نشرت فى مجلة النقد الأدبى والدراسات الأدبية
العدد (2) عام 2005
ص (72 – 91)
القارئ العادى ناقدا
(1) من هو القارئ العادى؟
- هل هو العادى بالمعنى الإحصائى (الديمقراطى الإنتخابى أحد ممثلى الأغلبية)؟ الذى مثله مثل “أغلب” الناس؟
- هل هو العادى بالمعنى الممثل للمنطق الشائع (أو ما أحب أن اسميه صاحب “الحس الشامل” أو الحس العام Common sense وهذا أمر ليس له علاقة لا بالأغلبية ولا بالأحصاء.
- هل هو العادى: بمعنى غير المتخصص (فى النقد خاصة النقد كعلم أكاديمى له قوانينه وقواعده وشهاداته، وأهله).
أحسب أننى أقدم هذه الورقة من هذا المنطلق الأخير.
-القارئ العادى هنا: هو القارئ غير المتخصص فى النقد “أكاديميا” وبالتالى فهو “كل الناس إلا فئة متخصصة قليلة.
متى يكون القارئ العادى متلقيا فحسب (القارئ الإناء)؟
ومتى يكون القارئ العادى مشاركا فى إبداع النص؟
ومتى يكون القارئ العادى ناقدا؟
* أحسب أن المستوى الأول لا يمكن أن يكون هكذا خالصا من غير تداخل مع الثانى والثالث.
وإن كان يجوز فى أحوال السلبية والتدهور والتبعية والوصاية على الفكر أن نجد فريقا كبيرا من القراء الأوانى إن صح التعبير، بل إننى ذهبت مرة إلى تشبيه هذا النوع من القراء باعتباره أوانى مستطرقة،لأؤكد وجه الشبه فى نظرية الأوانى المستطرقة حيث لابد أن السائل يتساوى فى سطحه الأعلى فى كل هذه الأوانى مهما اختلفت أشكالها، ومع أن كثيرا من القراء هكذا، إلا أننى استثنيهم من هذا الزعم بأنهم نقاد بالضرورة.
أما النوع الثانى وهو القارئ المبدع فهو الذى يتلقى النص نشطا محاورا، فيعيد تنظيم وعيه من خلاله، وبالتالى فإن ما قد حصل هذا القارئ ليس ما هو مكتوب أو ممسرح أو معروض ، وإنما هو جماع الجدل بين وعى الكاتب كما صاغه فى النص، ووعى المتلقى كما استقبل النص وأعاد ترتيبه.
فإذا توقف القارئ عند هذه المرحلة فهو متلق إيجابى فحسب، ولا نستطيع أن نقول إنه قام بدور نقدى مادام لم يقدم على تحديد وإعلان ما انتهت إليه العملية الجدلية بينه وبين النص.
ومع ذلك فهو ناقد ضمنى رغم أنفه بمعنى أن إسهامه فى الاقبال على عمل ما، أو الإنصراف عنه، أو التصفيق له، أو إعادة قراءته، أو إغفال بعض ما جاء فيه، كل ذلك هو إعلان ضمنى يساهم فى تقييم العمل بدرجة ما، وبالتالى هو حوار ضمنى يفيد الكاتب وآخرين، لكن يصعب أن نسمى هذا نقدا بأى مقياس.
فإذا تجرأ القارئ العادى على إعلان رأيه ولو لنفسه بالخطوط، والدوائر، وكتابة الهوامش، والتعليق، حتى لو لم يجمع ذلك فى وثيقة متاحة لآخرين، فهو قارئ ناقد بالضرورة، فإذا كان مهما أو مشهورا حتى فى مجال آخر، حتى لو بعيدا عن الأدب مثل السياسة أو العلم، فإن هذه الملاحظات يمكن أن تعتبر نقدا، مثلما نسمع عن ملاحظات لينين أو إنجلنر على بعض القراءات الأدبية.
فإذا قام هذا القارئ نفسه بجمع هذه الملاحظات والحوار والتعقيبات، ووصف المشاعر، فأحاط بالعمل إحاطة خاصة تضيف أو تكشف أو ترفض أو تحتج .. إلى آخره، فهو قارئ ناقد بالضرورة.
والكاتب (والناقد الأكاديمى) يحتاج لكل هؤلاء القراء وبالتسلسل السابق ذكره، بمعنى أن النوع الأول هو أقل القراء موقفا نقديا، ومع ذلك فله الاعتبار الأول فى النشر والسوق لكثرة عدده، أما القراء الآخرون فهم ثروة المبدع حقيقة، وهم أيضا ثروة الناقد الاكاديمى مبدعا، كما أنه يحسن بنا الإستماع إلى كل هؤلاء بقدر ما نستطيع، بما يسمح بمزيد من الحوار واستمرار النمو الإبداعى.
هذا وأحسب أن مجتمع النقاد هنا فى هذه الجمعية قد امتلك وعيا فائقا بحيث سمح لواحد مثلى أن يتواجد هكذا بينكم الآن.
ومن هذا المنطلق فأنا قارئى عادى أتيحت له الفرصة أن يعلن رأيه بين الحين والحين، وأن يجلس بين من يهمه الأمر هنا وهناك، وقبل أن أعرض بعرض خبراتى الشخصية عرضا بالتصوير البطئ لأظهر كيفية قراءتى لبعض الأعمال مؤخرا (باعتبارى قارئا عاديا) أحب أن أنبه إلى ملاحظتين:
الأولى: أن مسألة أخذ الرأى الشخص العادى فى أمر فنى متخصص ليست جديدة، فهى مسبوقة فى مجالات كثيرة أورد منها بعض الأمثلة كالتالى:
(أ) نظام المحلفيين فى القضاء الإنجليزى: (وهم يختارون من نفس بيئه وظروف المتهم حتى يسهل عليهم التقمص وإصدار الحكم من حيث المبدأ لا من حيث الصياغة القانونية “مذنب” – “غير مذنب”.
(ب) نظام الذواقة لنكهة سجائر بذاتها (الخرمنجى) أو الطفل الذواقة لأنواع الشيكولاتة، فأى منهما شخص عادى (ليس مؤهلا اكاديما) لكنه ينتقى بصفته وليس بصفته الذائقاتية، وليس ممثلا للأغلبية.
