نشرة “الإنسان والتطور”
28-7-2010
السنة الثالثة
العدد: 1062
الحلقة: (76)
الفصل الثالث: “لعبة الحياة”
الغنيوة الأولانية
جـمل المحـامل (1)
مقدمة:
لم يبق فى هذه الورطة إلا قصيدتان، هذه القصيدة، وقصيدة “الخلاص”، وكلتاهما تغلب فيهما السيرة الذاتية عن ما سبق من قراءة عيون البشر، وربطها بتركيب الإنسان، ثم بالعلاج النفسى تفسيرا، أو تعسفا، الله أعلم، وأنتم أيضا.
بعد قرب الانتهاء من هذا العمل فكرت ألا أشرح هاتين القصيدتين أصلا لفرط ما جاء فيهما من حديث عن الذات، وأيضا لأننى تناولت ما وصلنى من حكايتى فى أكثر من عمل سابق، وبالذات فى “الترحالات الثلاثة” (الترحال الأول: الناس والطريق – الترحال الثانى: الموت والحنين – الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال) التى كانت جماعا بين أدب الرحلات والسيرة الذاتية.
خطر لى أن أعيد نشر القصيدتين دون تعليق.
إلا أن ما أكتبه حاليا كل ثلاثاء أكد لى مؤخرا كيف أن المعالج النفسى هو “نص بشرى” قابل للقراءة، وقادر على “إعادة التشكيل”، وبما أننى أدعى أن هذا العمل هو “فى فقه العلاقات البشرية” وهو الكتاب الثانى فى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” كما يقول العنوان، فإننى أتصور أن قراءة هذا المعالج (كاتب هذا الكلام) “نصا بشريا” هو ضمن ما نحاوله فى توصيل بعض أساسيات العلاج النفسى،
دعونا نقرأه معاً بالإضافة إلى ما سبق فى قصيدة “المعلم” (نشرة 21-4-2010 “المعلم 1 من كتير”)
فليتحمل الأصدقاء ما بقى منى، وأمرهم إلى الله
ولتصل الفائدة لمن يستطيع أن يستخلصها
النص:
(1)
= لأ.. عندك !!
– ليه ؟
= ممنوع ده !!
– إيه ؟
= ممنوع كـلــه،
– طب أعمل إيه ؟
= زى ما دايما كنت بتعمل.
قرنك جامد، خليك شايل.
– لأ مش لاعب.. جرى إيه ؟.. الله !!
القراءة:
الذى حدث:
كانت ثلة أخرى، غير جماعة العيون التى قرأناها سويا حتى الآن، كنا على العشاء فى مطعم بلدى جميل، وخيل لى أنه قد آن الأوان أن أشكو، أو أن أضعف، أو أن آخذ، أو أن أحكى، فوصلنى رفض طيب، لكنه رفض أنه “ليس هكذا”، أو “ليس الآن”، أو “ليس أنت”!! أو كل ذلك.
فجزعت!
القضية صعبة: ذلك أنه يبدو أن من قُدِّرَ له أن يقوم بدور من “يرى”، و”يعطى” و”يفتى”، وغير ذلك، يظل يمارس هذا الدور المميز، وكأنه دور قد اختاره فعلا ولو إلى أجل مسمى، وبرغم ما فى هذا الدور من ميزات لا تنكر، فإن التمادى فيه يفتح باب اعتماد الآخرين عليه، وتتفاقم التغذية المتبادلة تدعم نفس موقف كل الأطراف فتدور الدائرة فى نفس الاتجاه بلا نهاية، وأحيانا يبدو هذا الشخص مضحيا، ومعطاء وكلام من هذا، مما نصفق له كثيرا، ويفرح به صاحبه غالبا، فهو حتما مشارك فى هذا الاختيار، وفى هذا الاستمرار، كما أن هذا الاختيار نفسه، قد يكون ورطة تعويضية بشكل أو بآخر.
