نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 29-6-2014
السنة السابعة
العدد: 2494
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية
الفصل الرابع: اضطرابات الوظائف المعرفية الأخرى (11)
عن اللغة (1)
حركية اللغة وتشكيلات الوعى
مقدمة:
منذ بدأنا هذا الفصل ونحن نتحرك بصعوبة فى محاولة فصل هذه الوظائف عن بعضها البعض، بل وعن وظائف أخرى لا توصف عادة بأنها “معرفية، وكان العنوان – وما زال – هو اضطرابات الوظائف المعرفية بدءا بـ: اللغة، (والكلام، والذاكرة، والذكاء)، فنلاحظ أن أول كلمة هى اللغة، ومع ذلك تركناها حتى النهاية، بصراحة دون قصد، والآن أتبين لماذا فرض هذا الترتيب نفسه علىّ.
أولا: نحن لا نفحص اللغة نفسها فى الممارسة، وإنما نفحص تجلياتها ومظاهرها فى الكلام وغيره
ثانيا: اللغة ليست وظيفة أصلا حتى تُدرج مع الوظائف، بل هى كيان وجودىّ بيولوجىّ حركىّ نابض فى دورات ومساحات متغيرة بدرجات مختلفة
ثالثا: اللغة ليست وظيفة معرفية مستقلة تضاف إلى الوظائف الأخرى، بل هى أقرب إلى الحضور التركيبى، أو الوجود التشكيلى المرن بشكل عام محتوٍ
رابعا: علاقة اللغة بتجلياتها، أو بنتاج حركيتها، مثل الكلام والتفكير هى علاقة وثيقة جدا، وفى نفس الوقت هى صعبة التحديد، لكنها فى جميع الأحوال ليست مرادفة، ولا ينبغى أن تكون مرادفة، لأى من مظاهر تجلياتها
خامسا: اللغة تعتبر إحدى تجليات الوعى، الذى ما زال شديد الغموض صعب التناول كما كررنا مرارا.
سادسا: اللغة مرتبطة أشد الارتباط بظاهرة “الإدراك” بكل أبعاده، وقد رأينا مدى اتساع محيطه، ومدى أهميته وأصالته وصعوبة دراسته فى آن.
سابعا: اللغة ظاهرة ممتزجة بالوجدان متداخلة معه، وحديثا أصبح للوجدان دور فى اعتمال المعلومات بما قرّبه أكثر من حركية اللغة وتجلياتها
ثامنا: سبق لى أن تناولت ظاهرة اللغة فى عديد من هذه النشرات وعدد أقل من أطروحات مستقلة، وحين عدت إليها الآن وجدت أنها كلها شديدة الأهمية فى الممارسة الطبنفسية ونحن فى سبيلنا للتعرف على الظاهرة البشرية، التى تبدأ بقراءة النص البشرى، ومن ثم نقده (نقد النص البشرى=العلاج)، فلو بدأت بها فقد لا أنتهى منها
وبعد
لكل ذلك عزمت أن أقتطف بعض ما يبين موقع اللغة من فكرى، ومن ثـَمَّ من ممارستى، وقد أؤجل تناول اضطراباتها لحين أتناولها مع أهم ما تختل معها منظومتها، وهو مرض الفصام، لكننى سوف أقدم اليوم وربما غداً بعض ما تيسر من مقتطفات، كمقدمة، ثم نرى.
(وعلى من يريد أن يرجع إلى النشرة أو الأطروحة الأصل أن يتبع الرابط مع كل مقتطف)
عناوين ومقتطفات :
أولا : دور اللغة فى تشكيل الوعى العام
ندوة: (شرائح PP)
(1) افتراضات أساسية:
- اللغة ليست قاصرة على الرموز المنطوقة أو المكتوبة
- للّغة قنوات متعددة وحضور كثيف فى الوعى البشرى
- هى نسيج الوعى البشرى تخليقا وتواصلا
- اللغة ليست هى ما يقبع ساكنا فى المعاجم
- وحركيتها لا تأتى عادة من المعاجم (معاجم اللغة)
- اللغة يبتدعها ناسها، وهى تشكلهم .
