نشرت فى الاهرام
24-1-2005
الفضائيات وامتهان المرأة واختزالها
كنت قد صرّحت مرارا كيف نجحت لأكثر من عامين أو أكثر أن أحمى وعيى من التزييف، وحسى من التبلد، بالتوقف عن مشاهدة التلفاز أصلا، لكنّ صديقى الشاب العفريت عرض أن يقحم على كمبيوترى كارت تلفاز قادر على أن يستجلب لى أية فضائية فى زاوية من شاشة الكمبيوتر، قبلت بعد تردد، ودون خشية التشتت، فقد دربت انتباهى على مثل ذلك.
فوجئت مفاجأة عم إمام وزوجته حميدة حين حضرا إلى القاهرة فى الأربعينات ليشهدا الترام لأول مرة، ناهيك عن تغير ألوان إشارات المرور، جلسا منبهرين على الرصيف يرقبان، ويتابعان الألوان المضيئة، ويتبادلان الدهشة والفرحة فى آن:(“حمرة يا حميدة، صفرا يا إمام” أهى حاتخضر يا حميدة لا دى حاتحمرّ يا إمام …إلخ). وجدت نفسى أتابع الفضائيات التى ظهرت فى أعوام انسحابى بنفس الطريقة (مزيكا يا يحيى، لا دى “ميزيك بلاس” يا خويا، روتانا يا يحيى، لا دى ميلودى يا سيّد ..!!) لم تكن هذه مفاجأة عودتى إلى التجوال فى الفضاء الهائص زيفا هكذا، ولا كانت الندوات الكلامية تحصيل الحاصل، ولا كانت تزييف التاريخ بعضلات الذكريات الضامرة لشيوخ سياسيين لم يعد لهم دور إلا التباهى بتصوراتهم عن أنفسهم، ولا فى الاضطرار لسماع جمهرة من الأجساد، وهى تتلوى غناء، وتصدح تنطيطا. الذى أفزعنى أكثر كانت صورة “مجموعات الحريم” فى خلفية كثير من أغنيات وبرامج الفضائيات الخليجية خاصة، وهى تتثنى اهتياجا، وتتقصع نداء، وتغمز استضعافا، وتنادى إسرارا. لم يكن انزعاجى من منطلق أخلاقى (تقليدى)، ولا حتى من منطلق دينى (تحريمى)، فلعل فتوى خليجية أوغير خليجية تقول إن هذه ليست أجسادا حقيقية، فلا بأس من كذا وكيت ..إلخ، انزعجت أن يصل إلى وعى نشئنا خاصة أن هذه هى “المرأة”، لا أكثر ولا أقل،!! أى تشويه وأى امتهان!!!!
من قديم، ومن منطلق انتمائى إلى فكر التطور، وأنا أرى أن المرأة هى الأصل، هى الحياة، وأن الرجل – خاصة بوضعه الراهن- قد يكون أو يصبح اختيارا تكميليا، لا ضرورة تطورية، ثم إنى سبق أن أشرت إلى ذلك فى فرض حتمية التكامل بين الذكر والأنثى داخل وخارج الجنسين، وإن اختلف المسار.، (المجلة الاجتماعية القومية سبتمبر 1975) نبّهت فى ذلك الفرض أنه يبدو أن الرجل، حين ألغى الأنثى المبدعة فى داخله قد توقف نموه التطورى عند مستوى الذكورة المستقطبة، ليتمادى فى قهر المرأة خارجه وكأنه يتنكر لأنوثته الكامنة التى لا تكتمل إنسانيته إلا بها.
فيتمادى القهر الذكورى (من النساء والرجال) إلى إشعال الحروب واكتساح الأسواق وإذلال الأضعف. ترتب على ذلك أن أعيق تطور المرأة ضمن المستضعفين، وبدلا من أن تنتبه إلى خيبة هذا الذكر الغبى ونقصه، راحت تطالب بالمساواة به وهو أبعد ما يكون عن إبداعه ذاته نماء وتطورا، أو إطلاق إبداعه تشكيلا.
ثم بعد نصف قرن من الممارسة والمعايشة لاختبار هذا الفرض، رجَحَتْ عندى صحته أكثر. نعم: مازالت فرص المرأة أكبر لاستكمال مسار تطورها إنسانيا، إذا ما رفعنا عنها القهر، وتأكد لها العدل الحقيقى فى مجالات النمو والحركة والأمان، وإذا توقفت بدورها عن تضييع وقتها فى أوهام المساواة الزائفة. ثم بعد ذلك قد يلحقها الرجل أو لا يلحقها، ثم رجح الفرض أكثر وأنا أقرأ كتاب “الوجه الأنثوى للعلم” (سبقت الإشارة إليه هنا).
أفقت من كل ذلك لألتفت إلى زاوية الكمبيوتر، والفضائيات إياها تطل علىّ تختزل المرأة إلى جسد يتلوى وقميص نوم يتطاير، أمام مخنث أخنف، يستغيث بموسيقى نشاز، تأبى أن تسعفه. لماذا؟ إلى أين؟ إلى متى؟.