نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 7-5-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3901
رواية “الواقعة” (1)
ثلاثية المشى على الصراط “الجزء الأول”
الفصل الثالث “يمامتان”
هذا هو الجزء الثالث من فصل واحد، وطبعا أنصح بقراءة نشرتىْ أمس وأول أمس، ولا أطمع فى التوصية بقراءة الرواية برمتها، مع أننى شخصيا أعجبت بها وأنا اعود إليها، …
إشارة إلى نشرة أمس وأمس الأول
… اكتشف عبد السلام المشد أن موعده مع زميلته أمال لم يكن إلا من صنع خياله، لم يقر بشطحه أو جنونه، بل تمادى فى التحوصل فى كوكبه الجديد وزاد تحفظه وحذره من أى اقتراب بشرى خاصة من زوجته أو أى من معارفه.
……………………….
……………………….
الجزء الثالث
لم تزعجنى فكرة الجنون ذاتها بقدر ما أزعجنى أن يكون البواب أو أحد من الزملاء قد لاحظ على شيئا، بل أننى أعجبت بنفسى حين اكتشفت فيها هذه الموهبة العظمية على تحقيق الخيال بهذه الحنكة الواقعية، هكذا يمكنك أن تحصل على ما تشاء بمجرد التفكير، شئ مثل الجنة. تجلس على إحدى الأرائك، وتتمنى تفاحا فيأتى لك ما تتمنى على أصص مرصوصة، وإن كنت لا أعرف معنى كلمة أصص، وقد حاولت أن أجرب هذه المقدرة فى تجسيد الأفكار، فتمثلت آمال أمامى جالسة على مكتبها وأنا واقف بجوارها أناولها ملفا ونهداها تحت مستوى نظرى وقد برزا من أعلى فتحة الرداء، متلاصقان فى وداعة دافئة، لا يفصل بينهما إلا ذلك الشق الرائع، يمامتان بيضاوان تصدران هديلهما فى نغم هادئ، يختلط فيه الحزن بالغناء بالتسبيح ” اذكروا.. ربكو ” وأترك نهى ترضع من الثدى الأيمن واحتفظ لنفسى بالثدى الأيسر، يقطر الثدى فى فمى قطرات اللبن مثلما تضع اليمامة حبات القمح فى فم صغارها.
دخلتها من أوسع أبوابها يابن المشد.
كنت دائما أتساءل أين ستكون الجنة؟. قالوا فى مصر، وقالوا فى عدن، وقالوا فوق السماء السابعة، ولكنى الآن قد تيقنت أنها لن تكون إلا فى كوكبى الكونى الخاص.
لا مرض.. ولا جنون.. ولا يحزنون.
هى الجنة..
*****
شهر كامل وأنا أتنقل بين الجنة والمسرح ومؤخرة الصالة دون أن يلحظ أحد على شيئا، حتى زوجتى بدأت توارى نظراتها المتسائلة عما يجرى بعد أن اكتشفت أننى اضطرب لمجرد سؤالها عن حالى، لا أطيق أن يدخل أحد علىّ كوكبى حتى لو استأذن، بل إن مجرد الاستئذان يخل توازنى بضعة أيام، لم أجد صعوبة فى أن أخفى عليهم أى شئ، وكل شئ، لا أحد يهتم بأحد إلا بمقدار ما يسمح له هذا الأحد. عرفت مفاتيح أسرارى، وحذقت إدارة كونى الخاص بشفرة لا يعلمها إلا أنا.
حضرت آمال بعد إجازة الوضع أكثر نضرة وأكثر إشراقا، يبدو ان المرأة الخالقة بطبيعتها تتوازن مع خلاياها كلما أتمت صنع كائن بشرى جديد، صافحتها باليد حتى أتأكد أنها هى بلحمها ودمها وقد عرفت من ذلك اليوم أن الفرق بين الحور العين وبين مخلوقات هذه الأرض هو الملامسة الجسدية، ولم أخدع بعد ذلك ابدا وحتى أتأكد أن يدها فى يدى ضغطت عليها، لم تحاول هى أن تسحب يدها، حلوة دافئة ملمس البطاطا الساخنة أمام المدرسة الإبتدائى فى أيام الشتاء، اتسعت ابتسامتها وأحسست بقطرات اللبن تنساب من منقار ثديها وأنا فاتح فمى فى انتظار رحيق الحياة.
- كيف حالك يا أستاذ عبد السلام.
- الحمد لله، و كيف حال نهى.
- مثل القمر، هيا أحضـر لها العريس.
- هذا الجيل لم نعد نعرف طبيعته، لم يعد للأهل حل ولا ربط فى أمور أولادهم.
- لكنهم أسعد منا بلاشك.
- بل هناك دائما شك.
- أنت تتفلسف هذه الأيام يا أستاذ عبد السلام.