(ج) وفى الدين يؤخذ فى الاعتبار رأى الناس فى الميت، وأنا لا أذكر الحديث نصا، وإن كنت أذكر أننا حين كنا ندفن الميت فى بلدنا كانو يقول اللحاد بعد أن يوسد الميت قبره، وهو يلقنه “إذا أتاك الملكان إلخ”، “كان يسأل المشيعين: “ماذا تقولون فى هذا”؟ فيرددون مسلم طيب موحد بالله، أو شيئا من هذا القبيل، ولم أفهم جيد ماذا يعنى هذا، حتى عرفت مؤخرا أن ثمة حديث شريف يشير إلى أن المسلم يذهب حيث يرى الناس، فمن قالوا أنه طيب فهو طيب أى فى مكان طيب (وإن كان هناك تحفظ فى هذه المسألة بالمقارنة بحديث “صهيب” حين يسأل عنه رسول الله فيقول الحضور (وليس الرأى العام) ما معناه أنه ليس بشئ، إذا حضر لم يستشر وإن غاب لم يسأل عنه وإن خطب لم يستجب له.. إلخ فيقول الرسول إنه مؤمن نسى إذا ذكر ذكر خلط الإيمان بلحمه ودمه ليس للنار فيه نصيب).. إذن فالمسألة ليست “سداح مداح ” كما يبدو لأول وهله، ولكن هناك من الأفراد العاديين من يجد له مكانا خاصا تعجز التكنولوجيا من ناحية (مصانع الشيكولاتة والسجائر) عن القيام بدوره، كما يعجز الشخص العادى (الآخر) عن الوفاء به.
(د) – فى الممارسة الإكلينيكية فى العلاج الجمعى نجد أن كثيرا من الأحكام لا تصدر بناء عن رؤية الطبيب وحده وإنما بالاشتراك مع أفراد المجموعة (وهم عاديون بمعنى أنهم غير مختصون فى الحكم على غيرهم)، ويسمى هذا أحيانا المصداقية بالاتفاق (Consensual Validity)
وبصفتى هذه: “القارئ العادى (الخرمنجى)، الذى يقرأ أحيانا بحروف مكتوبة” سوف أقدم بعض تجربتى الشخصية فى هذا الصدد على الوجه التالى:
أولا: مقدمة عن المرسل والمتلقى منشئا أول (كاتبا) ومنشئا ثان (مبدعا)
والتغيرات التى تؤثر فى القارئ العادى ناقدا
ثانيا: تجربة شخصية من خلال:
(ا) استبار “شهادات النقاد” (مجلة فصول)
(ب) مقدمة قراءة “حريق الأخيلة”
(ج) قراءة فى “عطلة رضوان” + مواجهة مع المسئول الكبير” مصاحبة برؤية نقدية بمثابة إبداع ثالث.
(د) ثم قراءة أخيرة فى” أيام الإنسان السبعة” لعبد الحكيم قاسم.
أولا: مقدمة:
(1) لمن يكتب الكاتب؟: هذه قضية قديمة لا أجد من اللائق أن أعيد النظر فيها وأنا بين هؤلاء الثقاة المختصين، ومع ذلك فلابد من إشارة قصيرة تليق بمحاضرة اليوم، وبدون سؤال الكاتب هذا السؤال السخيف الذى لابد أن يكون الرد هو “إنى أكتب فقط هكذا”، والتحفظ على السؤال -رغم وجاهته = لأنه بمثابة أن نسأل حالم: “لمن تحلم هذا الحلم” (لا لماذا، ولا ماذا، ولا كيف) ومع ذلك فالسؤال يظل مطروحا، فالكتابة ليست نشاطا ذاتيا مغلقا، وهى ليست إستمناء عقليا (أنظر بعد: عطلة رضوان) – الكتابة حوار بالضرورة، ولهذا لابد من “آخر” يوجه إليه الخطاب وهو يكمن فى مكان ما فى وعى الكاتب وهو يكتب.
وقد تختلف إلاجابات من أقصاها إلى أقصاها فثمة كتابة موجهة لمخاطب بذاته مثل “أدب الأطفال” وثمة كتابة للقارى العام مثل الكتابة للصحف أو فى الصحف، وثمة كتابة للنشر الموسع، مثل سلاسل المنشورات والطبعات الرخيصة (ذات الأغلفة الورقية) وثمة كتابة لدوائر أضيق فأضيق (أكثر تخصصا فى الأغلب).
والكتابات الأصيلة والمخترفة هى الكتابة المتميزة الصعبة، ويمكن أن يكون الرد على صعوبتها أنها كتابة للتاريخ (سوف يأتى زمنها فيما بعد) أو أنها لله (رد بيتهوفن حين سئل عن إحدى سيمفونياته) أو إنه يكتب لنفسه، أو “إيش عرفنى”؟ بمعنى “إنت ما لك يا بارد!!” وأهمية طرح هذا السؤال يأتى من منطلقين:
الأول: التأكيد على أن الكاتب لا يكتب للنقاد فحسب بل هو لا يكتب لهم أصلا، فهو ليس فى إمتحان سوف يجتازه أمام لجنة تقييم.
الثانى: أنه مع تحديد المخاطب، يتحدد حق هذا المخاطب – بأى درجة من التعميم والتقريب – فى الرد، أى الحوار، الذى أحد صوره موقفه النقدي.
(2) لمن ينقد الناقد؟: بدرجة أقل من الحيرة يمكن الإجابة على هذا السؤال (إجابة تقريبية طبعا)
بقولنا إن الناقد (كمبدع ثان، أو مبدع أعلى أو مبدع ملتزم بإبداع سابق)، إنما يكتب:
أولا: لكل من كتب لهم الكاتب (بما فى ذلك نفسه).
ثانيا: للكاتب الذى أخرج النص الأصلى إبتداء
ثالثا: لمشاريع الكتاب تحت التأسيس In the make
والقارئ الناقد يندرج عليه هذا التوجه أيضا ولكن بتركيز واضح على المستويين الأول والثاني، وبدرجة أقل الثالث.
(3) ماهى العوامل التى تحكم الناقد العادى (قلنا غير المتخصص) فى مهمته هذه؟
يمكن الإجابة على هذا السؤال إجتهادا كما يلى:
أ – طريقة القراءة (يستبعد بداهة القراء الأوانى المستطرقة) وهل هى قراء منشئة، أو محاورة، أو مسترخية، أو منبهرة، أو مبرمجة متحيزة .