* اللغة ليست إضافة لاحقة بظاهر الوجود البشري، بل هى الوجود البشرى فى أرقى مراتب تعقده على قمة هرم التطور.
* وهى كيان غائر فى التركيب البيولوجى للمخ الذى هو أيضا مسمَع الجسد وممثله.
* والمخ ليس قائد الجسد أو ضابط إيقاعه، بل هو شريك معرفى مع الجسد (ومع ما حوله).
* واللغة هى الوعى القادر على التخلّق المستمر، مع، وفى مواجهة وعى آخر حقيقى (العلاقة بالآخر).
* وهى دائمة الحركية تشكيلا وإيقاعا.
* تتوقف حركية اللغة على مدى قابليتها:للتجديد، والاحتواء، والمرونة، والتجاوز.
(2) العوامل المشكلة لجماع اللغة والوعى والثقافة
(أكتفى بعرض هذا الشكل من الندوة)
(3) أسباب التدهور الذى قد يلحق باللغة القائمة عموما:
- عجز الأبجدية القديمة (القائمة) عن استيعاب الحاجات الحاضرة.
- تزايد الاغتراب السلبى بما يترتب عليه انفصال الشكل عن الموضوع.
- تفكك (تشرذم) المجتمع بتمادى تعدد الطبقات وبُعدها عن بعضها البعض، وتنوع طرق التربية وأنواع المدارس (حتى التضاض) وفيضان مصادر الإعلام المتنافرة …. إلخ .
- اختفاء الوحدة الضامة للاختلافات القائمة ( غياب الفكرة المحورية، من أول غياب المشروع القومى حتى عدم محورية فكر التوحيد (لا إله إلا الله)، مرورا بانعدام الحوار الحقيقى، وتخثر الوعى العام نتيجة لضحالة التواصل الإبداعى).
ثانيا : من أطروحة
اللغة العربية وتشكيل الوعى القومى
1- استهلال:
ضع شعباً فى السلاسل
جردهم من ملابسهم
سـد أفواههم، لكنهم مازالو أحراراً
خذَ منهم أعمالهم، وجوازات سفرهم
والموائد التى يأكلون عليها
والأسِرّة التى ينامون عليها
لكنهم مازالو أغنياء
إن الشعب يفتقر ويُـستعبد
عندما يُـسلب اللسان الذى تركه له الأجداد;
يضيع إذاً للأبد:
إجنازيو بوتيتا
الشاعر الصقلى، ولد عام 1899
من قصيدة لغة وحوار(1)
إن الترصد المنظم للغة العربية ليتخذ شكل الحرب الصامته الناسفة …..
ولهذا الترصد أسبابه الموضوعية (حيث أن المترصدون يعلمون:) إن التماهى بين الهوية واللغة لم يبلغ تمامه الأقصى فى الثقافات الإنسانية كما بلغه عند العرب بكل اطراد تاريخى وبكل تواتر فكرى واجتماعى ونفسي…..
الناقد المفكر التونسى: عبد السلام المسدى (2)
” …………. ولن يبقى من اللغات البشريه إلا أربع قادرة على الحضور العالمى، وعلى التداول الإنسانى، وهى الإنجليزية والإسبانية والعربية والصينية….”
الكاتب الأسبانى كاميلو جوزى سيلا(2)
2- موقع صاحب الرؤية والاعتبارات الأساسية:
إن منطلقى إلى هذه المداخلة هو من واقع ممارستى الإكلينيكية على أرضية بيولوجية (بالمعنى الأشمل لكلمة بيولوجي)، وحين أتذكر كلمة تشومسكى من أن “مدخل” الحل فى مسألة اللغة هو البيولوجى” أشعر أن لإسهامى المتواضع هذا مكانه المناسب.
