نشرة “الإنسان والتطور”
4-8-2010
السنة الثالثة
العدد: 1069
الحلقة: (77)
الفصل الثالث
الغنيوة الأولانية
جـمل المحـامل (2)
مقدمة:
انتهت الحلقة السابقة بهذا الوعد من الأصغر، بالالتفات إلى حق الأكبر فى الأخذ، خاصة حين يكبر من أخذوا منه إلى درجة تقارب ما وصل إليه، درجة يستطيعون معها أن يعطوه بدورهم.
بكره حاتجنى ثمرة كـدك،
لما نكبر نبقى قدك! !
كما ناقشت فى نفس الحلقة أن ما وصلنى منهم بدا لى تأجيلا خادعا يحرمنى من حق الضعف، وحق الخطأ، وحق الأخذ، كما نبهت أن حكاية “نبقى قدك” هذه إنما تشير إلى تصور أن مسار النضج هو مثل سنوات الدراسة، سنة أولى، سنة تانية، سنة ثالثة ..إلخ، وكان الرد فى الحلقة السابقة هو أنه ليس لىَ “قد” حتى يقاس عليه
– وانا مالى قد، .. ومالى حد.
خايف لاتكون الحاره سد.
وناقشت فى نفس الحلقة أن ما وصلنى هو تأجيل خادع قد يحرمنى من حق الضعف، وحق الخطأ، وحق الأخذ، كما نبهت أن حكاية أنه ليس لى مقاس (“قد”)، يقاس عليه،
ولكن ما باليد حيلة: فلتبدأ رحلة الصبر، أو تستمر رحلة الصبر، دون التنازل عن حقى الضعف، مع التنبيه الواضح أنها مسألة وقت
والصبر مرار!
وانا مش رافض أشرب كاسه.
على شرط يكون للكاس دا قرار.
واستحمل طول الليل غُــلبى،
على شرط الليل ييجى بعده نهار.
الفقرة التالية لا تحتاج إلى شرح خاص،
والصحرا بنزرع فيها الصبر،
تطرح حرمان.
نسقيه من طولة البال،
وبنحدى كلام ونقول موال:
”جمل المحامل برك شـمتت لـعادى فيه”
لكنهم ظلوا يصرون على أن الجمل لم يبرك، بل وأنه ليس من حقه أن يشكو أصلا، وهو يصر أنه ليس إلا شخصا عاديا كما شرحنا فى الحلقة السابقة. الطبيب النفسى هو مهنى عادى تماما، أى تقديس للمهنة، أو مبالغة فى القدرة، هو إعاقة له فى مهنته، ناقشنا من قبل مسالة نجومية الطبيب النفسى ودور الإعلام السلبى فيها وما يؤدى إليه ذلك من خلط الأدوار، وهذا لا يتم فقط على حساب موضوعية العلاج النفسى، وإنما أيضا على حساب فرص الطبيب النفسى أو المعالج النفسى فى نموه الشخصى، الشخص العادى هو الشخص العادى، وهو القادر على النمو العادى، مسألة التميز والعبقرية ليست غاية فى ذاتها، المتصوف الحقيقى هو الذى لا يعود اسمه كذلك، وبوذا نفسه بعد أن دار دورته لم يقبل أن يعترف أنه حقق رحلته إلا حين لم يصبح بوذا كما تصورها لنا سماته القدة وسيرة حياته الفريدة.
التأكيد على حق الطبيب النفسى، أو المعالج النفسى أن يكون شخصا عاديا يرد فى الفقرة التالية ردا على اعتراضهم على شكواه، أو على أنه برك تحت أحماله (وبالذات حمله لهؤلاء المعترضين المعتمدين) فهو يرد على اعتراضهم بالمطالبة بأبسط حقوقه العادية: “ماهو نفسه يعيش زى العايشين”
= جمل المحامل لابيشكى .. ولا بيقول آه
– ليه يعنى بقي؟
ما هو نفسه يعيش، زى العايشين؟
فيردون هم أكثر حدة، ورفضا:
= ما هو عايش اهه، إسم الله عليه.