ب – إنتماؤه الأيديولوجى: ويشمل إنتماؤه الدينى العقائدى وليس الإيمانى بالضرورة وأشهر الأمثلة لذلك (ولكن من النقاد المختصين) هما عمل المنتمى لغالى شكرى فى مقابل الإسلامية والروحية عند نجيب محفوظ محمد حسن عبد الله (وإن كان هؤلاء نقاد متخصصون إلا أننى لم أجد أمامى أمثلة لنقاد قراء).
ج – أرضيته الثقافية: من أول نشأته الأولى (أنظر نقد أيام الإنسان السبعة)، حتى محيطه الحالى وكل المؤثرات الثقافية التى تصله.
د – الإطار المعرفى العام والمتخصص: وهذا يتحدد بالتعليم العام والتثقيف الخاص، و ربما الأهم من هذا وذاك: بالمهنة والممارسة، فالقارئ المهندس – مع المبالغة – لا يستطيع أن يقرأ رواية دون أن يشكل معمارها، والقارئ عالم الحشرات لا يستطيع أن يقرأ عملا دون أن يدخل فى تفاصيل مجهرية لا للحشرات الواردة فى العمل (راجع: أيام الإنسان السبعة)، وإنما لدقة تفاصيل العمل، ومازلت أذكر “سام” ماسح الأحذية وهو يصنف البشر فى مستر بكويك لشارلز ديكنز من منطلق مهنته (كانت علينا مقررة فى التوجيهية سنة 1949).
وهذه النقطة بوجه خاص كان ومازال لها أعظم الأثر فى اجتهاداتى فى هذا المجال، وأعنى نقطة تأثير عملى على كتاباتى النقدية دون تسميتها: نقدا نفسيا.
هـ – وعوامل أخرى بديهية: مثل تملك الأداة والقدرة والممارسة والإتقان والمراجعة.
عرض خاص: تطبيقات من خبرة شخصية حديثة مقتطف من شهادات النقاد: (فصول عدد 3، 4 1991)
هل تصدر فى نقدك عن بناء نظرى فى الأدب والفن بعامة؟ وإذا كان فما الدعائم التصورية الأساسية التى يقوم عليها هذا البناء؟
نفيت إبتدءا إنتمائى لمدرسة النقد النفسى التحليلى، إلى أن قلت .
… ومع ذلك فأنا أضبط نفسى متلبسا بالتفسير النفسى للأدب فى أثناء قراءاتى وكتاباتى النقدية، برغم كل هذا الرفض لهذه الوصاية.
وقد اكتشفت من واقع هذا التناقض الظاهرى أنه يمكن أن توجد لما يسمى النقد النفسى عدة مستويات، مارستها جميعا حتى انتهت إلى ما أقوم به الآن:
كيف يكون مدخلك إلى العملية النقدية؟ وعلى أساس من أى منهج يكون تحليلك للنصوص الأدبية؟
ذكرت حالا أننى أدخل قارئا عاديا، لكننى أستطيع أن أتذكر أن ثمة فرقا بين أن أقرأ صامتا لى، وأن أنوى أن أقرأ العمل بحروف مكتوبة لى ولغيرى (مما أسميه نقدا)، فالأمر على ما يبدو يجرى هكذا:
فأنا أحاول أن أنزع عن نفسى ابتداء أن هذا العمل لفلان الذى أعرفه مسبقا إذ أننى لو قرأت العمل بما أتوقع منه، وما أعرف عن كاتبه، فجاء كما توقعت، فأى جديد هناك؟ وأى نقد ممكن؟ وقد شجعتنى هذه البداية دائما على أن أرفض أعمالا لمن لا يمكن رفضه من حيث المبدأ – فمثلا حين قرأت قصة قصيرة اسمها “الفأر النرويجي”لنجيب محفوظ لم أتمالك أن أرفض رمزيتها المفرطة، ولم أنقدها ولم أعد إليها قط.
ثم إنى أعود للعمل بعد أن تكون قد وصلتنى منه الإشارات الأولية التى تكون سلبياتها – فى العادة – أكثر من إيجابياتها، فأحاول أن أتقمص الجو العام الذى كتبت فيه، احتراما للجهد البشرى وتقمصا لإبداع الكاتب الخاص لهذا العمل بالذات (إن أمكن ذلك)، فمالك الحزين والسكة الحديد، كتبتا فى السنوات، فكيف أسمح لنفسى أن أمر بأى منهما فى ساعات ثم أدعى أننى عايشت كاتبهما بدرجة تسمح لى بمحاورته ومحاورة قرائه؟
وفى هذه القراءة الثانية أمسك القلم “مشخبطا” على النص بحرية كاملة، وكأن صاحبه معى أمسك بخناقه، بل إننى أتصور أحيانا أننى ”ألابطه” جسديا، ويملؤنى الغيظ منه، والحقد عليه، وشكره والدعاء له، والتضاؤل أمامه، فأحاول أن أقلب كل ذلك إلى ما أسميته حوار “الملابطة”، ثم إنى أعود إلى العمل ببطاقات التسجيل، أجمع “التيمات”التى سبق أن أشرت إليها “مشخبطا” والتى تستحق أن ترصد معا، فأعيد تنظيم العمل من منطلقى الخاص لأظهر منه ما ظهر لى فى نسيج آخر، يصنع منه ثوبا آخر.
وفى هذه المرحلة الأخيرة تحضرنى الرؤى العلمية، والممارسات الخبراتية، فأستعين بها وأستهدى، بقدر ما أضيف إليهما وأحاورها من واقع العمل، فأنا لا أجعلها – مثلما أخطأت فى البداية – وصية على العمل، وفى الوقت نفسه لا أتناساها مدعيا أننى تخلصت من أثرها تماما، بل إننى أعدها من خلال العمل طوال الوقت. فى كل ذلك أريد أن أقول إننى لا ألتزم بمنهج معين، اللهم إلا الإلتزام بمعاودة القراءة، وإبطاء إيقاعها، والحوار معها طوال معايشتها بأكبر قدر من الموضوعية والمرونة التى تسمح برحلات الداخل والخارج المستمرة.
