة ونعم الكلمات، أما إذا أصبحت زينة للعقل، وحلقة مغلقة للفخر والهجاء، فإنها تخرج عن معناها الكامن فى الآية الكريمة “إقرأ وربك الأكرم”. إن القراءة السليمة هى القراءة التى تفتح لنا آفاق أنفسنا والكون، فتعمق نوعية وجودنا إلى ما كرمنا الله به.
العرب ليسوا ظاهرة صوتية كما ادعى البعض، حتى لو بدا أنهم كذلك فى بعض أوقات المحن، وأزمات النكسات. إن اللغة العربية ليست فقط وسيلة للتواصل ، وإنما هى تاريخ جدلنا مع الوجود الحى. أحيانا أقف عند مرونتها وجذالتها وأنا أتناغم مع نبضها وأغوص فى بحورها ثم أطفو على موج هديرها، وأقول لنفسى إن وجودا قد أفرز هذا اللسان وحافظ عليه هكذا ، هو تاريخ فى ذاته، تاريخ لا نكون أهلا لحمله بمجرد ترديد حسناته، ولكن بأن نتحمل مسئولية تحديثه. هذه اللغة هى سجل رائع لجدل مجموعة من البشر مع الحياة فى الحياة، وقد استطاعت أن تقبل تحدى الوجود، وأن ترتقى به – جدلا- حتى ميزت أصحابها بما تميـزت به، فماذا فعلنا بها بعد ذلك؟
ما لم يكن معرض الكتاب – ومثله – تذكرة لنا بما يجب أن نحمله من أمانة الكلمة قولا ثقيلا، وما لم يكن اقتناء الكتاب متضمنا حمل هم ما يحويه، وما لم يكن فخرنا بلغتنا هو بداية لتحديثها، وما لم تكن فرحتنا بلقاءاتنا هى تجديد وعد بقبول التحدى الحضارى الملقى فى وجوهنا، ما لم يكن كل ذلك كذلك فإننا نخدع أنفسنا بمثل هذه النشاطات، التى مهما لمع بريقها، قد تتسرب نتائجها من بين أصابع وعينا إذا ما تخثر بالجمود الآسن. إن الكلمة المسئولة هى التى تحفز تغييرا إيجابيا فى حياتنا جميعا.
أتصور أن مثل هذه اللقاءات الفكرية، ومثل هذه المعارض التى تسمح لنا أن نتابع ما يجرى بيننا وحولنا لا تقوم بدورها إلا إذا خرجنا منها ليس فقط باقتناء عدد من الكتب ومزيد من الموسوعات وكثير من المعلومات، وإنما هى تكون فى أوج عطائها حين تـلهمنا أن نحمل مسئولية ما يبلغنا منها، حين تصبح قراءتنا إلزاما بمحاولة التغيير على أرض الواقع، انبعاثا مما وصلنـا من جديد.
هذا، وإلا يصبح الأمر مجرد نوع من “التدليك الفكرى”، وهو تعبير ليس من ابتداعى، لكنه أعجبنى فأحذر به من يتباهى بمجرد ترديد الأفكار. واقتناء الكتب.
الكلمة مسئولية، والوجود يحتاجها لتصبح فعلا خلاقا، وليست ‘ديكورا لعقل يتبختر قراءة، وخطابة، ونشرا فى ندوات المعارض، وأروقة التاريخ. مع وقف التنفيذ.!!!