بيقول ويعيد، ونـــرد عليه،
بـيشيل فى هموم، وفْ غلب الناس،
وحياخد إيه غير وجع الراس،
من زن الحاجة ومد إيديه؟
الذى حدث أثناء هذا اللقاء الذى أثار كل هذا الحوار وأخرج هذه القصيدة هو أن إحداهن قالت له بوضوح شديد أنهم لو استجابوا له، واحترموا حقه، فإنه لن يتذوقه ولن يستفيد منه كما يتصور هو ويطالب، وكانت من أقرب القريبات إليه، وكانت تعنى أنه لم يعتد الأخذ، ولم يستطعم حنانا حقيقيا من قبل، كما فعلوا هم من خلال اعتمادهم عليه، أو على غيره، وبالتالى فهم إذا قبلوه بينهم عاديا كواحد منهم، فهذا لن يرويه، فهو– ربما من إزمان الحرمان نتيجة لاستمرار نفس الدور على أساس الوهم أنه قد حقق درجة أعلى من النضج -لن يجدى معه عطاء، خاصة ممن تعودوا الأخذ منه، استشهدت هذه الصديقة بالمثل القائل: “إطعم مطعوم، ولا تطعم محروم”،
وأذكر أن هذا الاستشهاد قد لاح لى كأنه قرار جارح بأنى لا أستحق ما أطلب اصلا.
كنت قد ناقشت هذا المثل من قبل، -فى هذه النشرات أو غيرها- ونبهت إلى احتمال أن يكون له معنى آخر غير القسوة التى تبدو فى ظاهره، وهو أن المحروم جدا، إذا ما بدأ حرمانه من فترة باكرة، واستمر حتى أصبح هو “نوع وجوده”، فإنه يحتاج إلى نوع آخر من العطاء، غير مجرد إشباع الجوع، وقد شبهت قسوة الحرمان التى يترتب عليها هذا العجز عن الارتواء، بالوجود المثقوب، الذى كلما ملأته بما يستحق أن يُملأ به يتسرب ما وضعته فيه من “ثقب الحرمان المزمن”، وبالتالى، مرة أخرى يصيح مثل من يشرب الماء المالح/ كلما شرب ازداد عطشا.
ثرت أكثر على هذا الموقف، وأن يكون حرمانى من دور “الشخص العادى”، هو مبرر لمزيد من الحرمان، وأن أستمر فى حملهم (جمل المحامل) بقية عمرى، وهذا ما جاء فى المتن فى الفقرة التالية تفسيرا للمثل المستشهد به،
هل معنى أن تمتنع عن إطعام المحروم الذى تتصور أنه لا يشبع أن يصبح حرمانه قدرا أبديا بلا ذنب جناه، إلا أنه أجل حقه حتى يكبر من حوله بما يسمح له أن يأخذ بدوره؟
هذا ما جاء –احتجاجا- فى الفقرة التالية:
-كده برضه ياناس؟!!
بعد دا كله ؟ الحق عليه؟!!
بقى دا اسمه كلام تتمثلوا بيه؟!!
قال إيه ، قال إيه:
= إيش يفهم فى الغنوة الأطرش؟
إيش يفهم فى الصورة الأعمي؟
إيش يفهم محروم من يومه،
فى الحـنـية والملاغية؟
”إطعم مطعوم، يــستطعـم
أما المحروم، يــستحمل”
وصلنى أن هذا الاستحمال هو وجه آخر للصبر الحتمى المفروض والتأجيل إلى مالا أعرف..متى..
إلى متى؟
أذكر أننى طرحت عليهم هذا السؤال بشكل مباشر أو غير مباشر، فجاءنى الرد، ربما من نفس التى استشهدتْ بالمثل السالف الذكر “أنه: كل آت قريب (ما خلاص هانت)، أو لعلها أشارت: “سوف نقول لك، حين نرى الوقت مناسبا” أو شىء من هذا القبيل، وأنها تساءلت: لماذا الاستعجال (ما تكركبهاش على مهلك، وسعيده وحابقى اندهلك)،
وينتبه إلى أن التأجيل والاستحمال يفرضان عليه فرضا وبشكل دائم:
- يستحمل تانى يا ناس؟ دا حرام!
=ما خلاص هانت.
-لأ ما هانتشى .. إيش عرفنى؟
مش يمكن لعبة “إستني” تفضل على طول؟
على ما يحصلنى الدور حاخلص.
القلب مقدد.
والجرح ممدد.
فى الأرض الشوك،
والميه عصير صبار.
=ما تكركبهاش; على مهلك
و”سعيده” وحابــقى اندهلك!!!
وإلى الحلقة القادمة والأخيرة فى هذه القصيدة الشخصية المزعجة (لى حتى الآن)،
كنت أحسب أنها لم تعد كذلك!!!
وإلى الحلقة الأخيرة الأسبوع القادم.