عينات من قراءاتى حالة كونى
قارئا غير متخصص. تأملات ذاتية بأثر رجعى
مقدمة حريق الأخيلة:
أعتبر نفسى أحد القراء الذين يمكن أن يرصدوا ما يعن لهم أثناء القراءة (وهذا ما أسميته أنى أقرأ بحروف مكتوبة) وأمارس هذه الخبرة مع مرضاى باعتبارهم نصا مبدعا، وإن كان مهزوما، مثلما أعيش مع النص الأدبى باعتباره كائنا حيا.
وقد خطرت ببالى هذه التحفظات (وأنا أقرأ حريق الأخيلة: للخراط)
1- أنك لا تستطيع أن تقرأ مثل هذه الأعمال وأنت مستلق على السرير، ولا وأنت فى قطار سريع، ولا بين أعمال أخرى.
2- أنك لا تستطيع أن تقرأها وأنت تحمل معك مبادئ مسبقة لمواقف مسبقة، فكل قياس باطل وفاسد.
3- أنك لا تستطيع أن تقرأها وأنت تنتظر منها شكلا محددا، لابد أن تقرأها “على ميه بيضاء” (كما يقول أولاد البلد) ليس فقط بالتنازل عن سابق معرفتك وقياساتك وأحكامك، ولكن أيضا بالتنازل عن ما تتوقعه أو تنظره أو حتى تأمله منه.
4- ثم إنك لا تستطيع أن تقرأها مرة واحدة، ربما: ولا عدة مرات (إن استطعت ان تكمل المرة الأول).
5- ثم إن عليك أن تتحمل القراءة وتنتهى منها بأى ثمن قبل أن تحكم على العمل (وكان من بين ما أثارة هذا الرأى الأخير هو: أنه لا أحد يكمل العمل ولا أحد يكمل القصيدة فلماذا؟).
6- ثم إنك لا تستطيع أن تقول مثلا إن مغزى هذا العمل هو كذا تحديدا.
ثم أنتقل إلى خبرة شخصية أكبر: وهى ما شرفتنى به هذه الجمعية الموقرة العام الماضى بتقديم عمل صعب لم تتح لى فرصة تقديمه علانية هو: عطلة رضوان لعبده جبير وقد جعلتنى هذه الخبرة أمر بمعاناة شخصية حين تواكبت قراءتى له مع نشر ما يسمى من “أوراق المسئول الكبير فى الأهرام”، فكان نتاج ذلك ما مر بى كما يلى:
أولا: المعاناة الشخصية:
1- فمن ناحية تعجبت أن أحدا من النقاد لم يتعرض للمسئول الكبير قائلا (عيب كذا).
2- ومن ناحية أخرى تذكرت الطيب صالح وهو يقول لى إن الأعمال الحسنة تحتاج إلى تعليق وتعريف، أما غير ذلك فالأحسن تركه أصلا (ولم أقتنع).
ومن خلال نقلاتى هذه امتلأت غيظا على الجانبين.
ثم أننى أخذت أنظر فى مشاعرى هذه وأنا أتناول هذا العمل فكتبتها فى ثلاثة مجموعات بترتيب ظهورها على الوجه التالي:
المرحلة الأولى: الغيظ -الاحترام – التحدى- الرفض.
المرحلة الثانية: العودة الصبر – الشفقة – الاستفادة.
المرحلة الثالثة: المحاولة – العجب – السماح ثم الغيظ .
لتعود الحلقة من جديد .
ولكننى وجدت أن هذا لا يمثل الحقيقة تماما، فمشاعرى لم تظهر بهذا الترتيب المراحلى، فرسمتها فى دوائرمتداخلة نسبيا
فوجدت أنه ولا هذا ينفع أيضا فكتلة المشاعر أصعب من أن تخطط هكذا، فجمعتها فى بؤرة داخلية مكثفة فكانت أقرب إلى الحقيقة.
وحين نظرت إلى الثلاث درجات من الإيضاح وجدت أنها أشبه بموقف المبدع بين التداخل والتسلسل، بين التكثيف والتنظيم، بين المسخ بالصقل، والمسخ بالفجاجة، وقلت أجعلها أيضا بين أيديكم.
وبعد أن عشت كل هذا التحدى حاولت أن أواجها بالاختيار بين بدائل ثلاثة:
الحل الأول: أن أقدم فى إيجاز شديد، وبمنتهى الجدية ما وصلنى، ورزقى على الله.
الحل الثانى: هو أن أعلن رفضى بطريقة ساخرة، إذ أحاكى ما وصلنى كاريكاتيريا حتى أضرب منكم جميعا
الحل الثالث: ويتمثل فى أن أكتب عملا موازيا ليس له علاقة مباشرة لا برواية جبير “عطلة رضوان” ولا بأوراق البرلمانى الكبير، ولكنه عمل يقول شيئا من خلالهما، وبدافع من الغيظ الذى تولد عنهما فكان هذا الذى سأعطيه لكم بعنوان “رؤية نقدية”: شئ بين السيرة الذاتية والنقد والقص، وهذا الحل الثالث يساير ما أقترحه نقدا لهذه الأعمال وهى أن تكون دافعا لما يتوازى معها من صفتها ويضيف، وهو الحل الذى يحضرنى دائما منذ قرأت قصيدة الشماخ “القوس العذراء” التى نقدها محمود شاكر شعرا جميلا، وبما أننى أكرر دائما أن النقد هو إبداع مخاطر محدود بنص سابق، فإننى أعرض عليكم انتقاء أى من هذه المحاولات الأربعة، ومسوداتها جميعا معى الآن؟
وجميع الحلول التى ذكرتها للتو قد ينتج عنها طردى من حق التواجد بين هذا الجمع النابه من العقول الذكية، والوجدان الحاد، والخيال المبدع، ليكن: فأنا مسئول، ورغم أننى الخسران، فإن تحديد موقعى هو أحسن ما يمكن أن أقدمه فى هذه المرحلة من حياتى.
الحل الأول قلت فيه:
- هذا نص استمنائى مزدحم، متفرج، متناثر فى إتقان، مرعب.
- وهو نص شديد القسوة رائع الحبكة، جاد، ذو نفس طويل، يدخل ويخرج إلى وعى القارئ منفصلا فى حركة دؤوب، لكنها فى المحل (محلل سر).
- وهو نص جاف، لكن جذوره لم تمت رغم العواصف وسقوط معظم الأوراق.