فى بداية افتتاحى لمسشفاى الخاص، زارنى أحد “الأجانب” الطيبين المختصين فى فرعى، وأخذت اشرح له كيف أن فكرة المجتمع العلاجى تختلف فى ثقافتنا عن ثقافة الغرب، وأننى أدير هذا المجتمع بطريقة كذا وكيت، وأنه لا توجد قواعد ثابتة لخطة علاج كل تشخيص، بل تتغير الخطة أولا بأول، وأحيانا أثناء اليوم الواحد لكل مريض حسب استجابته للخطوة السابقة وهكذا، سألنى هذا الرجل الطيب، ومن يقوم بهذا التعديل هكذا أولا بأول لكل هؤلاء المرضى، قلت له إننى أتولى قيادة الفريق، وأن كل زملائى وزميلاتى وكل العاملين يلتقطون ما نفعل، ونتعلم ونتشاور، ونحور، ونواصل، وقد التقط هذا الضيف أننى على الأقل فى تلك المرحلة الباكرة أقوم بكل العمل تقريبا، أو على الأقل أتولى مسئولية التخطيط اليومى المتجدد، ونبهنى مرة ثانية أن هذا مرهق، وأبلغنى رأيه أنه لا يمكن أن يستمر الحال هكذا، وأثناء مرورنا فى المستشفى، وعرضى له بعض خطوات التخطيط والتقييم والتغيير، قابلت زوجتى وكانت تعمل معنا عملا علاجيا محوريا فى المستشفى، وعرفته بها باعتبارها زوجتى وزميلتى، سألنى إن كانت تعمل معى كل هذا الوقت، فأجبت أن “نعم”، فسأل: وأنت تحملها مثل الآخرين هكذا طول الوقت، ولم أتبين عمق السؤال جيدا، إلا أننى أجبت أن “نعم”، وهنا قال بنظرة شفقة بها بعض الاعتراض الطيب، “ما هذا؟ ومن مَنْ تحصل أنت على احتياجاتك العاطفية آخر النهار؟”، ولم افهم جيدا هذه الطيبة، أو هذا الاعتراض، أو لعلى فهمته، ولا أذكر الآن (بعد أربعين عاما) ماذا كان ردى على هذا السؤال.
هذه هى حكاية ذاتيه تماما، لكنها تتعرض لمسألة شديدة الأهمية فى العلاج النفسى خاصة، وفى العلاج عامة، ذلك أنه:
إن لم يكن للمعالج مصدر رِِىّ عاطفى من خارج محيط مهنته، فإنه قد يمارس عطاء قهريا تعويضيا يبدو من الظاهر رائعا تماما، وهو ليس بالضرورة كذلك، الاحتمال الأخطر هو أنه قد يحصل على احتياجاته العاطفية من مرضاه، دون أن يدرى عادة، فيدفِّعهم ثمنا باهظا دون أن يدروا، ويتعطل العلاج، وقد يتأخر الفطام أو الاستقلال، وقد تنحرف المسيرة … الخ.
أظن أننى مازلت أعيش فى مأزق حمل الآخرين (جمل المحامل) بشكل مزمن، وقد حاولت أن أخفف منه أو أخرج بعيدا عنه بشكل متكرر، ونجحت أحيانا، وإن كنت أعتقد أننى لم أنجح تماما، وحتى الآن.
كنت كلما سنحت لى الفرصة أن أعلن حقى فى أن أتخلى عن حمل مجموعة الاصدقاء (وربما حمل مرضاى) ولو قليلا، أفاجأ بالصعوبة، والمقاومة والرفض كما جاء فى المتن.
(2)
= إعقل يابــا، قلنا ممنوع،
ممنوع تغضبْ، تزعلْ، تهمدْ، تسكتْ،
تحلمْ، تسرحْ….،
ممنوع كــله.
– ولإمتى يا نـــاس؟
=بكره انشـــالله
– بقى كدا !! بكره ؟
فيه إيه بكره؟
= بكره حانسمح لك تتكلمْ.
بكره حانسمح لك تتـألمْ.
بكره حاتجنى ثمرة كـدّكْ،
لما نكبر نبقى قدّكْ !!
– وانا مالى قدّّ، .. ومالى حدّ.
خايف لتْكونْ الحاره سدْْ.
وصلنى هذا الرفض منهم بقسوة لا أنكر أن فيها نوعا من الحب والتقدير، لكنها قسوة بلا شك، وتصورت أن مطلبى – إن كنت صادقا – كان شديد البساطة وهو “معاملة المثل”، لكن رفضهم تمتعى بهذا الحق كان حاسما وربما واقعيا، وربما كان يخفى شكهم أيضا أن هذه هى رغبتى الحقيقية “معاملة المثل” وأتذكر أن هذا الرفض الطيب كانوا يبررونه بأننى قطعت رحلة من النضج أسبق وأقدم وأعمق منهم، رحلة تمكننى من حمل هذه المسئولية، وحملهم.