- أعيد النظر.
- لا تفكر كثيرا، انتهى عهد التفكير بالنسبة لنا، أنا لا أسمح لنفسى بالتفكير بعد أن كاد يطيح بى.
- لا تفكرين!!! إذن كيف تدبرين أمورك؟.
- أثق فى إحساسى. أنا أشعر بك يا أستاذ عبد السلام وكثيرا ما خايلتنى صورتك أثناء إجازتى، فقد تركتك وأنت على أبواب شئ ما، لون بشرتك، نظراتك، بريق عينيك، والآن تأكدت من أن شيئا ما يحدث فيك هذه الأيام، أكاد أحب هذا الشئ.. ولكنى أخاف منه.
وقعت الواقعة. خافضة رافعة، هذه المرأة لا تستأذن، سوف أجمع نفسى حالا بعد أن كدت أتبعثر.. لأهرب عند أول منحنى..
- من أدراكِ كل هذا؟.
- قلت لك كاد التفكير يطيح بى يوما و لكنى أنقذت نفسى باحترام إحساسى وتغليبه. خطر خطر. أعلم أنه كذلك. سبحان المنجى.
(استمرت فى حديثها رغم تحذيري)
- و لكن الله سلم، لم تغب عنى يا عبد السلام طوال هذه الفترة.
إلى أين تستدرجيننى يا أيتها المرأة؟. لا بد أن أبدأ بالهجوم الدفاعى.
- لقد حلمت بك أنا أيضا حلما رائعا.
امتلأ وجهها بالحياة أكثر، وتوهج بالدماء على ما فيه من نضارة.
- خيرا.. اللهم اجعله خيرا.
- أظن أن هذا ليس مكان تفسير الأحلام.
- ماذا تعنى؟.
- أحس بقرب شديد منك، وكنت أتمنى ألا تفتحى لى بابك، ولكنك أنت التى بدأت، وأقترح أن نقفل هذا الباب إلى غير رجعة.
- ولكنى لا أخاف لهذه الدرجة، ولا مفر من أن أحترم إحساسى وحدسى.
- ماذا تريدين منى؟.
- أقف بجوارك هذه الأيام.
- والناس؟.
- معنا.
- ماذا تعنين؟. عيون الناس لا ترحم.
- قلت لك أنا لا أخاف.
- نلتقى فى مكان أهدأ لنكمل الحديث.
- وهو كذلك…..
الحمد لله أنى لم أشعر بتلك المشاعر التى غمرتنى فى تجربة خيالى، أحسب أنى لو اطلقتها فسوف تحدث الكارثة بلا حساب، وحتى ثقة هذه المرأة بنفسها ليست كافية لطمأنتى.
فى ركن قصى من ذلك المطعم الخالى تقريبا، وجدتها قد سبقتنى إلى هناك. انطلق وجهها بالبشر حين رأتنى. لا أذكر أنى شعرت بمثل هذا الإحساس قبل الآن، لذلك لا أستطيع أن أسميه، ولا أحسب أنى سأشعر به بعد الآن.
تعجبت من نفسى فهذه أول مرة فى حياتى أخرج فيها مع امرأة غير زوجتى. لم أكن خجلا ولا مترددا ولا خائفا وكأنى ملك الحلبة منذ دهور، كنت دائما أحسد زملائى فى الجامعة على نجاحهم فى هذا العمل البطولى المجيد أو ما كنا نسميه حينذاك “تعليق النساء!” وها أنذا أفعلها وحدى. أمضى فى سبيلى إليها مثل السكين فى عجين مختمر، بعد أن بلغت هذا العمر ولى امرأة وثلاثة أولاد، فعلتها دون تردد، أين أصدقاء الجامعة ليرونى الآن؟. ما أفعله الآن شئ آخر لا يدخل تحت هذا البند، هو شئ أقرب للعبادة، ولكن ما أدرانى وأنا لم أعرف الشئ الأول حتى أسمح لنفسى بالمقارنة، لعل مثل هذه الأمور جميعا تبدأ بالفاتحة وتنتهى بالتحيات.
أقبلت عليها فى خشوع، لم أنظر إلى يمامتى اليسرى، لم أكن فى حاجة إلى قطراتها العذبة، كنت مرتويا من داخلى، مضت فترة صمت حلو تغلفها نظراتها الحانية من كل جانب، نصـل السكين يختبئى أغلبه داخل العجين، ولمس الفقاعات الناتجة عن الاختمار تدغدغ جانبيه، أخشى أن يذوب النصل من تأثير هذا الغاز السحرى، أسحبه بسرعة.
- كيف حال نهى؟.
- تزداد جمالا.
- يسعدها الله.
- وأنتَ؟. وأولادك؟.
(الحمد لله لم تسألنى عن ” المدام”).
- شكرا.
- لم نأت هنا لنتبادل المجاملات.