- وقد بدا لى أحيانا هذا النص مثل مومياء تدب فيها الحركة لتبعث من جديد ولكنها لا تبعث وإنما تنقلب لتصبح جثة طازجة – فلا فائدة.
– وهو نص فيه لمسات دفء، لكنه دفء متقطع، وبالتالى كان التخثرالذى كاد أن يفسد الحبكة، ويضيع فائدة الثراء الموسوعى الواعد بالتكامل.
– وهو نص يحرم صاحبه من حقه فى إظهار قدراته التى لا شك فيها، وبعبارة أخرى لقد طغى النص على كاتبه حتى أخفاه بين طياته، دون أن يحل محله بكفاءة مناسبة.
– وهو نص يعرض أكثر منه يحكى، فهو رؤية أكثر منه رواية، رؤية مستعرضة (بالعرض) ليس لها طول، وهذا جائز، لكن البعد الطولى ليس منفيا تماما بل هو ضيق متماوج ودائرى، إن صح وصف بعد طولى بهذا الوصف.
– وهو نص يلعب فى ملعب الزمن بخطة غير واضحة قصدا، ولكن دون أن ينجح فى التهديف بما يحقق النصر.
– وفيه محاولة لإحضار الجسد فى وعى القارئ بتنشيط فنى قادر، لكنها محاولة مهزوزة.
– وحضور الجنس فيه كان وافرا، حتى بدا مقحما فى مواقع كثيرة.
الحل الثانى:
نقد كريكاتيرى “كنظام عبده جبير” هذا نص كتبه كاتبه “واو” أو إبراهيم أو رضوان أو القارئ الناقد لكننا كتبناه جميعا مع أنه كلام صعب، بل كلام مستحيل، أو هو لا كلام،وفى القليل: أى كلام،. وأحيانا أحس أن هذا النص يمكن أن يوقف شعر رأس أو بتاع أى واحد قارئ ليثبت له أن خوفه من جسده وارد، أو أن عنته (الجنسية والفكرية) هى باختياره، ثم سرعان ما ينطفئ كل هذا بلا مبرر وهو على كل حال، فأضاف قليلا من الماء على البراندى، وهو ليس براندى ولا حاجة، وإنما هو خمر سام مثل منقوع الصرم، اللنبى، يا هتلر يابن المرة خليت الجاز بالكسكرة، فقال إن كل شئ يبدو من خلال رفعة فخذيها، ياحبذا تلك الشعيرات التى تبدو تحت الإبط ولونها غير لون الشعر الظاهر مما يفتح ملف الأصالة والمعاصرة، لماذا؟ أنت مالك يا بايخ، كل ذلك رغم أنها تلبس فستانا بكم، إلا أن القطع قرب سمانة الذراع يبدى ما لا يبديه الجابونيز وعلى ذلك فإن اختفاء الزمن مقصود، والضرب فى الحكومة باد تماما ولكن من منطلق غير ثورى، إلا إذا نسينا المعنى المتضمن فى فكرة الثورية التاريخية المجهضة مستقبليا، ، كل ده كان ليه لما شفت عنيه، تطل من خلف منشفة كانت ملوثة ببقيا النزيف المتقطع من البواسير التى كانت شديدة الإيلام، لكنه تحملها بغير جلد. ولولا هذا النزيف الحاد ومثله على المستوى التجريدى، لأنجبت الرواية ثلاثة توائم غير متشابهة، ولوظفنا هذا النص بوجه خاص وظيفة سياسية قح، (بفتح القاف) لام ميم نون هه واو لام ألف، ولا توجد ياء آخر، لأن النص مفتوح على مصراعيه، وبالذات مفتوح النهاية، وعلى القارئ أن يلمه إن كان شاطر (أو كما قال)
أما الحل الثالث: فقد خرج فى شكل رؤية نقدية انقلبت منى إلى رواية جاء فيها نقد ضمنى لقصص المسئول الكبير، فراح كاتب الرواية يتساءل:
هل هو أقل من هذا المسئول الكبير الذى ينشرون له هذه الأيام قصصا كتبها فى سن التاسعة عشر (هو الذى يقول) فى صحيفة واسعة الانتشار لها طبعة دولية، والتى ظلوا يلاحقونا بها كل هذه الأسابيع، واتسعت ابتسامته رغم الملاحقة حتى كاد يضحك، ونظر حوله خوفا من أن يكون قد ضحك فعلا بصوت عال، ولكن ما الذى أضحكه، أقول لكم:
فقد حاول أن يلخص ثلاث قصص من قصص أوراق هذا المسئول الكبير، مع أنه لم يستطع أن يقرأ إلا قصتين بالعافية،.، ومع ذلك فقد صرح مصدر مسئول (حلوة ذى) أن الصحيفة سوف تجمع هذه القصص فى كتاب يصدر قريبا، أى والله .
أما القصة الأولى فهى أن “واحد أحب واحدة، ثم تقدم لأهلها ليتزوجها، فلم يرضوا به، فزعل” آنتهت القصة الأولى.
أما القصة الثانية فهى أن الواحدة هذه المرة هى التى أحبت الواحد، ولم تتزوجه أيضا فزعلت جدا جدا جدا”انتهت القصة الثانية
وابتسم ابتسامة أخرى غير الابتسامة الأولى التى ظر عليه فيها الضحك، ذلك أن الابتسامة الثانية كانت مثل ابتسامة النقاد الذين يريدون أن يجاملوا بعض الأصدقاء، ولا مانع، لأن المجاملة هذه من أساسيات التليين ..، حسب كلام د. حسن وجيه، ومن باب التليين الاجتماعى والنقد معا: ترجم ابتسامته النقديه الثانية إلى ما يلى:
إن القصة الأولى ليست تكرارا بحال (شفت بحال دي) للقصة الثانية، صحيح أن تبادل الأدوار لم يفرق كثيرا حيث توحدت النهاية (خل بالك من توحدت)، ذلك لأن الواحدة التى أحبت الواحد فى القصة الثانية لم تتزوج هذا الواحد لأن أهله رفضوا (مقابل رفض أهل الواحدة التى فى القصة الأولي) ولا لأن أهلها هى هم الذين رفضوا، ولكنها لم تتزوجه لأنه – ببساطة- لم يتقدم لأهلها أصلا، ولم يكن من المعقول فى تلك الأيام (أيام أن كان المسئول الكبير عنده 19 سنة) أن تتقدم هى لخطبته، وهذا هو سبب عدم الزواج، ثم لاحظ - سيدى- أن الواحد فى القصة الأولى زعل فقط، أما فى القصة الثانية فالواحدة زعلت جدا جدا جدا(ثلاث مرات لا مرتين ولا واحدة ولا بدون، مثل البدون بتوع الكويت)، وهذه إضافة نوعية، لأن المسألة ليست مسألة “كم” فقط، وإن كانت لفظ “جدا” تفيد الكم، ولكن المؤلف أراد أن يريك كيف ينقلب الكم كيفا دون تغيير فى البنية الأساسية (أى والله) ، ثم إنه، من منطلق التعمق فى اللمحات الفنية غير المقصودة علنا، ترك لخيال القارئ الفرصة لاستنتاج كل ذلك، يا نهارا أسودا من أوله، لقد وعد بتلخيص (ونقد بالمرة) ثلاث قصص، ولم يقدم إلا قصتين، ماذا سيقول عليه القارئ، نضب معينه؟ أو رفع قلمه، أو ربط والعياذ بالله مثلما يربط العريس فى ليلة الدخلة فى بلدنا، لا لا هذا لا يصح، خذ عندك (تذكر أنه لم يقرأ إلا قصتين، طيب شوف الثالثة، عظمة يا ست وردة الله).
