نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 30-6-2014
السنة السابعة
العدد: 2495
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية
الفصل الرابع: اضطرابات الوظائف المعرفية الأخرى (12)
اضطرابات اللغة وبعض اضطرابات الوعى
فى مقدمة هذا الفصل، أشرنا إلى اضطرابات اللغة الناتجة من الخلل العصبى التشريحى، والتى تظهر فى اضطرابات الكلام، مثل الحبسة، بأنواعها، وفيما عدا الحبسة الرطانية (التى قد يعزى بعضها إلى خلل عصبى تشريحى أيضا)، لم تكن هناك علاقة بما قدمناه أمس عن طبيعة اللغة وغموضها وتداخلها مع الوعى والإدراك والوجدان، وأحسب أنه كان لزاما علىّ أن أنوه أمس أننى إنما أتناول موضوع اللغة بعيدا عن الاضطرابات العضوية التشريحية هذه.
حين نعود الآن لنتساءل: هل يمكن رصد أو تشخيص أو وصف اضطرابات اللغة منفصلة عن اضطرابات التفكير، والكلام، والإشارة؟ تأتى الإجابة بالنفى، إذْ كيف بالله عليكم وقد وصلنا أمس إلى أن اللغة هى فى جوهرها أصل تركيبي بيولوجي كيانى متداخل طول الوقت مع الوعى بوجه خاص، ومع غيره، وأن كل ما يمكن دراسته هو تجلياتها ومظاهرها فى تشكيلات سلوكية متنوعة مثل الكلام والتفكير والتواصل السلوكى الظاهر، وبالتالى علينا أن نسلم بصعوبة رصد اضطرابات منفصلة لها، ثم إنى أعتقد أننا سنواجه نفس المأزق حين ننتقل إلى التعرف على “الوعى”، كما أننا واجهنا نفس المأزق ونحن نتناول عمق وظيفة “الإدراك”، أما “الوجدان” فهو يمثل التحدى الذى سوف يواجهنا بنفس العمق أيضا، سواء ونحن نحاول أن نتعرف على مراحل نموه وخفايا تأثيره على القدرات المعرفية، أو ونحن نحترم مشاركته فى العمليات المعرفية باعتباره “عقلا آخرا” قادرا على التعامل مع المعلومات بطريقته.
إن اضطراب اللغة فى المرض النفسى إنما يتجلى فى كل مما يلى:
أولا: اضطراب الكلام
ثانيا: الاضطراب الجوهرى فى التفكير
ثالثا: خلل وإعاقة الإدراك
رابعا: شُوَاش (فوضى) الوجدان
خامسا: هلامية الوعى
وسوف أكتفى اليوم بهذه الإشارة على أن أعود إليها عند تقديم حالات فصامية أساسا، وربما مع فصل اضطرابات الوجدان، وكذا مع تناولنا لموضوع الوعى عامة.
عودة إلى علاقة الكلام باللغة
أنهينا نشرة أمس بالإشارة إلى علاقة الكلام باللغة ذهابا وجيئة..، ونضيف اليوم أنه بالرغم من أن اللغة هى الأصل، فإن التغذية الراجعة إليها باستعمال كلام منفصل عنها، أو مشوِّه لها لا بد أن توضع فى الاعتبار من حيث أنها علاقة متبادلة دائما أبد، وقد نبهت إلى ذلك بشكل خاص، وأنا أعرض لخطورة ألا نحسن الإنصات لمرضانا بلغتهم الاصلية (العامية أساسا) وأن ننتبه إلى أن نجنبهم استعمال لغة شبه علمية لوصف مشاعرهم السوية أو المرضية بأبجدية مستوردة من لغة غير لغتهم، ونذكر كيف أنهم تعودوا مؤخرا هم وأهاليهم أن يصفوا حزنهم بأنه “دِبْرِشـَنْ”، أو يصفوا الهلع الذى يعانون منه بأنه panic، “بانِيك”، بدلا من أنه خوف أو رعب أو هلع، وهكذ ينفصلون بمثل ذلك عن ما حملته جيناتهم من تاريخ مشاعرهم المندمجة مع لغتهم المعبـِّرة عن وجودهم.
وقد امتد تخوفى إلى التحذير من المبالغة فى أهمية الترجمة واعتبارها المصدر الأساسى لمعرفة مرضانا، بل وثقافتنا، وكتبت فى ذلك أطروحة كاملة عن “مخاطر الترجمة” فى تشكيل الوعى القومى واغترابه، كما حذرت فى نفس الأطروحة وفي غيرها من أن الكلمات المترجمة اعتمادا على المعاجم أساسا قد تفصل الكلام عن اللغة (وعن الوجدان والإدراك) من ناحية، فتدعم المزيد من الاغتراب، فإذا تمادى هذا الأمر وأصبح هو القاعدة فإنها قد تزرع فينا لغة أخرى غير التى ولدنا بها، ومرِضْنَا بها، والمفروض أن نُشْفَى بها.