- ماذا تريدين منى؟.
- لا شئ على وجه التحديد، ولكنى أحس بك.
- إحساسك هذا يروينى، يكفينى، ليس عندى مطلب آخر.
- وحـُلمك؟.
- لم يكن حلما على وجه التحديد.
- حدسى قال هذا.
(عندك!! لابد من إضاءة النور الأحمر، صعب، ليكن).
- وماذا قال لك حدسك أيضا؟.
- أنك وحيد.
(يا نهار أسود كيف الهرب).
- وماذا أيضا؟.
- وخائف.
- إذا كنت تعرفين كل شئ، فلماذا الكلام؟.
- هل تصر على ما أنت فيه؟.
- أنا لا أملك من أمرى شيئا. هذا أمر يحكمه غيرى.
- من؟.
- لا أدرى، ولكنى أكاد أعرف أن غيرى هو أنا فى نفس الوقت، ولا أعرف من يدلنى علىّ.
- اسأل مجرب.
(مجرب؟. لا يمكن أن يكون هناك من مر بتجربتى، خل عنك، ولا تسمعى كلام القصص. مزيد من الهجوم واجب).
- وكيف حال زوجك؟.
- أحبه وأرعاه، وهو كذلك، وهو يعرف أنى معك الآن.
(مزيد من الرعب: الفضيحة على الأبواب).
- معى أنا شخصيا؟.
- ليس على وجه التحديد، ولكن مع زميل فى أزمة.
(من أنت يا آمال؟. من أى طينة أنت؟. ثقتك تكاد تفقدنى توازنى).
مضت فترة من الصمت انتهينا فيها من احتساء قدحى الشاى. استغرقت فى النظر إلى قدحها الفارغ، ثم قالت:
- زوجتك سيدة فاضلة ورائعة وتحبك، لماذا لا تحاول معها؟.
(خاب أملى فيك والحمد لله. حتى لو كنت صادقة فليس هذا هو، ما هذا؟).
- من أين لك بكل هذا اليقين، الناس تقرأ فنجان القهوة، وأنت تفتحين البخت وتقرئينه من قدح الشاى الممتلئ بعد؟!.
- قلت لك إن حدسى يهدينى.
- أنت ترعبينى دون أمل فى أحد
- قلت لك لا بد من البدء من جديد، ولا تسرع بقفل الأبواب.
أحسست بدوار عنيف يكاد يقسم رأسى إلى نصفين، أريد أن أذهب، أريد أن أذهب، لاحظت اضطرابى. لم تحاول تهدئتى، قالت مكملة:
- لن أتدخل فى حياتك بعد الآن، ولكنى سأكون دائما بجوارك.
أفقت من الدوار وشعرت برغبة عارمة فى قتل هذه المرأة حالا، إما القتل أو الاختفاء.
ناديت الجرسون بعد نظرة مستأذنه. دفعت الحساب. خرجنا صامتين كدت أن أتجنب مصافحتها خوفا من أن تنتقل إلى موجات فوق احتمالى، لم أستطع، يدى باردة كالثلج ويدها مثل قطعة الخشب. نجحت فى أن أقضى على أى نبض للحياة فى أىٍّ منا، استطعت أن أتهرب من نظراتها العاتية المتسامحة، نظرت إلى الأرض محاولا الغوص، لكنها لم تمهلنى وغاصت أعمق تخترقنى بلا هوادة.
انصرفت وكل همى أن يطلع على الصباح لأطلب نقلى إلى إدارة أخرى أو مصلحة أخرى. لا أستطيع – ولا أريد – أن أنظر فى وجهها بعد الآن.
كيف السبيل إلى التعتيم؟. إلى الإنكار؟. إلى النسيان؟.
******
وبعد
انتهى الفصل كاملا
لست متأكدا ماذا وصل من خلاله، لكننى أعرف كيف عرضت جانبا من صعوبات العلاقات البشرية بطريقة أفضل كثيرا مما أشرحها لطلبتى أو لزملائى بشكل تقليدى ممل
لا أعرف إن كانت التجربة قد نجحت أم لا، وهل يا ترى نكررها؟!
طبعا لا أعد بنشر الرواية مسلسلة هكذا، وإن كنت أتصور أن بعض الفصول مستقلة، بها رسالة عميقة لمن يهمه الأمر.
فهل يا ترى أحد من الزملاء يهمه الأمر فيشير بما يرى، ول يا ترى هناك من أثارة هذا الفصل فدعاه للرجوع إلى الرواية كاملة (2)، وهى كلها عن حكاية “عبد السلام المشد” أساسا؟
شكرا وعذرا
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” ثلاثية المشى على الصراط: الجزء الأول. الطبعة الثانية 2008 (الطبعة الأولى 1977) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.
[2] – وهى متاحة كما ذكرنا فى الهامش فى أول النشرة.