تقول القصة الثالثة (فى الأغلب)، وضع يده على فمه يخفى ابتسامة ثالثة من النوع الأول وليست من نوع ابتسامات النقاد، ثم أردف: أما القصة الثالثة فتقول: إن واحدا لم يحب واحده، وكان يتمنى أن يحبها، لكنها تزوجت غيره، مع أنها أيضا لم تحبه أصلا(لم تحب الواحد وليس زوجها)، وخلاص.
وقبل أن ترتفع الضحكة وتبقى فضيحة، وماسح الأحذية لا ييأس من تكرار المحاولة، وربنا يستر، أحل ابتسامة الناقد محل ابتسامة الحاقد (هذه الكلمة – الحقد- وردت من قبيل الاحتياط، من يدرى ماذا يحمل اللاشعور من بلاوى، وخاصة أننا لم ندخل بعد فى منطقة تيار الوعى العميق الذى يمكن أن يكشف عن خفايا هذا الحقد وغيره من دناءات النفس البشرية، والعياذ بالله ..إلخ) يقول إنه أحل ابتسامة الناقد محل ابتسامة الحاقد، ولم يقل حلت ابتسامة كذا محل كيت، فانتبه، لأن “ثمة” فرق بين أحل، وحلت، ثم إنه راح ينقد وينقد:
إن هذه القصة (الثالثة) أكثر تعقيدا من سابقتيها، وهى أكبر من قدرات المسئول الكبير فى سن 19 سنة لأنها تثير فى المتلقى قدرا من الدهشة وإعمال (الهمزة تحت الألف) الفكر، وهذا مما لايتناسب مع ما يتميز به قلم الكاتب الشاب الموهوب من بساطة ومباشرة، هذه القصة الثالثة لا بد أنها تنتمى إلى البدعة التى يسمونها الحداثة، ولعلها ليست بدعة لكننا نحن الذين لا نفهمها وبالتالى لا نقدرها حق قدرها (!! ماشى؟)، ألم تلاحظ المؤلف وهو يستعمل تعبير “وكان يتمنى أن يحبها” والتمنى هنا غير الترجى لأنه -عادة وليس دائما- يطلق على ما يستحيل تحقيقه، لأنه يبدو أنه لا يستطيع أن يحب من أصله، وهذا تكنيك حديث لا يخرج من شاب عنده 19 سنة فى ذلك العهد البعيد الذى لم يعرف مثل هذه التقنيات (!!) فالحداثة – سيدى – لا تتطلب فقط أن تجعل المألوف معروفا، وإنما هى تستدعى أن تجعل المعروف مسفوحا (حلوة مسفوحا هذه، ألعاب لغة) – وسعل سعلة عالية لتخفى ضحكة كان يمكن أن تخرج هذه المرة بصورة صريحة تفضحه بحق.
المحاولة الثالثة: قراءتان لـ أيام الإنسان السبعة عبد الحكيم قاسم
الأولى: بصفتى قارئا عاديا عاديا
والثانية حين حلت خبرتى المهنية فى قراءتى الثانية هكذا فجأة.
أما عن القراءة الأولى فقد قلت فيها
.. ثم هى رواية مصرية مائة بالمائة لا تصلح إلا لمصر، وربما إلا لطنطا، وحين كنت صغيرا كانوا يسألوننا ” أنت منين يا (يقصدون يا واد، أى يا ولد) فأرد فرحا بالسجع “أنا من هورين مركز السنطة مديرية طنطا”، (وكانت مديرية وليس محافظة الغربية)، ثم وجدتنى بقدرة قادر منوفى على كبر، وحين يذكر السيد البدوى أستشعر ريحا شديدة الخصوصية، بل أحس بملمس قبلته ونحن نلف ملتصقين بها بظهورنا ونتسابق صغارا: من الذى يمسح ظهره أولا، وكنا نفرح ونحن نلف على زوايا أتباعه ومحبيه فى نفس المسجد، وفى كل زواية نمسح ظهورنا وكأننا ننزلق عليها لا نحتك بها (تذكرت هذا وأنا أشاهد أحفادى يستعملون الزلاقات البلاستيك الحديثة فى محطات البنزين الخوجاتى على الطريق الصحراوى وغيره)، بل إن التفاصيل التى جاءت فى الرواية كنت قد عاصرتها شخصيا، يوم الخبيز ولو أنه كان خبيزا عائليا وليس خبيزا للسيد، بل إن والدى كان يستعمل الجمل لنقل عفشنا صيفا وشتاء لأنه كان يستخسر أن يدفع أجره الثلاثة أشهر أثناء الصيف، وشارع السكة الجديدة، ومدرسة ملحق المعلمين، ومدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية، وسينما مصر.
قرأت هذه القصة فحضرتنى كل هذه الأرضية، فاستيقظت حواس طفولتى حتى شممت رائحة الخبز الطازج، وسمعت قرقشة الحمص، وعلقت بين أسنانى بقايا .. الحلاوة.