المفروض أننى أنتمى إلى تخصص بيولوجى أساسا، وأنى أمارس واقعا إكلينيكيا يسمح لى بما يسمى أخيرا “ألعاب اللغة”، مع متحاورين يتكلمون لغات خاصة، بل يتناثرون إلى ما هو “ضد اللغة” (أهم معالم الفصام)، فأنا أتعرف على اللغة من ضدها (وبضدها تتميز الأشياء).
أولاً: …. أهم مناطق النفى لتقرير ما ينبغى إثباته:
اللغة ليست إضافة لاحقة لظاهر الوجود الفردى أوالجماعي.
وهى ليست أداة للاستعمال الظاهرى.
وهى ليست كيانا مستقلا عن الوعى، ولا عن الوجود، ولا عن المخ، ولا عن الجسد.
وهى ليست الكلام .
وهى لم تعد مجرد تمرير جيّد التقنين وخالٍ من التشويش لنقل العلامات من يد ليد”
ثانياً: ماهية اللغة التى سوف أتحدث عنها؟
(1) هى: ذلك الكيان البيولوجى الراسخ/المرن/ المفتوح فى آن، القادر على تفعيل المعرفة فى الوعي.
(2) هى: الوجود البشرى نفسه فى أرقى مراتب تعقده وفاعليته.
(3) هى: التركيب الغائر لمصدر السلوك المحدد للشكل الظاهر.
(4) هى: الوعى الدائم التشكل والتشكيل بما يسمح باحتواء المعنى – إذ يكونه- وإطلاقه بما تيسر وتناسب من أدوات.
(5) هى: إبداع الذات المتجدد إذ يصاغ فى وجود قابل للتواصل.
(6) هى: تجلّى المعنى فى تركيب قادر على التماسك فى وحدات متصاعدة.
(7) هى: حركية المخ البشرى فى كليته البالغة التنظيم، البالغة المطاوعة فى آن.
(9) هى: “علاقة نزاعية بين متحايلين (ممارسة الحيل للتغلب على خصم تواصلى)”.
(10) هى: “تبادل غير مستقر لمن يهمهم الأمر الذين بوصفهم مشاركين فى خطاب علمى يختبرون مزاعم صلاحية معاييرهم”.
(11) هى: مشروع متجدد وليست خطابا محددا.
(12) هى: “خطاب” بما تحمله ألفاظها، وبما تشير إليه هذه الألفاظ مما لم تقله، أى أن اللغة هى ما سكتت عنه وما صرّحت به فى آن واحد، أى أنها هى بما تظهر وبما تخفى معا.
ولا بد من إيضاح أن أيا مما سبق ليس تعريفا جامعا مانعا، بقدر ما هو تعرّف على ماهية اللغة أساسا، وهو لازم لتوضيح هذه الخصائص الجذرية لحركية اللغة اللازمة لفهم الجزء الثانى من العنوان وهو “تشكيل الوعي”
ثالثاً: ماهية الوعى:
فإذا انتقلنا إلى محاولة التعرف على مفهوم “الوعي” باعتباره الشق الثانى فى العنوان فسوف نفاجأ أنه أحوج ما يكون – أيضا – إلى نفى ما ليس هو لإثبات بعض معالمه على نفس النهج، ونبدأ بالتذكرة كيف توارت حقيقة الوعى عن الدارسين والكافة “إما بالإنكار أو بالإهمال أو بالنفي- كما يقول الطبيب النفسى الفرنسى هنرى إى.
فالبعض أنكرالوعى تماما كمادة للدراسة والتقييم مثل السلوكيين.
والبعض نفخ فيه حتى أصبح هو كل شىء، فلم يعد شيئا.
والبعض نزع منه التحديد الذاتى حين جعله شبكة معقدة من التركيبات البينشخصية.