هل تمرض اللغة ذاتها بما يؤثر على الوعى
فى نوبة حماسى وأنا أكتب عن اللغة العربية وتشكيل الوعى القومى، خطر لى أن لغتنا نفسها أصبحت مريضة، وأننى يمكن أن أصنف عددا من الأمراض التى لحقتها، فكتبت فى أطروحتى عن “اللغة العربية وتشكيل الوعى القومى” ما يلى:
“إن ما لحق اللغة العربية بسبب ما آل حالنا إليه: من تحلل وتدهور وتناثر وفقد الغائية وعجز القدرة الضامة المضفِّرة (ناهيك عن ضعف توظيف ناتجها فى التواصل وغيره) كل هذا هو النتاج الطبيعى لـ”تخثر الوعي” القومى (والوعى الوطني- من قبل ومن بعد) كما أن تدهور اللغة (اللغات) قد عاد بدوره على الوعى القومى بمزيد من التدهور، فنشأت حلقة مفرغة دوامة، وهكذا رحت أتأمل ما آل إليه حال لغتنا، فإذا بى أتصور انها يمكن أن تمرض هى شخصيا، لكننى لم أستطع أن أفصل بين أمراضها وأمراض الوعى، وفيما يلى مقتطف لما حضرنى من أمراض اللغة المحتملة:
1- جمود اللغة: حين تصبح قوالب للملء بالكلام، وليست تخليقا مرنا متجددا يتجلى منه الكلام
2- تَرَهُّل اللغة: حين تصبح متضخمة ورخوة فى آن، فلا تعود قادرة على التشكيل والتشكـُّل بما يمكنها من صقل وحدات أبجديتها الجامعة المانعة.
3- تذبذب اللغة: حين تتراقص قبل وصول الغاية، فتفقد توجهها الغائى رغم سلامة البدايات.
4- غموض اللغة: وهذا يمكن أن يتم بنقص التحديد، أو بفرط التداخل، أو بكليهما (وهو أقرب إلى التفكير العهنى، والتفكير المماس) أنظر نشرة 3/3/2014 “أعراض الاضطراب الجوهرى للتفكير (ضجف)”.
5- تصادم اللغات: حين تعوق قناة لغوية بذاتها، مسار وحركية وتشكيل قناة أخرى نشطة فى نفس الوقت (مثال: تصادم القناة اللفظية، مع قناة التعبير الحركى مع قناة التواصل الإدراكى الوجدانى غير اللفظى وغير الحركي).
6- تناقض اللغة: حين تحمل رسائل مضادة أو ما يسمى العلاقة “مزودجة الوثاق”
7- إجهاض اللغة: حين تحسن البدايات لكنها تفتقر إلى حركيتها الغائية، وتفقد استمراريتها حتى تحقق الهدف من حضورها.
8- تناثر اللغة: وهذا ما أشرنا إليه فى البداية عندما ذكرنا ما هو “ضد اللغة” (الفصام) وكل ما يتعلق بالاضطراب الجوهرى للتفكير.
هذا، ويترتب على أمراض اللغة هذه أن يتشكل الوعى بصورة عاجزة ومعوقة أيضا ومن ذلك ما يمكن تسميته:
“بعض أمراض الوعى”:
1- هلامية الوعى: وأعنى بها وعيا رجراجا، خافتا غامضا، يتعامل مع اللغة وإشاراتها بقوانين مهزوزة، ومتغيرة بلا قاعدة
2- تداخل دوائر الوعى: وأعنى به ما يمكن أن يقابل فقد حدود الذات فى مجال الإرادة، وكذلك ما يقابل فرط التداخل والتضمين فى مجال الفكر، أى أن مستويات الوعى التى من المفروض أن تكون متميزة ومحددة تصبح مختلطة لدرجة تقابل ما يسمى ”التلوث”، أى اختلاط مادة وتركيب مستوى معين من الوعى، بمادة وتركيب مستوى آخر، بغير توليف أو تكامل أو انتماء إلى فكرة محورية ضامة لهما معا.
3- انغلاق الوعى: وهو انغلاق دوائر الوعى الملتحمة باللغة بحيث إن المعلومات التى تصل إليه، واللغات التى تحاول أن تحاوره، تدور حوله أكثر من أنها تعيد تشكيله.
4- زيف حركية الوعى (بالتسوياتية الصفرية): وأعنى بذلك أن الوعى يتشكل بما يحافظ على ثباته فجموده الفعلى، وهنا تكون حركته نشاطا زائفا محكوما عليه بأن يظل فى النهاية كما هو بما هو، لأن كل ما يضاف إليه، ليعيد صياغته، يعامـل من خلال المعلومات الحاضرة القادرة على تمييع الموقف حتى تسكينه.