وقبلها كنت أسأل أستاذنا نجيب محفوظ عن من الذى كتب عن الريف المصرى، وبعد أن وافقنى على أن عبد الرحمن الشرقاوى كتب الأرض وهو يرسم فلاحا أيديولوجيا وليس فلاحنا نحن، وأن محمود بدوى لم يغص بالدرجة الكافية، أتفقنا أيضا على أن خيرى شلبى ويحيى الطاهر عبد الله ومستجاب فعلوها بدرجات مختلفة، ولم نذكر هذا الكاتب(عبد الحكيم قاسم)، وحين عثرت على قصته هذه بالصدفة (بفضل مكتبة الأسرة) انزعجت للظلم الذى ظلمناه به إذ نسيناه، هذا كاتب يعرف ماذا يكتب، ويكتب ما يحس، ويحس ما يغوص، ويحتوى ما يعى، ويقول كل ذلك بما هو حتى النخاع، لا يلهيه السطح عن العمق ولا ينسيه العمق سلاسة السطح حتى لا تستطيع أن نميز عمقا من سطح، بل إنك لا تستطيع أن تميز خارجا من داخل .
وهو كاتب، أو وهى قصة تحضر فى وعيك لا تمر أمام عينيك، ولا ترتفع إلى أعلى ذهنك، ثم تسمح لك أن ينتشر وعيها إلى ما تيسر من حسك ثم يلحق ذلك ذهنك إن كنت شاطرا، دون أن يعطلك لا عن وعيك بها ولا عن حسك معها.
القراءة الثانية:
ولكننى حين عدت أقرأها لإعدادها للندوة حلت بها وبى خبرتى المهنية فوجدت أن أهم من كل هذا الوصف الرائع ومن حضور صورة أخرى تتميز عن السيد أحمد عبد الجواد، ومن حضور اللغة والروائح، وجدت جملة فاثنين فثلاث تشير إلى محاولة جفية كانت تراود “عبد العزيز” لينفصل عن الكتلة الهلامية الرجراجة هذه الجملة تقول” يتواصلون بأسلاك كهربية هؤلاء وهو فى داخلهم قطعة عازلة” لو يمسك أباه من ذراعيه ويوقفه ويسأله”
ومن هذا المدخل رحت أصف العمل من جديد على اعتبار أنه يمثل ثلاثة مراحل:
المرحلة الأولى:
روعة الذوبان فى كتلة الناس، والقذارة، تلك الكتلة النابضة بالطيبة والود والابتسامات القصيرة
المرحلة الثانية:
محاولة التملص منها ليكون، فلا يكون
المرحلة الثالثة:
الموت عجزا وضمورا، للفرد العاجز والناس التناثر!! !!
وقبل ذلك أشير إلى ما لفت نظرى إلى ماهية الكتلة:
كتلة أصوات: (ص 69) ويدخل صوتها ضمن جوقة الضجيج والضحك والزياط
(ص 170) الكتلة الرجال
رجال الخدمة كلهم يتكلمون فى نفس واحد ويضحكون الكل متكلم ومستمع وضاحك فى نفس واحد.
(ص 171) كتلة حشرات
أرتال الرائحة النتنه من المرحاض
جموع الحشرات وقد بدأت تشرئب شواربها من الشقوق.
…(بعدها فورا)
أمم من غير عقل .. من غير تفكير..
كتلة الصوت: من أين يأتى الصوت لا يعرف صاحبه، عميق كأنه روح صنعت من حزنهم جميعا وتتكلم نيابة عنهم.
كتلة الناس (من جديد):نحن قليلون ويعرف بعضنا بعضا أو يحس بعضنا ببعض وحينما يتميز شبح القادم قليلا وتخلص حدوده من قبل الظلام فانت تعرف من القادم وهو يعرفك..
(ص154) الجسم الغريب بداية النقد
مرة أخرى: متواصلون بأسلاك كهربائية هؤلاء، وهو فى داخلهم قطعة عازلة، لو يمسك أباه من ذراعيه ويوقفه ويسأله.
وحين سئلت بعد ذلك أثناء المناقشة فى الندوة الثقافية لجمعيتنا الوهمية عن حل هذا الأشكال بين الاندماج والتفرد قلت إن الحل يكمن فى “رحلة الداخل والخارج” ، وقدرت أن هذه الكتلة البشرية هى بمثابة الرحم، وأنه لا حل هذه المرحلة الصعبة من تغور الإنسان فردا وجماعة لا بالحركة المنتظمة طول الوقت، بمعنى أن الإنسان لا يستطيع أن يذوب فى الكتلة الرحم كما لا يستطيع أن ينفصل عنها تماما.
هنا تصبح قراءة الشخص العادى نقدا متأثرا بخبرته المهنية بشكل أو بأخر.
وأخيرا
ما هو موقف الناقد الأكاديمى من هذا الناقد العادى؟
أظن أنه لا يوجد مجال للتنافس أصلا بين الاثنين بنفس القدر الذى لا يوجد تنافس بين المحكمين والقاضى فى القانون الأنجليزى، فالناقد غير المتخصص (بل والأكاديمى أيضا) لابد أن يعيش العمل، وأن يتغير من خلاله، وأن يخرج منه بما ينبغى، ثم يتعامل معه بأدواته الأكاديمية كما ينبغى، بما يشاء، لكنه يمكن أيضا بل أظن لزوما، أن يضع رؤى هذا القاريء العادى فى الاعتبار، وإما أن يترجمها إلى الخاصة، أو أنه قد يرى فيها ما يضيف الى رؤيته، أو غير ذلك.
ثم إن هناك مهام لا يقدر عليها القاريء الناقد إلا قليلا مثل نقد ما يسمى الحداثة، ونقد الشعر، وأضيف: ونقد النقد، وأظن ما طرحته على نفسى من أسئلة وأنا أقرأ فى الحداثة أو الكتابة عبر النوعية أو الحساسية الجديدة هو واجب الناقد المتخصص أن يفرق لنا بين نوعين من التناثر.