والبعض جعل الوعى -اختزالا- مرادفا للصحو مرة (ضد النوم) ومرادفا للشعور مرة أخرى (ضد اللاشعور)
إن حاجتنا شديدة لمواجهة كل ذلك لنتعرّف على الوعى كما ينبغى، ذلك الكيان البيولوجى الذى يتشكل بـ ومع اللغة
الوعى ليس مجرد أرضية منفصلة عن الشكل أو متبادلة (1) معه بقدر ما هو حاضر فى كل العمليات المعرفية والوجودية حضورا شاملا ومحددا فى آن، فالوعى: هو العملية الحيوية التى يتم من خلالها تشكيل منظومة عقلية فى تركيبها الكلى فى لحظة ما، فإذا استمر هذا التشكيل لفترة من الزمن أصبح يمثل مستوى منظوميا كليا خاصا يمكن استحضاره وتنشيطه وإعادة تشكيله ككل، (حسب التناسب مع الموقف، والمطلق، والمثير، والمصاحب..إلخ، مما يسمى أحيانا “حالات الذات” أو منظومات من مستويات المخ أو غير ذلك).
إذن، فاللغة عملية، وفى نفس الوقت هى منظومة وتشكيل متجدد
والوعى عملية، وفى نفس الوقت هو وساد ومنظومة ومستوى: يقول هنرى إى “…أن تكون واعيا هو أن تعيش تفرد خبرتك حالة كونها تتحول إلى حضورها المعرفى الشامل”
والعلاقة بين كل من الوعى واللغة هى علاقة وثيقة حتى لتوحى بالتماثل، وبالرغم من ذلك فهما ليسا واحدا، فرغم اتفاقهما فى أن كلا منهما (ا)عملية،(ب)تخليق وتشكيل (جـ)منظومة (د)ملتحمة بما تحتويه، فإن ثمة فروقا ضرورية لابد من التنبيه عليها مثل:
إن اللغة توليد ذو وحدات أوفر كثرة وأنشط تشكيلا وأحضر إبداعا وأقدر حوارا
فى حين أن الوعى هو أكثر منظومية، وأعمق رسوخا، وأطول زمنا، وأجهز تنسيقا.
فاللغة هى وحدة الوعى وفى نفس الوقت هى تشكيلاته المتداخلة القادرة على الإفصاح المعرفى دون إلزام ببلاغ محدد.
والوعى هو كلية اللغة حالة كونها منظومة مستقرة نسبيا.
ومن هنا فإن تشكيل الوعى يعتمد بالضرورة على ما تتصف به اللغة من قوة وضعف، وإحكام وترهل، وإبداع وتناثر.
وقبل أن نختتم هذا التقديم المبدئى، لا بد من توضيح أن اللغة ليست كيانا داخليا منفصلا كما يمكن أن يكون قد أثاره كل هذا التجذير لماهيتها، كذلك الوعى.
فعمليات اللغة وتشكيلات الوعى كلها مرتبطة بما تتغذى به من معلومات، وما تمارسه من إبداع تواصلى وحوار نزاعى.
رابعاً: ضد اللغة:
تعرفتُ على جوهر اللغة من معايشة ضدها لا من البحث فيها ابتداء، أو القراءة، عنها دراسة، وذلك من منطلق معايشتى للفصام وحوارى مع الفصاميين، وإليكم بعض ذلك:
إن ما يسمى الفصام، (وهو إسم شائع ومخيف فى آن)، هو مفتاح هذه المسألة
جوهر الفصام يشير إلى عملية: تعلن درجات مختلفة من التناثر كيفما اتفق، وأبلغ وصف له هو ما جاء فى شطر بيت شعر عربى “..ذو لب نثر” (هذريان هذر هذاءة موشك السقطة ذو لب نثر) وهذا اللب النثر هو باختصار شديد ما يمكن أن يفهم باعتباره “ضد اللغة” (أو عكس اللغة وربما اللا “لغة”)
الذى يحدث فى الفصام هو الافتقار إلى كل من: التوجه المحورى، فالغاية الضامة، ذلك أن الوحدة القادرة على التشكل الضام فى الأحوال العادية إنما تفعل ذلك من خلال التمحور حول فكرة مركزية هى هى الفكرة الغائية وهى التى يفتقدها الفصامى على المستوى المتاح للفحص على الأقل، ومن ثم يظهر التناثر.