ومادام الأمر كذلك، فإن رفضهم إعطائى حقى (المزعوم) فى معاملة المثل لم يكن رفضا مطلقا، وإنما – كما زعموا – كان رفضا مرحليا فى صورة التأجيل حتى يحققوا درجة من النضج تقارب ما حققت أنا – بزعمهم-، وساعتها يمكن تبادل الأدوار
” بكره حاتجنى ثمره كدّك
لما نكبر نبقى قدّك”
يلاحظ أن هذا الرفض لم يقتصر على رفض الضعف فحسب، وإنما على رفض كل “مطلب” من حيث المبدأ! “ممنوع كلّه”
ممنوع تغضبْ، تزعلْ، تهمدْ، تسكتْ، تحلمْ، تسرحْ
ويزداد حذرى من امتداد التأجيل إلى ما لانهاية ويتجدد الشك فى حكاية “سبق النضج” حين يتصور المعتَمِدْ أن المعتمد عليه قد وصل إلى ما يبرر هذا الاعتماد باعتباره الأكبر،
فيعلن صاحبنا اعترافه وأيضا أمنيته أنه ليس بهذه الدرجة من النضج، وأن حرمانه من حقه العادى، ومن الاعتراف بنقصه العادى، لابد وأن يزيد من وحدته حتى يبدو له الطريق مسدودا
وأنا مالى قدّ ومالى حدْ
خايف لتَكْون الحاره سدّ
وبعد
أتوقف هنا لأشير إلى خبرتين موازيتين، سابقة، ولاحقة
أولا: ورد فى ديوانى “سر اللعبة” فى قصيدة “جبل الرحمات” ما يلى:
نحتوا فى الصخر الهيكل:
فى داخله سرٌّ أكبر،
صنم عبدوه وما عرفوه،
قربان المعبد طفل،
يرنو من بعد،
لا يجرؤ أن يطلب،
أو يتململ،
……………
……………
نظر الطفل إلى كبد الحق
وتمنى الموت.
(4)
لكن النور يداعب بصره،
وحفيف الدفء يدغدغ جلده،
فيكاد يصيح النجده،
يتحرق أن يظهر ضعفه
لكن الرعب الهائل يكتم أنفاسه،
ويعوق خطاه،
……………
……………
أسمع خلف الصخر حفيفا لا يسمعه غيري
يحسبه الناس حديث القوة والجبروت
……………
……………
هل يمكن؟؟
هل يمكن أن نضعف دون مساس بكرامتنا؟
فلكم قاسينا من فرط الحرمان.. وفرط القوة،
ولكم طحنتنا الأيام،
والأعمى منا يحسب أنا نطويها طيا،
****
يمكن الرجوع إلى القصيدة كلها مع الشرح على المتن وهى بعنوان “جبل الرحمات” “الطفل العملاق الطيب“. (دراسة فى علم السيكوباثولوجى) من ص 521 إلى 613 (72 صفحة).
ثانياً: بعد اثنين وعشرين عاما من كتابة هذا المتن أحلت إلى المعاش فى أول أغسطس 1994، وأنا لا أزال أصعد وأحمل، أحمل وأصعد، وبعد ذلك بعامين لاح لى حقى فى الإنهاك، فكتبت قصيدة فى نفس معنى هذه النشرة تقريبا، وها هى ذى:
النورس العجوز ..
أنهكًنـِى التحليُق فى سمائِها اللعوب
أنهكنِى نجاحِىَ الدؤوب
وصخرتِى تودّع الصلابة
لكنّها لا تنكسر
أريدُ والدى
أريده يحول بينها وبينى
أرُيد سجَّانا يفك قيدى،
إذ يِِـحكم الأقفال لا أضيعُ حرّا
أريد أن أنام فى حضن التى ترانى:
كما أنا
فرخًا صغيراًً لائذاًً بعُشـَّـهِ
لا فى الأعالى حيث يحسَبُون
لم ينمُ بعدُ ريشُهُ فلم يَطِر أصلاًً
فكيف تبحثون عنه فى السماء أيها القساهْ
أريد مَنْ ترانى فاتحا منقارىَ الطرىّ
القُطُ من منقارها الحنانَ والأمانَ الحياهْ
أريد أنطوى تحت الجناح
أعبر الفيافى دون أن أحلّقْ
أريد خيزرانة
تفيقنى: أرى بها حدودي
أريد جلادا يحول دون قتلي
يأبى أضيعُ وسْـطَ وهم ذاتِـى
لا تضحكوا على طفلٍٍ غريرٍ صدّق الأكذوبة
لا تخدعوه تتركوهُُ فى سمائها،
والخيط فى أيديكمو كأنه المشانقُ الخفيّة.
لا تزعموا بأنه “أراد”
النورسُ الجسورُ لم يعد يدورْ.
قد أنهكتْـهُ لــُـعبة الصعودِ، والسرابُُ يسبقهْ،
يغمرُه الدُّوار، والفراغُ يخنُـقه
قد آن أن يحُطَّ فوق أرضكمْ-
لا ترجموهُ كهلا.
إن حطَّّ تدفنوه دون معـزَى،
تأكله الديدان وهو بعدُ حيّا.
لا لن يعودْ
أسنة الرماح مُشرعة
تملأ وجه الأرض والقلوب
لم يبق إلا أن يظلّ فوقَ الفوقِ ضائعا
وكلُّ ما يشُدّه يذوبْ
فتختفى السماءُ فى الضياءْ
ويختفى الضياءُ فى الغروبْ
يتوه فى دوائرِ الصباح والمساء
يواصلُ التحليقَ صاعداً معانِدَا
لكنّه: ما عاد يسـتطيع
ما عاد يستـطيع
الإسكندرية: 12/5/1996
ثم اليوم 27/7/2010
هل عاد يستطيع؟! هل عاد يستطيع؟!
وإلى الحلقة القادمة.