(1) التناثر العشوائى بلا رجعة (وهو ما يمثله الجنون الفصامى خاصة) ،
(2) التناثر المرحلى إلى تضفروهو الإبداع
هذا وذاك غير التناثر الرائف أو المصطنع
أما كيف يكون التناثر مصنوعا، فقد استعرت قياسا من هو شبه جنون يعرف عندنا بمتلازمة جانسر، حيث المريض يجيب إجابات تقريبية غير صحيحة متعمدة ولكن على مستوى لا شعورى، مثل أن نقول له 2X 2 يساوى كم ؟ فيقول يساوى خمسة، وفى نفس الوقت فإن علم الشواش يقول إن 2X 2 فعلا لا تساوى أربعة وإنما تساوى 4 وبجواها شيء آخر له قوانينه، وغائيته وانضباطاته، ونفس الحكاية فى الإبداع: فإن ثمة إبداع يبدو كالشواش، ولكن له قوانينه الداخلية والخارجية، وتوجهه الغائى وتمحوره على عدة محاور لكن تضمها كلية جشتالتية مناسبة، غائية تتسق باضطراد فى كلية العمل وعلى النقيض من ذلك هناك الإبداع الذى يتصنع الشواش، فلا يربطه قانون واحد، بل عدة قوانين متداخلة، متناثرة، ومهمة الناقد هو أن يفرز هذا من ذاك.
وبما أننى لست ناقدا متخصصا فلن أستطيع أن أحدد ما هى الأدوات التى يمكن أن يستعملها الناقد فى مهمته الصعبة تلك، وبدون أن يقوم النقاد بفرز الغث من الثمين فسوف يظل الأمر شديد الغموض ضار الأثر.
لكننى فى مهنتى أعرف كيف أميز التناثر الجنونى الزائف من التناثر الانشقاقى أو ما يسمونه الهستيرى المصنوع (لا شعوريا أيضا)، والأداة التى أصل بها إلى ذلك هى الخبرة الإكلينيكية أساسا، وليست بالضرورة الفحوصات المعملية النفسية أو غيرالنفسية.
ثم طرحت على نفسى أسئلة لم أستطع الإجابة عليها وإن كان طرحها فى ذاتها كان موقفا له دلالته، وتصورت إن الإجابة عليها هى مهمة الناقد الأكاديمى المتخصص، وإن اجتهدت فى طرح إحتمالات إجابة كالتالى:
1- ما هى درجة التناثر التى نواجهها فى هذا النص، وكيف نقيس مدى قصديتها أو عفويتها أو تصنعها؟
- درجة التناثر شديدة، أو أكثر من متوسطة، أغلبها تلقائى محكم، وقليل منها مصطنع، ونادرا ما تبدو غائية تسعى إلى مجهول، لم يتضح ولو قليلا حتى بعد النهاية
2-إلى أى مدى يتفق اثنان فى تلقى هذا النص؟
- إلى مدى شديد التواضع، والذين سوف يتفقون قد يتفقون فى هوامش التناول، أو معادلة الحل ولكننى أشك أنهم قد يتفقون فى نتيجة المعادلة، لا بمعنى إعطاء إجابة محددة لمعنى مراد، وإنما فى التواجد معا فى مساحة جشتالتية متماسكة.
3- من يخاطب هذا النص، (هنا والآن)؟
لا يمكن أن يكتب الكاتب عملا موجها للنقاد فحسب، وإنما يكتب العمل للناس، ولناس محددين،
ولكن ثمة أعمال نادرة تكتب لذاتها، أو لكاتبها أو لمتلق لم يأت بعد(للتاريخ)، وهذا وارد وجيد، ولا يقلل من أصالة عمل ما أن جمهوره قليل، فأين يقع هذا العمل من ذلك؟
لا أحسب أن هذا الكاتب، بغزارة إنتاجه وصبره، كان يكتب لنفسه، أو للتاريخ، إذن فإنه يسعى إلى جمهور ما، فمن هو هذا الجمهور، أعتقد أنه خاصة النقاد، وأنا لست منهم، رغم سعادتى بهذه الفرصة
4- ماذا يخدم هذا النص، من؟.. وكيف ؟
المفروض أن الإبداع لا يخدم أحدا خصيصا، ولا يخدم شيئا بذاته، ولا حتى قيمة، لكن بصفاته الإيجابية المنظمة والخلاقة هو يخدم الحياة فى نهاية النهاية، أى يخدم الجمال والنماء، بما يحمل من قدرة على الجمع بعد التشتيت، أو على الأقل، بقدرته على الإشارة إلى توجه ضام على مستوى آخر (أعلى عادة).
- وأظن أن هذا النص لم يبلغنى منه ما هو كذلك تماما، وإن كنت أقر وأعترف بجدية المحاولة إلى أقصى درجة.
5- هل يمكن أن يضر النص صاحبه أو متلقيه: بمعنى أن يكون ناتجه فى النهاية هو بالسلب من حيث خدمة قيم الحياة والإبداع والتطور، بل وتحقيق الذات – ذات المبدع المنشئ والمتلقى معا نعم، فقد يوهم كاتبه بغير حقيقة ما يفعل وقد يعيق قدراته الأجمل و الأعمق وقد يبعده عن أهم مصدر للتغذيته المرتجعة.
6- إلى أى مدى يناسبنا هذا النص الآن؟
أظن إلى مدى قليل جدا رغم أنه قد يناسب غيرنا كثيرا
7- هل يمكن ترجمة هذا النص إلى لغة أخرى؟ ليوصل نفس الرسالة أو قريبا منها ؟
لا أظن، ليس فقط بسبب نوع التناثر، وإنما أيضا بسبب استعمال العامية والشعر والتناص بدرجة لا يمكن أن يستوعبها إلا هذا الخلط من لغاتنا العامة والخاصة على مختلف المستويات على أن العجز عن نقل نص ما إلى لغة أخرى قد لا يعيب النص، ولكنه قد يضيق من فائدته. اللهم إلا إذا أعيد إبداعه
وهذه مخاطرة رائعة غير محسوبة نتائجها.
8- هل يمكن أن نقتطع بعض الأجزاء انتقائيا أو عشوائيا ثم نضعها فى أى مكان آخر؟
نعم، هذا وارد (على الأقل هذا ما رجحته).
9- هل يمكن اقتطاع جزء بأكمله دون أن يختل بناء النص؟
نعم، هذا وارد (على الأقل هذا ما رجحته).
وبعـد
لعلى، وبحضورى الشخصى المفرط فى هذه المحاضرة، قد عريت نفسى بقدر يجعلنى، أطمع فى سماحكم لو كنت قد شطحت هنا أو هناك بأكثر مما ينبغى .
ولكم الشكر دائما.