وفى المقابل فإن العملية العلاجية الحقيقية إنما تهدف إلى إعادة التشكيل (لغة/ وجودا) بتجميع ما تناثر فى وحدات صغيرة، ثم أكبر فأكبر حتى يعود الشتات المتناثر إلى ما يمكن أن يطلق عليه “الواحدية” (ضد الفصام: لا التوحد ولا الوحدة الواحدة)، فالعملية الفصامية هى أقرب إلى ما وصفه جيبسون فى مقدمته لكتاب ليوتار “ما بعد الحداثة”…. تحلل الذات إلى حشد من الشبكات والعلاقات المتناقضة والرسائل المتداخلة..” أما العلاج فهو العمل على عكس هذه العملية بالتشكيل والجدل والتربيط والغائية ذلك تماما.
إن المتابع لهذه العمليات ذهابا وجيئه هو الذى يمكنه الإسهام فى إعادة التشكيل (نقد النص البشرى) ومن ثم التعرف أكثر على طبيعية اللغة والوعى.
خامساً: علاقة اللغة بالكلام:
….. إن الكلام وهو يؤدى بعض وظائفه للتواصل والاقتصاد، يعود فيؤثر ارتجاعا على الكيان اللغوى ذاته، أى على تنظيم وجودنا وفاعليته، لذلك: فإن ما يصيب الكلام من وهن أو تشويش، يفقده قدرته على الإثارة والحفز، أو يطمس دلالته ويجهض إيحاءاته، فيرتد كل ذلك مؤثرا على وجودنا/لغتنا، بما يمكن أن يهز معالم كياننا الحيوى الأساسى نفسه.
لكن الظاهرة الوجودية التى قد تصاغ فى “كلمات” هى ظاهرة أسبق وأشمل من التركيب اللفظى الذى يحاول احتواءها، ناهيك عن اللفظ الذى يحاول إعلانها، يترتب على ذلك أن يجد الإنسان نفسه فى مأزق حرج إذ يحاول عبور الهوة بين الظاهرة القبـْلية المتحررة نسبيا من التشكيل اللغوى، وبين احتوائها فيما يمكن التعبير عنه بالتنظيم الإشارى الدال عليها، وأرجح أن هذا المأزق إذا ما وصل إلى بعض وعى صاحبه بشكل أو بآخر، هو من أدق الخبرات البشرية، وأى استسهال فى محاولة عبوره، بالقفز فوقه تجاهلا، أو بطمس الوعى دفاعا، لابد وأن يترتب عنه إجهاض للمعرفة الأدق، ونكوص إلى اختزال خطر. وقد رجحت أن بعض محاولات تحديد مصطلحات علمية، أو تحديث المعاجم بصورة عصرية متخصصة، إنما يقع فى هذا المحظور.
وأحسب أنه بالنسبة للكائن البشرى، فإنه يصعب – بما هو بشر – أن نفترض أن ثمة مرحلة معرفية يمكن أن تعتبر أنها مرحلة “ما قبل اللغة”، ذلك أنه قد توجد مرحلة “ما قبل الكلام” أو مرحلة ما قبل اللغة الحالية القائمة الآن، لكن يبدو أنه يستحيل أن توجد ظاهرة بشرية أصلا ليست ملتحمة التحاما كافيا بلغتها، بمعنى تركيبها الحيوى الغائر.
لكن نمو اللغة يبدأ بحفز غامض لكنه متوجه، وطبيعة هذه الخبرات فى هذه المرحلة تحول دون إمكانية تناولها بالأدوات التعبيرية العادية، ناهيك عن الدراسة المنهجية ثم الخضوع للوصف الكلامى، وهذه البداية تعلن أن الظاهرة الوجودية اللغوية هى الأصل، ظهرت أم لم تظهر فى متناول السلوك.
والجدل الحركى الولافى بين الظاهرة الوجودية الأعمق، إذ تتفجر فى علاقات وتركيبات جديدة، وبين التشكيل اللغوى السابق لها مباشرة، والعاجز عن استيعابها تماما، هو أصل تطور اللغة فى حالة إبداعها المتجدد، وهو ما يسمى فى أرقى صوره الجمالية “الشعر”، فالشعر ينشأ حين ترفض الظاهرة أن تظل كامنة فيما ليس لفظا متاحا للتواصل، وفى نفس الوقت حين ترفض أن تحشر نفسها فى تركيب لغوى جاهز (سابق الإعداد) فالشعر هو عملية إعادة تخليق الكيان اللغوى فى محاولة الوصول إلى أقرب ما يشير إلى الخبرة الوجودية المنبثقة، ومع النجاح النسبى لهذه العملية، تزداد اللغة ثراء، أى ينمو الكيان البشرى إذ يتحدد نوعيا، وهذا ما يعنيه بعض النقاد والشعراء من أن القصيدة تخلق الشاعر فى نفس الوقت الذى تتخلق فيه إذ يخلقها، وهذه العملية بالذات هى الإشارة الأساسية لعلاقة إبداع اللغة بتشكيل الوعى/ بكينونة الذات.
وهذه العلاقة المتبادلة بين اللغة والكلام، والمخلـِّـقة لما هو شعر (بالمعنى الوجودى الأعمق) هى بالغة الدلالة فى موقفنا هذا، إذ يصعب – وأحيانا يستحيل – أن تتوثق هذه العلاقة الضرورية لعملية إبداع أنفسنا باستمرار، ونحن نشكل وعينا بما هو نحن وبما يمكن أن نكون، إن تشكيل الوعى يلزمنا أن نـُـأصِّـل كياننا اللغوى بما تحمله حياتنا، وفى نفس الوقت أن نحرك هذا الكيان بما تسمح به مرونة حركتنا ومرتجع كلامنا، فإذا نحن تنازلنا عن جوهر جذورنا، أو تصلبنا فى قوالب ما نستورده من كلام لغات غيرنا مهما بلغوا – أو زعموا- من تقدم، فإننا نحرم أنفسنا من إنتاج أنفسنا بما يمكن أن نكونه، وهو ما تعد به لغتنا فينا (نحن).
(أنتهى المقتطف، ولم تنته الأطروحة)
وبعد
أكاد أشعر أنى مدين باعتذارٍ ما لزملائى الأطباء والمعالجين، إذ لا بد أن أشير إلى علاقة ذلك بالممارسة الفعلية، وهل يا ترى سوف نصل فى النهاية إلى مايسمى “اضطرابات اللغة”، قياسا على اضطرابات التفكير، أو اضطرابات الكلام؟ أعتقد أنه بالنسبة للغة بهذا المفهوم الكيانى التشكيلى الأشمل، قد لا نتمكن من مثل ذلك، اللهم إلا – كما أشرنا – حين نصل إلى التطبيق العملى بالغوص فى الإمراضية الأعمق لمرض الفصام بوجه خاص.
وسوف نرى معا إذا تحملتم معى
وإلى الغد
[1] – كانت هذه الفقرة فى أصل الأطروحة تبين موقفى النسبى من اعتبار الوعى وساد لسائر الوظائف النفسية، إلا أن هذا الموقف تغير بعد عشرين عاما، فرأيت من الامانة أن أثبت الفقرة الأولى كما هى، وفحرت أننى كنت تحفظت عليها استعدادا للتغيير، ونصها كالآتى: “…. ولكن بدايةَّ، لا بد أن نقر أن الوعى لازم كأرضية أساسية لكل نشاط عقلى آخر، وذلك باعتباره “الوساد” الذى تتم فيه العمليات العقلية الأكثر تحديدا، والتى تمثل الشكل بالنسبة لهذه الأرضية الأشمل المسماة بالوعى“، إلا أن هذا الفهم للوعى غير كاف لأن الوعى ليس مجرد أرضية منفصلة عن الشكل أو متبادلة معه بقدر ما هو حاضر فى كل هذه العمليات حضورا شاملا ومحددا فى آن، فالوعى: هو العملية الحيوية التى يتم من خلالها تشكيل منظومة عقلية فى تركيبها الكلى فى لحظة ما،